لا يعتبر ترامب أكبر كابوس تمر به أمريكا فحسب بل هو أيضا إفراز للأوضاع التي أوجدها كل من أوباما وكلينتون وبلير وكاميرون.
خلال ثمانية وأربعين ساعة فقط ستسقط مفاتيح أقوى عربة في العالم في حضن شخص اسمه دونالد جيه ترامب، ذلك السائق الذي تنتابه حالة “الهيجان أثناء القيادة”. سينطلق بالعربة في أوعر الطرق على الإطلاق –قضية الشرق الأوسط، ومشكلة الاحتباس الحراري والعلاقة مع الصين – والأدهى والأمر أنه لا يعرف إلى أين يتجه.
وبينما يقترب موعد العرض الافتتاحي لهذه الرحلة بمسالكها الوعرة، شرع كثير من الناس في إلقاء نظرة على مسيرة باراك أوباما، هي مزيج من مشاعر الأسى والحنين. ولكن فيم الأسى وإلام الحنين.
إذا ما أردنا أن نصدر حكماً على أوباما من خلال ما خرج من فيه من كلام، فسنخلص إلى أن فترة حكمه أثبتت، وبطرق متعددة، أنها كانت عبارة عن خداع في غاية القسوة. ومصدر القسوة أن ملايين البشر سمحوا لأنفسهم بتعليق الآمال على الأحلام التي مناهم بها. ومصدر الخداع هو أنه هو بنفسه الذي حدد لنفسه مهمة التحول إلى شيء لا يقل عن شخصية تحمل التغيير وتبشر بما هو أفضل بعد ثمانية أعوام من حكم جورج دبليو بوش. نعم، لقد كان هو الذي وعد بأن “يبرأ جراح هذه الأمة وأن يصلح أحوال العالم.”
لم يضع أحد هذه الكلمات في فيه، بل هو الذي نطق بها. إنه هو الذي وعد العالم الإسلامي بمرحلة جديدة وعهد جديد عندما خاطب المسلمين من وسط القاهرة، وهو الذي وعد بأن يقف في وجه المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية.
إلا أن الأيام كشفت عن أن أوباما لم يكن فاعلا في التغيير وإنما كان هو المفعول به. نعم هو الذي طرأ عليه التحول. إذ أنه حينما ووجه بالمتنمرين الإقليميين اختار أن يتنحى جانبا، وأن يراقب الحدث عن كثب من موقع جديد غير مسبوق في تاريخ السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية – من الهامش.
وهذا ما حصل فعلا مع كل من بنجامين نتنياهو وعبد الفتاح السيسي وفلاديمير بوتين وبشار الأسد. لم تكن سوريا القضية التي “يلعنك الناس لو تدخلت فيها” وهي نفسها القضية التي “يلعنك الناس لو لم تتدخل فيها”. لو أن أوباما تعلم شيئا من دروس عقدين من المغامرات العسكرية في الشرق الأوسط لفعل كل ما وسعه لضمان ألا تتدخل لا روسيا ولا إيران. كانت لديه الأدوات الكافية لمنع كليهما من التدخل، ولكنه لم يلجأ إلى استخدامها إطلاقا.
لو أن أوباما كان ببساطة غير فاعل في سوريا، لكان ذلك أمرا معتبرا، ولكن المشكلة تكمن في أنه تدخل بفعالية لمنع الثوار من الحصول على الأسلحة التي كانوا في أمس الحاجة إليها لوقف البراميل المتفجرة من السقوط فوق رؤوس الناس في المستشفيات والأسواق والمدارس.
مشروع التركة
بادر أوباما بالاشتغال في بلورة تركته بدءا بالمقابلة التي أجراها معه جيفري غولدبيرغ في صحيفة ذي أتلانتيك، والتي خلصت إلى الحكم التالي: “وحتى جورج دبليو بوش كان مقامرا، ولم يكن مخادعا. سوف يقسو عليه الناس ويذكرونه بسوء بسبب الأشياء التي فعلها في الشرق الأوسط. أما باراك أوباما فهو يقامر بأن الناس سيذكرونه بخير بسبب الأشياء التي لم يفعلها”.
كان هذا ما نشر في شهر إبريل من العام الماضي. في ديسمبر سقطت حلب الشرقية، وكم تبدو هذه الكلمات مختلفة في مدلولها حين تقرأ الآن.
كان أوباما هو الرئيس الذي انهالت عليه الأوسمة حتى قبل أن يبدأ عمله، والذي لم يفلح بتاتاً في استحقاق ما كان يكال له من مديح. قد يبدو ذلك شديد القسوة على الرجل الذي منح ملايين الأمريكيين تأميناً صحياً والذي كانت لديه الإجابة الصحيحة على “الركود العظيم”.
إلا أن أول رئيس أسود في تاريخ الولايات المتحدة كان غير ذي صلة بحياة الأمريكيين السود تماماً كما كانت أول رئيسة وزراء بريطانية غير ذات صلة بالأنثويات البريطانيات.
السبب والأثر
إن تركة أوباما الحقيقية هي دونالد ترامب. فأصحاب التوجه “الوسطي” مثل أوباما وبيل كلينتون وطوني بلير ودافيد كاميرون لا يجوز لهم التنصل من مسؤوليتهم في خلق الظروف التي انتعش وترعرع فيها الشعبويون اليمينيون أو حتى من يمكن أن يوصفوا بالفاشيين.
إن القومية التي تتفشى في أوصال الديمقراطية اللبرالية ما هي إلا نتيجة مباشرة لفشل النظام، سواء تجلى ذلك الفشل في احتضان تراجع الدولة والاسترخاء إزاء انعدام المساواة الجارف والاستخفاف به أو في إيجاد أنظمة اقتصادية تعولم انعدام الأمن وتؤمم الدين.
كلينتون وبوش وأوباما كلهم كانوا مجرد أدوار عابرة في نفس الدراما – إنها دراما سقوط الزعامة الغربية. نعم، ما من شك في أن قوى خارجية معينة كانت تمارس دوراً، ولكننا نشهد، بالدرجة الأولى، انهيارا داخليا، وتهافتا في الأركان التي طالما دعمت الهيمنة الغربية في عالم ما بعد الحرب الباردة: الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وحلف الناتو. ليس مايكل مور الوحيد الذي يخطط لخوض مائة يوم من المقاومة، فهذا ما تنوي فعله السي آي إيه أيضا. وهذا ما يحيل تمرد ترامب إلى حدث مثير للاهتمام. رغماً عن كل النوايا الحسنة، لقد كان لرئاسة أوباما دورها في هذا الانهيار.
والآن ننتقل إلى الممثل الآخر في هذه الدراما، إنه دونالد ترامب.
انتقال إلى اليمين
فيما يتعلق بإسرائيل، عين ترامب دافيد فريدمان سفيرا، وهو الذي يعرف بدعمه للمستوطنات الإسرائيلية، وبدفاعه عن ضم أراضي الضفة الغربية، وبالتشكيك في مواطنة المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل. ونزولا عن نصيحة صهره جاريد كوشنر عارض ترامب قرار مجلس الأمن الدولي الخاص بالمستوطنات وعارض مؤتمر باريس للسلام.
تمثل هذه المواقف تموضعا على يمين بنجامين نتنياهو، في نفس الأرضية التي يقف عليها نافتالي بينيت، زعيم حزب البيت اليهودي اليميني، الذي يعتقد بأن الرئيس الجديد للولايات المتحدة سوف يدفن الدولة الفلسطينية، حيث أن تلك هي النتيجة الحتمية لرغبة ترامب المعلنة في نقل سفارة الولايات المتحدة من تل أبيب إلى القدس.
هذا يعني أن بإمكان إسرائيل في عهد ترامب أن تتوقع رؤية الضوء الأخضر الذي يسمح لها بضم المناطق جيم في الضفة الغربية والاستمرار في العمل على تطهير الدولة اليهودية من المواطنين غير اليهود. وهكذا تعود تقليعة التطهير العرقي من جديد بعد أن سُمح للأسد وللإيرانيين بالإفلات من المساءلة والعقاب على الجرائم التي ارتكبوها في داريا وفي حلب. لابد أن إسرائيل تشعر الآن بأنه بات لديها الحرية المطلقة في أن تفعل نفس الشيء.
كل واحدة من الإجراءات المشار إليها أعلاه كفيلة وحدها إذا ما اتخذت بأن تفجر انتفاضة ثالثة.
منحة للقاعدة
أما فيما يتعلق بسوريا، فجواب ترامب يتمثل في المناطق الأمنية، والتي ينوي حمل دول الخليج على دفع تكاليفها. بينما تعلق أوباما بخطاب تدور مفرداته حول قضايا حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية، لا يجد ترامب حرجا في الصدع جهارا نهارا بدعمه للطواغيت من أمثال السيسي. لن تكتفي إدارة ترامب بدعم الطواغيت بل سوف تستمع إليهم أيضا.
والدليل على ذلك موجود في شهادة ريكس تيلرسون، الرئيس السابق لشركة إكسون موبيل ومرشح ترامب لمنصب وزير الخارجية. لقد حذر تيلرسون في ملاحظاته الافتتاحية بأن الولايات المتحدة الأمريكية ستكون صريحة وصادقة تجاه التعامل مع الإسلام الراديكالي، وأنه حالما تتم هزيمة الدولة الإسلامية فسوف تنتقل الولايات المتحدة للتعامل مع المجموعات الإسلامية “الراديكالية” الأخرى والتي ذكر من ضمنها كلاً من القاعدة وجماعة الإخوان المسلمين.
إضافة جماعة الإخوان المسلمين إلى قائمة تيلرسون لقوى الإسلام الراديكالي لم تكن زلة لسان من قبله. فقد كان وليد فارس، المسيحي الماروني اللبناني ومستشار ترامب لشؤون الشرق الأوسط، قد قال بأن الرئيس الجديد ينوي حظر الجماعة.
لفارس هذا تاريخ أسود، وهو الذي دعم المليشيات اللبنانية اليمينية المتطرفة التي ارتكبت جرائم حرب أثناء الحرب الأهلية في لبنان. وحينما انضم إلى حملة ترامب الانتخابية صدر بحقه إعلان إدانة وتنديد من قبل اللجنة العربية الأمريكية ضد التمييز.
يوجد أمام الكونغرس الآن مشروع قانون لحظر الجماعة باسم قانون تصنيف جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية، وهو القانون الذي رفض أوباما التوقيع عليه. إذا ما وقع ترامب على القانون فإنه بذلك سيدفع بملايين الإسلاميين ممن يشكلون أكبر حزب سياسي له وجود في معظم البلدان العربية إلى حضن القاعدة، وبذلك سيمنح ترامب القاعدة أعظم أعطية كانت تحلم بها، تفوق بمراحل ما قدمه لها السيسي من خلال انقلابه العسكري الذي نجم عنه تحول أعداد كبيرة من الشباب المحبط إلى صفوفها.
حلقة الوصل مع دبي
جاء مشروع القانون الذي ينظر فيه الكونغرس نتيجة لضغط سياسي مكثف مارسته دولة الإمارات العربية المتحدة، والتي ماتزال مسكونة لدرجة الهوس بجماعة الإخوان المسلمين. يشكل صلة الوصل بين ترامب والإمارات رجل الأعمال حسين سجواني، رئيس شركة داماك للعقارات في دبي، والتي أبرمت مع ترامب صفقتين لإنشاء منتجعين للجولف في دبي. وكان ترامب في أول مؤتمر صحفي له بعد انتخابه قد قال إنه تلقى عرضاً بملياري دولار أمريكي في دبي من قبل “رجل مدهش جدا جدا، رجل أعمال عظيم في قطاع الاستثمارات العقارية في الشرق الأوسط.” ثم قال إنه رفض العرض، ثم قال مرارا وتكرارا إنه لم يكن مضطراً لذلك.
وبناء عليه فإنه ليس صحيحا الزعم بأن ترامب يدخل البيت الأبيض ككم غير معروف، بل إن بطاقاته في الشرق الأوسط قد دمغت مقدما من قبل إسرائيل ومن قبل روسيا ومن قبل دولة الإمارات العربية المتحدة ومن قبل مصر – من قبل جميع الأنظمة التي تقاتل في سبيل قمع وإخماد القوى التي على يديها ستنظم الانتخابات الحرة والنزيهة وعلى يديها ستأتي الديمقراطية وستتحقق الشفافية في جميع حكومات الشرق الأوسط.
ليس بالإنجاز البسيط أن يتمكن رئيس منتخب من جعل المجموعة الخامسة من مسلسل “هاوس أوف كاردز” تبدو بلا حاجة. هذا ما أنجزه فعلا هذا الترامب. اربطوا الأحزمة جيدا، فسوف تكون الرحلة مليئة بالمطبات.