حتى في تلك الدول المتقدمة الديموقراطية والتي تتمتع شعوبها وكتابها وصحافتها وإعلامها بحرية تعبير لا حدود لها، حتى في تلك البلدان فإن الصحافة والإعلام مسيسين إلى حد بعيد، لنجدها تبث تلك التصريحات للمسؤولين وصناع القرار لديها في أوقات دقيقة للغاية ومدروسة، بحيث تخدم تلك التصريحات الأهداف والتكتيكات السياسية، تعج أدراج مكاتب المسؤولين هناك بأسرار غالبها قد يكون مختلق لا تظهر للعلن إلا في أوقات بعينها، وهذا ليس عيبا بما أنه يصب في مصلحة شعوبهم في النهاية.
هناك أمثلة كثيرة جدا على ذلك، لكن هنا سنهتم بتصريح نتياهو الأخير حول السر العسكري المتعلق بمصر والذي كشف عنه مؤخرا، فقد تزايدت تلك الأخبار والتحليلات عن عمليات الجيش المصري في سيناء، والتي بدأت في الدقائق الأولى لاستلام عبد الفتاح السيسي للسلطة في مصر.
فالنظام المصري الحالي بكل ما أوتي من قوة ومن خلال أبواقه الإعلامية سوق رواية محاربة الإرهاب هناك في سيناء ومقاتلة تنظيم داعش، الذي ظهر فجأة في سيناء بعد استلام السيسي للسلطة، حيث بدأ الجيش المصري بتهجير السكان وإخلائهم بالقوة عن الشريط الحدودي مع الكيان الصهيوني، وبدأ بتفجير المنازل والأحياء التاريخية هناك، لقد دمر كل القرى المقامة على الشريط الحدودي بالكامل، وهناك صورا واضحة لﻷقمار الصناعية تبين هذا الفعل بوضوح تام، لقد قمع بوحشية بالغة كل أولئك الذين حاولوا مقاومة عمليات التهديم والنسف للمنازل والأحياء والقرى، حيث أظهر إعلامة قتلى السناويين المقاومين على أنهم قتلى من داعش.
لقد ضحى النظام المصري بعشرات الجنود والضباط في سبيل تسويق روايته من خلال تفجير الحافلات العسكرية وتصفية الجنود والضباط الرافضين لتلك العمليات وإظهار أنهم تعرضوا لعمليات إنتقامية من تنظيم داعش وولاية سيناء هناك، اليوم بات من الصعب السيطرة على تلك التقارير الصحفية الإستقصائية التي تقوم بها وكالات أنباء مختلفة حول حقيقة ما يحدث في سيناء، وهو إخلاء الشريط الحدودي المصري مع الكيان الصهيوني لتعزيز أمن الأخير، الأمر الذي عجز عن تحقيقه مبارك، حيث كان يجد معارضة شديدة من داخل نظامة ومجلس الشعب، في حين حاول نظام مبارك جر القرى السيناوية للإنفجار من خلال التهميش لخلق حالة من الفوضى توفر مبررات للجيش المصري ﻹخلاء الحدود مع الكيان لكنه كان لا ينفك يفشل.
لكن يبدو أن نجاح السيسي في تحقيق الحلم الصهيوني هذا، أسال لعابه ﻷجل تأكيد ولائه المطلق لدولة الكيان للبدء بتنفيذ ما عجز عنه حتى السادات صانع السلام مع الكيان، وهو مشروع جر مياه النيل إلى الكيان الصهيوني، ذاك المشروع الذي أطلق عليه قبلا “قناة النيل الثانية” في عهد السادات والذي كلف الشعب المصري نحو أربعة مليارات دولار نهاية سبعينيات القرن الفائت، حيث اصطدم المشروع في النهاية وسط صحراء سيناء بارتفاع منسوب الأراضي بين مئة متر وثلاثمئة متر الأمر الذي حال بين استكماله، لقد سوق السادات وقتها أن المشروع المائي “قناة النيل الثانية” سيخدم قرى سيناء لكنه عندما اصطدم المشروع بنمسوب الأراضي وحال بين إتمامه كي يصل إلى الكيان الصهيوني توقف التنفيذ وذهبت أحلام السيناويين بالتنمية أدراج الرياح رغم أن القناة وصلت وسط الصحراء.
بالعودة مجددا إلى مشروع الجيش المصري وهو إخلاء الشريط الحدودي مع الكيان، فإن تلك التقارير الصحفية الإستقصائية وتلك الأخبار التي باتت تبث عبر وكالات إعلامية عربية وعالمية مرموقة، فإن ذلك بات يحرج السيسي ونظامه وأبواقه الإعلامية حيث بات ذلك يتسرب إلى الشارع المصري، مع زيادة كبيرة في الروايات التي باتت تصل من السيناويين المنكوبين وكيف أن منازلا هدمت فوق رؤوس ساكنيها على الشريط الحدودي حين رفضوا تركها، وكيف أن أحياء وقرى كاملة باتت عدم بعد عين دون أدنى مبرر عدا كونها مقامة على الشريط الحدودي مع الكيان، في حين تركت آلاف الأسر السيناوية في العراء وقتل الكثير من أرباب تلك الأسر ومعيليهم حين انتفضوا وسوق أنهم قتلى من الإرهابيين.
حقيقة لم يعد ذلك يخفى على أحد اليوم، إلا على أولئك الذين تعودوا حجب الشمس بأكف أيدهم، ومن آخر تلك المحاولات التي تهدف إلى ردم الحقيقة وطليها على المواطن المصري والتي باتت قديمة صراحة، هي خروج المسؤولين الصهاينة للتفوه بتصريحات غريبة وكثير ما يراها البعض تظهر في غير مكانها، إلا أنها مدروسة بعناية بالغة رغم عدم جدواها اليوم.
تحدث مؤخرا بنيامين نتنياهو رئيس وزراء الكيان في مؤتمر لمناصري حزب الليكود الذي يتزعمه، تحدث عن حادث أمني تسبب به تنظيم داعش قبل سنوات وبالتحديد في آب/أغسطس 2011 حيث قام أفراد من التنظيم بالتسلل من سيناء والدخول إلى الطريق رقم 12 على الحدود المصرية مع إيلات الإسرائيلية، حيث استهدفت المجموعة طائرة عسكرية اسرائيلية قبل أن يتم الإشتباك معها والقضاء على كافة أفرادها جميعا.
لقد ذكرت ذلك صحيفة “معاريف” من خلال خبيرها الأمني “يوسي ميلمان” حيث قصد نتنياهو حسب ميلمان من خلال حديثه رغبته الشديدة في الإسراع بتنفيذ الجدار الأمني على حدود مصر.
وأكد ميلمان أن التعاون الأمني بين مصر وإسرائيل في أعلى مستوياته حاليا، إلا أنه من الواجب على بعض هذه المستويات من التعاون أن تجد طريقها إلى اﻹعلام الدولي حسب الحاجة لها”، بينما نجد أنه وفي ذات الوقت نجد أن وكالة “بلومبيرغ” اﻹخبارية ذكرت عن مصدر إسرائيلي كبير بأن هناك طائرات إسرائيلية تتعاون مع الجيش المصري من حين ﻵخر في شن هجمات على أوكار اﻹرهابيين في سيناء.
هذه التصريحات تؤثر بشكل بالغ على المصرين بشكل عام، والمصريين من مناصري السيسي والعسكر بشكل خاص، فلربما أنها موجهة بشكل مباشر تجاه الرأي العام المصري بالذات، فثقافة السمع هناك من الأهمية بمكان في توجيه الرأي العام كباقي بلاد العرب، لذلك لم نستغرب مثلا ذاك التصريح الغريب الذي لفظ على لسان بعض مشايخ مصر حين يقول أن إسرائيل لم تعد عدونا الأول فهي تحارب الإرهاب معنا.
لكن ربما أن الوقت لن يطول كثيرا حتى يكتشف المصري العادي حقيقة ما يحدث هناك ﻷهله في سيناء ومدى الخدمة الذي يقدمها رئيسه السيسي لكيان الصهاينة على حسابهم وحساب الأجيال القادمة وكم سيؤثر ذلك على المنطقة بأسرها.