وضع قرار البرلمان الأوروبي تجميد مفاوضات العضوية مع تركيا العلاقة بين الجانبين على نار حامية، إذ عكس القرار مدى تأزم العلاقة بينهما، بعدما ظلت أوروبا طوال العقود الماضية لا تقول نعم كاملة لعضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي وفي الوقت نفسه لا تقول لا نهائية، وهو ما جعل مسار العلاقة بينهما محفوفا بالصعوبات والمخاطر، في مرحلة تحس تركيا بالقوة وبتعدد الخيارات، مقابل بروز تصدعات كبيرة في بنية الاتحاد الأوروبي، ولاسيما بعد خروج بريطانيا منه والأزمات الاقتصادية التي تضرب العديد من دوله.
أبعاد القرار
ومع أن قرار البرلمان الأوروبي تجميد مفاوضات عضوية تركيا غير ملزم للاتحاد إلا أنه دفع بالرئيس رجب طيب أردوغان إلى رفع العصا الغليظة في وجه الاتحاد الأوروبي بالقول إن القرار لا قيمة له، وهو عندما قال ذلك يدرك أن تركيا اليوم ليست تركيا الماضي عندما كانت ضعيفة تنشد القروض على أبواب الاتحاد الأوروبي والتظاهرات تجوب مدنها مطالبة بالعضوية الأوروبية، كما أن الاتحاد الأوروبي اليوم لم يعد كما كان في السابق نموذجا للتطور الحضاري والاقتصادي والديمقراطي، فالأزمات تنخر في بنية الاتحاد، ومسيرته السياسية تتجه نحو المزيد من اليمين والتطرف، ولاسيما في ظل تعاظم نزعة الإسلاموفوبيا.
ثمة مسوغات ساقها البرلمان الأوروبي لتبرير قراره، وهي مسوغات تتعلق بقانون الطوارئ الذي اتخذته الحكومة التركية عقب الانقلاب العسكري الفاشل في يوليو/تموز الماضي، إذ يرى الاتحاد الأوروبي أن هذا القانون أصبح مدخلا لاستمرار الحكومة التركية في حملة الاعتقالات ضد المعارضين السياسيين والنواب الكرد والتضييق على حرية الصحافة والإعلام وصولا إلى رؤية الاتحاد بأن أردوغان يسعى إلى تأسيس دولة شمولية من خلال الانتقال من النظام البرلماني إلى نظام رئاسي مطلق الصلاحيات.
لكن القراءة التركية للقرار الأوروبي مختلفة، وهي قراءة تتجاوز سياسة الابتزاز الأوروبية إلى عقدة هذه السياسة في النظر إلى تركيا كدولة إسلامية مختلفة الهوية عن البنية الحضارية للاتحاد الأوروبي وميثاقه، وإلا كيف يمكن تفسير قبول الاتحاد عضوية دول مثل بلغاريا ورومانيا وغيرها من الدول التي هي أقل تطورا من تركيا على كافة المستويات، وفي العمق تعتقد تركيا أن الاتحاد الأوروبي لا يتحدث عن السبب الحقيقي لرفض عضويتها، وعليه ينتهج سياسة الهروب إلى الأمام وفرض المزيد من الشروط رغم أن تركيا في المرحلة الماضية أنجزت العديد من الإصلاحات الأوروبية وفقا لمعايير كوبنهاغن، وعلى هذا الأساس تم فتح العديد من الفصول المتعلقة بمحادثات العضوية.
في الواقع، من الواضح أن قناعة النخب التركية السابقة بأن مسألة تحقيق المعايير والقيم الأوروبية هي مسألة وقت لا أكثر لم تعد قائمة، وأن الاختلاف الحضاري هو العقدة الحقيقية في عدم قبول تركيا في عضوية الاتحاد الأوروبي إلى اليوم. وعليه، فإن السؤال الأساسي المتعلق بقضية الهوية والعضوية يبقى مطروحا على الجانبين. على الجانب التركي، هل نجحت تركيا في تحقيق معادلة التوفيق بين الهوية الإسلامية المتأصلة في البلاد والعلمانية الأوروبية؟ وعلى الجانب الأوروبي، هل الاتحاد الأوروبي بقبوله دولة إسلامية في عضويته تنازل عن بنود ميثاقه التي تقر بانسجام دوله حضاريا وثقافيا واجتماعيا (دينيا)؟ لعل غياب الإجابة عن السؤالين، يفسر مآل العلاقة التركية الأوروبية على ما وصلت إليه اليوم من تأزم.
تداعيات التصعيد
بانتظار قرار المجلس الأوروبي خلال قمته المنتظرة منتصف الشهر الجاري، ثمة حالة شد وجذب بين أنقرة وبروكسل، حيث يمتلك كل طرف أوراقا قوية في المعركة الجارية، فثمة قناعة في تركيا بأن الاتحاد الأوروبي يمارس المزيد من الضغوط ولا يريد إنهاء العلاقة مع تركيا، وهو يهدف من وراء هذه الضغوط تحقيق جملة من الأهداف، لعل أهمها، إلغاء تركيا العمل بقانون الطوارئ ووقف حملات الاعتقال، واستئناف العملية السلمية مع حزب العمال الكردستاني وعدم العودة إلى العمل بعقوبة الإعدام، وتقديم تنازلات في المشكلة القبرصية والأهم تكثيف الجهود للحد من تدفق اللاجئين إلى أوروبا، والكف عن التلويح بخيارات التوجه نحو روسيا ومنظمة شنغهاي.
فيما ترى تركيا أن الشروط السابقة هي أوراق قوة لها وليست أسباب ضعف، وأن على الاتحاد الأوروبي أن يراجع سياسته بخصوص هذه القضايا، إذ ترى أن السياسة الأوروبية بخصوص هذه القضايا تدخل في إطار الابتزاز السياسي، كما ترى في الدعم الأوروبي لحزب العمال الكردستاني واحتضان إنصار وفتح الأبواب والمحافل والمؤسسات الأوروبية أمامه، سياسة تتناقض مع تصنيف الاتحاد للحزب بالإرهاب، وبالتالي فإن مثل هذه السياسة لن تؤدي إلا إلى تصعيد العنف وإن لم يكن ذلك فإنها تأتي تعبيرا عن خطط سرية لتقسيم تركيا. كما أنه لا يمكن النظر إلى قانون الطوارئ بطريقة مزدوجة، ففي الوقت الذي تشرع بعض الدول الأوروبية لنفسها مثل هذا القانون تحرم تركيا منها رغم أنها شهدت انقلابا عسكريا فاشلا قبل أشهر كاد أن يؤدي بالبلاد إلى المجهول.
كذلك فإن قضية اللاجئين يجب أن تحسب لتركيا لا عليها، فقد كانت جهودها لافتة في الحد من تدفق هؤلاء اللاجئين إلى أوروبا ورغم كل ذلك فإن الاتحاد الأوروبي لا ينفذ التزاماته المالية وفقا للاتفاق الذي تم التوقيع عليه بين الجانبين، كما أن الاتحاد الأوروبي يتهرب من تنفيذ وعده بمنح تأشيرة شينغن للمواطنين الأتراك. ولعل كل ما سبق يزيد من الغضب التركي وتصاعد حدة الانتقادات اللاذعة للرئيس أردوغان ضد السياسات الأوروبية. فيما الأوروبيون يرون أن سياستهم التدخلية السابقة هي حق لهم لطالما أن تركيا تريد الانضمام إلى عضوية اتحادهم، وبما يشكل هذا الاتحاد من قيم ومعايير في مجال حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية. لكن تركيا ترى أنها دولة قوية لا يمكن التعامل معها إلا باحترام، خاصة وأن أوروبا بحاجة لها في العديد من القضايا الحيوية حتى لو لم توافق على عضوية تركيا.
خيارات تركيا
في الواقع ، لم تعد تركيا حزب العدالة والتنمية مغرمة بالنموذج الأوروبي كما كان الحال في عهد الحكومات السابقة التي وصفت بالعلمانية، وفي العمق يدرك الجميع أن قضية انضمام تركيا إلى العضوية الأوروبية تتجاوز قضية تحقيق المعايير الأوروبية إلى قضية الهوية الحضارية، إذ مثلما هو مستحيل بالنسبة للأتراك إثبات انتماء بلادهم حضاريا وجغرافيا لأوروبا، كذلك فإن المسألة صعبة وإشكالية بالنسبة لأوروبا نفسها في قبول العضوية الكاملة لدولة لا تنتمي إلى اتحادهم حضاريا وجغرافيا.
وعليه ومع اتضاح هذا البعد بشكل جلي، فإن السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه هنا يتعلق بخيارات تركيا. ومع أنه من المبكر الحديث عن أن تركيا ستنفك عن أوروبا كمنظومة أمنية أطلسية واقتصادية تحقق لها مزايا أمنية واقتصادية وسياسية إلا أن تصريحات الرئيس أردوغان وحديثه عن إجراء استفتاء بهذا الخصوص في العام المقبل، توحي بأن تركيا قد تقدم على خطوات في هذا الاتجاه، ولعل ما قد يدفعها إلى ذلك هو نفاد صبرها من المماطلة الأوروبية، وإحساسها بأنه بات لها مشروعها الخاص خارج الاتحاد الأوروبي في وقت لم تعد تجد في هذا الاتحاد الحلم الذي راودها طويلا ولاسيما في ظل ارتفاع حدة العداء للإسلام الذي ترى تركيا حزب العدالة والتنمية أنه بات أحد مكونات السياسة التركية في الداخل والخارج بعد أن أقصي هذا البعد من السياسة التركية طوال العقود الماضية.
في واقع الحال ومع تأزم العلاقة التركية مع أوروبا، ترى أنقرة نفسها أمام جملة من الخيارات للتعويض عن مسعى الانضمام إلى العضوية الأوروبية، لعل من أهمها:
1- خيار الانضمام إلى منظمة شانغهاي للتعاون عوضا عن السوق الأوروبية التي لم تعد مغرية كما هو حال المشاريع الموعودة مع دول منظمة شانغهاي.
2- خيار إقامة شراكة اقتصادية قوية مع روسيا حيث مشاريع نقل الغاز الروسي، فضلا عن أهمية بعد العلاقات الاقتصادية والتجارية والسياسية بينهما في ظل الاندفاع الروسي اتجاه منطقة الشرق الأوسط ولاسيما الأزمة السورية، مقابل انكفاء الغرب بشقيه الأميركي والأوروبي.
3 – خيار التكامل والاندماج مع محيطها الإسلامي ولاسيما مع دول الخليج العربي حيث أهمية المصالح الاقتصادية المشتركة.
4- انتهاج سياسة مفتوحة تجاه مختلف الدوائر الجغرافية على شكل براغماتية سياسية تحددها المصالح المتبادلة.
دون شك، فإن مثل هذه الخيارات التركية المفتوحة لها علاقة بالموقع الجغرافي لتركيا وحجم المصالح المترتبة على هذا الموقع، وهو ما يجعل من السياسة التركية المقبلة تجاه الاتحاد الأوروبي خلال المرحلة المقبلة تأخذ طابع الندية وليس الخضوع للشروط الأوروبية مع أن ما سبق قد يتطلب منها المزج بين التصعيد الكلامي والتهدئة معا أملا في موقف أوروبي مغاير لما سبق.
لكن من الواضح أن العلاقة بين الجانبين دخلت مرحلة جديدة تحمل معها طابع إعادة تموضع العلاقة وربما الدخول في مرحلة الانفكاك التدريجي خاصة إذا تنبى المجلس السياسي الأوروبي قرار البرلمان الأوروبي، وهو بالتأكيد ما سيدفع بالرئيس أردوغان إلى المضي في الدعوة إلى استفتاء على الخيار الأوروبي لتركيا حتى لو كانت النتيجة وضع نهاية لهذا الخيار الصعب إن لم نقل المستحيل.