لا أدري علام هاج الإعلام المصري على الفيلم الوثائقي الذي قدمته قناة الجزيرة عن العساكر، وعن التعامل معهم في الثكنات، وداخل وحدات الجيش، وكأن ما حكاه الفيلم لا يحدث، أو لا يراه الناس، بغض النظر عن التقييم للعمل فنيا.
والعجيب أن كل مؤيدي العسكر عندما يستدعى أحد أبنائهم للتجنيد الإجباري، أول رد فعل له هو أن يبحث عن واسطة تعفي ابنه من التجنيد، فإذا فشل، بحث عن واسطة تجعل ابنه لا يهان كبقية أبناء الناس، أو أن يكون في مكان فيه راحة وعدم مهانة جسدية أو لفظية.
والمتأمل للسينما المصرية في عهد حكم العسكر منذ عبد الناصر وحتى الآن، سيجد السينما قد تناولت العساكر والجيش والشرطة، وسوف أقصر مقالي عن الفترة الناصرية فقط؛ لأن الأفلام التي قدمت في عهد السادات سوف يرد الناصريون عليها بأنها كانت انتقاما من عهد عبد الناصر، وهي ما أرخت سينمائيا بفترة (الكرنكيات) نسبة لفيلم (الكرنك) الذي فضح نظام عبد الناصر؛ ولذا سأتناول فقط بعض الأفلام التي تناولت الجيش والعسكر في عهد عبد الناصر.
كل الأجيال الحية الآن في مصر -إلا القليل منها- شاهد أفلام الفنان الراحل إسماعيل ياسين، الذي قدم مجموعة أفلام تتناول الحياة العسكرية، وكلها في فترة الخمسينيات أثناء حكم العسكر، فمثلا: فيلم (إسماعيل ياسين في الجيش) و(في البوليس) سنة 1955م، و(في الأسطول) سنة 1959م، إضافة لأفلام أخرى: (إسماعيل ياسين بوليس سري)، يقوم فيها بطل هذه الأفلام “إسماعيل ياسين” بدور العسكري، سواء جيش أو بوليس أو بحرية، أو جوية، والشخصية الأشهر بجانبه هي الشاويش عطية (رياض القصبجي)، يتندر الناس ضحكا عليهما العسكري والشاويش، وكلها أفلام تدور على السخرية من غبائهما، وهو تناول للعسكرية المصرية، ومع ذلك لم يتهم أحد السينما المصرية بأنها تتطاول على جيش مصر العظيم، وفي الوقت ذاته، تبين هذه الأفلام النظرة الدونية من العسكر الكبار لما دون الضباط، فالسخرية تصب على العسكري والشاويش، لكنها لا تقترب من شخصية الضابط، فإذا علمنا أن مؤلف فيلم (إسماعيل ياسين في الجيش) هو عسكري، وهو الصاغ عبد المنعم السباعي، فهو يعبر عن نظرته ونظرة زملائه نحو الفئة الدنيا من العسكر، لكنك لا تجد أبدا في كل هذه الأفلام اقترابا من شخصية الضابط فما فوق، فمساحة الغباء والجبن للعسكري والشاويش، لكن الذكاء والفطنة للضابط فما فوق فقط.
أما الفيلم الذي تناول حياة عسكري المراسلة، وما يتعرض له من مهانة بصورة تشابه الحقيقة، وتحول هذا العسكري إلى مجرم يبغض كل مظاهر العسكر، فهو فيلم (سلطان) بطولة الفنان الراحل فريد شوقي، ورشدي أباظة، وهو يحكي قصة طفل يتيم يعامله زوج أمه بقسوة، ويخدم في بيت لواء جيش، وابن اللواء يقوم بسرقة محتويات من البيت، وينسبها للطفل اليتيم الذي يعمل خادما في بيت اللواء، ثم يكبر، فيدخل الجيش، فيكون عسكري مراسلة في بيت اللواء، ويكون ابن اللواء ضابط شرطة، وكان زوج أم (سلطان) غفيرا في الداخلية، وكثيرا ما يجلده لما يتهم به ظلما من ابن اللواء، وكلما جلده لمعت أزرار البالطو الميري، ما ربط ذهنه بعداء لكل زرار ميري يراه فيما بعد، ويصيبه بحالة من الهياج العصبي، ثم يتحول (سلطان) لمجرم يقتل في العسكر، ويتحول لرئيس عصابة، ربما كان هذا الفيلم من النوادر التي تناولت حياة عسكري المراسلة وما يتعرض له من قهر، وإذلال داخل بيوت قيادات الجيش.
والمفاجأة في الفيلم أن كاتب السيناريو هو الأستاذ عبد الحي أديب، والد الإعلامي السيساوي المؤيد للعسكر، عمرو أديب، ولا أدري بماذا سيصف ما كتبه والده الراحل عن العسكر، وهو لا يختلف عن فيلم قناة الجزيرة؟!!!
أما الرواية التي تحولت لفيلم فيما بعد، والتي أوضحت مدى استبداد العسكر في السجون، وفي بيوتهم، فهي رواية (ليل وقضبان) للأديب الكبير الراحل نجيب الكيلاني، التي نال بها جائزة الدولة في عهد عبد الناصر؛ لأنه أوهمهم أنه يقصد المرحلة الملكية، وهو يشبه تماما ما فعله الأديب الشاعر هاشم الرفاعي، في قصيدته: (رسالة في ليلة التنفيذ)، التي أوهمهم أنه يهاجم فيها نظام عبد الكريم قاسم في العراق على ما فعله بمعارضيه، ولكن أحداثها كلها تتكلم عن شهداء الإخوان المسلمين في سجن عبد الناصر. وكذلك رواية (ليل وقضبان)، أحداثها توحي أنها قصة عاشها المؤلف في السجن الحربي في عهد عبد الناصر، وقد تم تمثيلها في فيلم يحمل العنوان ذاته، جسدها: محمود مرسي، ومحمود ياسين، وسميرة أحمد، وتدور قصته حول مدير سجن يقوم بقهر المساجين، وتكرهه زوجته لقسوته، ثم يذهب أحد المسجونين لإصلاح الكهرباء التي تعطلت في بيت مدير السجن، فتتطور العلاقة بين زوجة المدير والسجين، وكذلك حكى الفيلم كيف تنافق القيادة الصغرى في العسكرية القيادات الكبرى، بادعاء رؤية أحلام ورؤى لهم تبين أنهم على خير، ثم تنتهي الرواية والفيلم باكتشاف أحد العسكر الصغار للعلاقة بين زوجة مدير السجن والمسجون، فيدبر المدير مكيدة لقتله عن طريق كلاب السجن، بتهمة الهرب، كذبا.
هذه بعض الأفلام التي تناولت صورة العسكر في السينما المصرية، في عهد عبد الناصر فقط. أما في عهد السادات ومبارك فهي أكثر من ذلك، وهي مادة دسمة مهمة تحتاج لفيلم آخر وثائقي يتناولها.