في المقال السابق -قبل أن نبدأ… نظرة على التجارب- تكلمنا عن مرحلة الانتقال الديمقراطي وأهميتها وألقينا نظرة على تجربة تشيلي، ورأينا كيف أنها تشبه كثيرا التجربة التي نعيشها – ومرحلة الانتقال الديمقراطي مرحلة تعيشها مصر منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير إلى الآن قد تطول هذه المرحلة إذا ما اعترضها عارض كعارض الانقلاب العسكري فيقطع الطريق ويبطئ الخطى؛ إلا أن الثورات في الغالب تؤتي ثمارها، وأول ثمار ثورتنا أنها أحدثت هزة في البنية المجتمعية ولاسيما في أوساط الشباب.
فرفض الظلم والمطالبة بالحرية والأمل في دولة مؤسسات يضبط عملها الشفافية ويراقبها الشعب.
والوقوف في وجه حكم العسكر والانخراط في العمل المدني سواء التوعوي أو السياسي أو الحقوقي هي من أهم ثمار يناير.
لكن علينا أن نكون واضحين مع أنفسنا ونعلم أن الطريق إلى الديمقراطية المنشودة والدولة المأمولة ليس سهلا ويحتاج إلى جهد وتضحية.
فالديمقراطية هي أسلوب للحكم ووسيلة للتعامل، تقوم على مجموعة من المبادئ أساسها احترام إرادة الأكثرية، وصيانة حقوق الأقلية من خلال مؤسسات تمثيلية دستورية تدعم الحقوق والحريات و التعبير عن الرأي، وحق الاعتقاد والتنظيم الحزبي والمهني، وحق المشاركة السياسة في إدارة الشؤون العامة، وهي تجسيد عملي لصورة من صور الوعي البشري، تحمل في داخلها قيمًا إنسانية عليا (الحرية، العدالة، والمساواة).
وإن كان مفهوم الديمقراطية هذا ينسحب على الديمقراطية الراسخة، فإن فترات ما بعد الثورات تحتاج إلى عاملين أساسيين حتى تصل لذلك المفهوم؛ أولهما التوعية وثانيهما التشاركية، وليس تحكيم إرادة الأكثرية – وسنفرد لذلك مقالًا – لكن للوصول إلى الديمقراطية المنشودة فإنه علينا أن نزيل بعض معوقات التي ستظهر في الطريق والتي هي بالفعل موجودة بفعل الدكتاتورية التي عشناها منذ حكم العسكر في انقلابهم على التجربة الديمقراطية الحزبية في عام 1952 وحتى يومنا هذا مرورا بانقلاب 2013 الذي أراد وأد محاولة الانتقال إلى الديمقراطية ولن يفلح بإذن الله، ثم بإرادة الشعب الذي ذاق طعم الحرية ولن يرضى عنها بديل.
وعلينا في البداية أن نضع أهدافنا واضحة أمام أعيننا كي نستطيع أن نحققها.
فالتحول الديمقراطي له ثلاثة أهداف أساسية أولها الحفاظ على الأمن السياسي، وعلى وحدة أراضي الوطن، وثانيًا دفعُ العملية التنموية عن طريق تمهيد سياسي وقانوني لهذه التنمية، وأخيرا زيادة الوعي على المستوى الفردي، بمعنى نقل الفرد من النظرة الفردية أو الحزبية أو القبلية أو الطائفية الضيقة إلى مفهوم المواطنة الجامعة.
ولتحقيق هذه الأهداف، لا بد من تجاوز جملة من المعوقات ونحقق شروط و بإنجازها تقف حائلا أمام التحول الديمقراطي.
أولها المعوقات السياسية والمتمثلة في النخب والتي يجب أن تكون على مستوى الحدث وتناضل بتجرد من أجل التحول الديمقراطي والحفاظ على نزاهة الانتخابات والاستماتة في عدم تزويرها لإنتاج برلمان قوي يكون على مستوى المسؤولية ليمهد الطريق بتشريعاته للمرحلة الجديدة.
ولكي تكون النخبة كذلك عليها أن تمارس الديمقراطية الداخلية في أحزابها وحركاتها ومنظماتها.
ومن العوامل المهمة أيضا وجود مؤسسات رقابية قوية مصونة تعمل على الحفاظ على المكتسبات هي عامل مهم في اجتياز المعوقات السياسية تعمل من خلال الشفافية وحرية الرأي والتعبير على صيانة أدوات المرحلة وتقف حائلًا مع باقي العوامل من محاولات الانقلاب على التجربة الديمقراطية الوليدة سواء كان هذا الانقلاب عسكري أو انقلاب سياسي أو دستوري.
هذه العوامل والشروط تمهد لاجتياز المعوقات الاقتصادية التي تقف حائلًا أمام تحقيق التحول الديمقراطي، فالاقتصاد عامل داعم من الناحية الشعبية وبمثابة سد منيع ضد المؤامرات الخارجية من الدول الدكتاتورية التي لا ترضى لدول الجوار أن تعيش تحولا ديمقراطيا، ومن تلك المعوقات غياب قاعدة اقتصادية حقيقية مبنية على التنافس الحر و التبعية الاقتصادية لدول المنح والقرض والذي يؤدي إلى النفوذ و يؤثر في تشكيل القرار السياسي.
وكخطر دول المنح تكمن هيمنة الشركات المتعددة الجنسيات على الإنتاج المحلي.
ومن المعوقات أيضا إفلاس الدول وارتفاع معدلات التضخم والفقر وانتشار البطالة، وكذا غياب المساواة والتوزيع العادل للثروات وانخفاض مستويات الاستثمار والمشاريع الاقتصادية، هذه المعوقات الاقتصادية تصب بشكل أو بأخر على المعوقات الاجتماعية والثقافية، فالمعوقات السياسية تجعل الفرد ينظر إلى مصالحه الشخصية أو الحزبية أو القبلية دون الاكتراث بالمصلحة العامة، وغالبا ما يرجع ذلك إلى نقص الوعي الديمقراطي.
أما المعوقات الاقتصادية تدفع بالأفراد نحو الاهتمامات الضيقة، التي تنحصر في لقمة العيش، وتصرف المواطن عن حقوقه المقدسة، كالانتخاب والمراقبة وحرية الرأي وهو ما يعني في النهاية أن جهود التحول الديمقراطي لن تلقى حاضنة شعبية.
لذا فالناظر إلى تكتيك النظام الانقلابي في مصر الآن يجده يعمل جهده على وأد أي ومحاولة تحوّل ديمقراطي أو حتى انتقال.
راجع العوامل ستجد الوضع السياسي في مصر يسيطر عليه ساسة ضعفاء وأحزاب مهترأة وضد الديمقراطية، وبرلمان ضعيف عمله الوحيد هو البصم على قرارات النظام، مع قتل لحرية الرأي من خلال قوانين تشرعن ذلك وإهدار لسيادة الدولة باستماتة من خلال التنازل عن الأراضي أو المقدرات الاقتصادية وإشغال الشعب بلقمة العيش برفع الأسعار وزيادة التضخم.
والحل هو العمل الشبابي التوعوي حتى ولو بشكل فردي وتأسيس مجتمع مدني موازي لذلك الذي ارتضاه النظام لتشكيل النواة الصلبة لعملية التحول الديمقراطي المأمول… وللحديث بقية.