(1)
المنطوق أعلاه من وحى الأجواء المحيطة بمؤتمر فتح السابع الذى يعقد اليوم فى رام الله، وسيل التوقعات والتكهنات التى تناولته فى الساحة الفلسطينية طوال الأسابيع الماضية. ذلك أن تلك التعليقات أجمعت على أن الصراع الداخلى سيكون المهيمن على جدول أعمال المؤتمر، وأن البند الأول (غير المعلن) هو تعزيز سلطة الرئيس محمود عباس، من خلال تطهير الحركة من المناوئين الذين يوصفون بأنهم «مجنحون». وفى الوقت نفسه، ترتيب أمر خلافته بعد ما بلغ من العمر ٨١ عاما، فضلا عن أن مدة ولايته انتهت كما انتهى أجل التمديد الذى قرره له مجلس الجامعة العربية بعد ذلك. فى هذا الإطار ثمة عناوين كثيرة قد لا تخلو من مفاجآت، منها ما يتعلق باحتمالات اختيار القيادى الأسير مروان البرغوثى نائبا للرئيس، والاتجاه إلى تصعيد أناس لعضوية اللجنة المركزية للحركة وآخرين للمجلس الثورى. ذلك فضلا عن حسم الموقف إزاء القيادى المفصول محمد دحلان الذى دخل فى صدام معلن مع أبومازن تبادل فيه الطرفان العديد من الاتهامات الجارحة. إلى غير ذلك من إجراءات وخطوات توزيع المقاعد وتصفية الحسابات التى اتخذت خلال الآونة الأخيرة وكان محورها إقصاء معارضى أبومازن ونقاده، من المسئولين فى السلطة والقيادين البارزين فى الحركة.
الشاهد أن المؤتمر حين ينشغل بهذه الأمور الداخلية ويقدمها على التحديات المتنامية التى تواجه القضية ــ خصوصا فى ظل الإدارة الأمريكية الجديدة ــ فإنه يكاد يستنسخ الحالة العربية التى خيم عليها الانكفاء على الداخل مما أدى إلى تراجع أولوية القضية الفلسطينية فى أغلب الأقطار. وهو ما يجسد المنعطف الخطر الذى أشرت إليه، إذ فى ظله باتت السلطة مشغولة بتصفية حساباتها مثل ما صارت الدول العربية مشغولة بمشكلاتها.
(٢)
فى الفضاء الفلسطينى مبادرة مهمة لتصويب المسار واستدعاء القضية إلى الواجهة، أطلقها أخيرا الدكتور رمضان عبدالله الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامى فى برنامج من عشر نقاط. إلا أننا وجدنا أن أجواء مؤتمر فتح مهجوسة بالصراع الداخلى حول الأشخاص وليس حول السياسات أو البرامج. ذلك أن المتصارعين داخل الحركة الأم ليسوا مختلفين حول ركائز السياسة المتبعة، بدءا من الالتزام باتفاقيات أوسلو وانتهاء بالتنسيق الأمنى، مرورا بمختلف العناوين التى تفرغ حركة التحرير من مضمونها، وتحول «فتح» إلى حزب متشبث بالسلطة وحريص على الاستئثار بها بأى ثمن.
فى رأى الباحث والناشط الفلسطينى عبدالقادر ياسين أن حركة فتح كانت بمثابة جبهة جذبت المناضلين الفلسطينيين بمختلف اتجاهاتهم فى وجود القياديين أبوجهاد وأبوإياد إلى جانب ياسر عرفات. وبعد اغتيال الرجلين ضاقت الدائرة نسبيا وأصبح أبوعمار زعيما للتنظيم، والقائد الذى حرص على احتواء الجميع بمن فيهم مخالفوه. وبعد اختفاء الزعيم وتولى أبومازن قيادة الحركة انفرط عقد فتح وصارت «فتحات» متعددة وليس تنظيما واحدا قائدا. وعلى العكس من أبوعمار فإن أبومازن لجأ إلى التخلص من مخالفيه وليس إلى احتوائهم الأمر الذى سحب الكثير من وزن الحركة ودورها وأدى إلى إضعاف أبومازن كثيرا، حتى خشى من إجراء الانتخابات البلدية وكان قضاؤه وراء تأجيلها. وفى ضعفه فإنه صار يعول كثيرا على دور الأجهزة الأمنية الأمر الذى حولها إلى أجهزة تقمع المخالفين والمقاومين إلى جانب تنسيقها مع الإسرائيليين (أعلن أبومازن أن أجهزته أحبطت ٢٠٠ عملية ضد الاحتلال كما أنها قامت بتفتيش حقائب التلاميذ الغاضبين وصادرت من بعضهم سكاكين كانوا يحملونها). وإلى جانب ذلك فإنه حول المناضلين إلى موظفين، حين وزعهم على مواقع السلطة واستمالتهم بالرواتب والميزات (القيادى الراحل هانى الحسينى ذكر أن ٨٥٪ من موظفى السلطة هم من مناضلى فتح السابقين).
(٣)
الموقف العربى إزاء ما يجرى فى الساحة الفلسطينية بدا محيرا. إذ فى حين تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية فى أغلب الأقطار العربية، وهبت رياح التطبيع على بعض العواصم، وعلت أصوات تحدثت عن محور للاعتدال تشارك فيه إسرائيل بل وقرأنا لمن دعا صراحة إلى التحالف معها بزعم أنها «تغيرت»، فى هذه الأجواء لمسنا حضورا عربيا لافتا للانتباه. تمثل ذلك الحضور فى ظهور ما سمى بالرباعية العربية (مصر والأردن والسعودية والإمارات العربية) وهى الدول التى صنفت فى السابق ضمن محور الاعتدال العربى. هذه المجموعة بدأت تتحرك خارج الجامعة العربية وبمعزل عن السلطة الفلسطينية. وتسربت أنباء عن مشروع أو أفكار قدمتها الرباعية لأبومازن بخصوص ترتيب البيت الفلسطينى الذى قصد به رأب التصدعات التى أصابت حركة فتح، وفى المقدمة منها ما تعلق بفصل بعض القيادات، وعلى رأسهم السيد محمد دحلان.
لم تكن تلك هى الملاحظة الوحيدة لأن الانقسام بين حركتى فتح وحماس، الذى هو الأعمق والأخطر فى الساحة الفلسطينية وقع منذ عشر سنوات، دون أن يُبذَل جهد عربى حقيقى لاحتوائه بما يعيد الوفاق والوئام إلى الساحة الفلسطينية، صحيح أن اجتماعات عربية عقدت لأجل ذلك. أسفرت عن اتفاقات أبرمت، إلا أننا لم نلمس ضغوطا عربية جادة لإنهاء الانقسام، بل تسربت شائعات كثيرة بخصوص إدامته وتكريسه.
جهد الرباعية العربية لم يرحب به أبومازن، واعتبره «تدخلا فجا» فى الشأن الفلسطينى الداخلى. رغم أن التمديد له فى رئاسة السلطة بعد انتهاء مدة ولايته تم بواسطة الجامعة العربية، التى كان تدخلها فى الموضوع أهم وأبعد أثرا. وإلى جانب تصريحاته التى تناقلتها وكالات الأنباء عن رفض ضغوط الرباعية العربية. فإنه قام بجولة زار فيها قطر وتركيا والتقى فى الأولى الشيخ تميم أمير قطر وخالد مشعل رئيس المكتب السياسى لحركة حماس، وفى الثانية التقى الرئيس رجب طيب أردوغان. وكانت رسالة الجولة مفهومة إذ بدت محاولة للاحتماء بأجواء المحاور القائمة فى مواجهة الضغوط التى يتعرض لها من جانب الرباعية المذكورة.
(٤)
المعلن فى الوقت الراهن أن ثمة دعوة مصرية لاستضافة حوار فلسطينى جديد تدعى إليه مختلف الفصائل، الهدف منه توحيد الصف وتعزيز الشراكة الوطنية وترتيب الشروع فى الانتخابات الرئاسية والتشريعية. وهذه الدعوة سبقتها خطوات موحية بالانفراج تمثلت فيما يلى: استقبال مصر لوفد من غزة ضم عددا من الشخصيات المستقلة مع آخرين من أنصار محمد دحلان وعقد هؤلاء مؤتمرا فى «العين السخنة» تركز حول «الإصلاح» المطلوب فى الساحة الفلسطينية ــ استقبلت مصر أيضا وفدا آخر من رجال الأعمال والاقتصاديين فى غزة لتنشيط العلاقة مع مصر. فيما عرف بمؤتمر «عين السخنة ٢» ــ لاحقا استقبلت مصر وفدا إعلاميا فلسطينيا ضم ٣٠ شخصا قاموا بزيارة المؤسسات الإعلامية المصرية، لتوثيق العلاقات فى ذلك المجال ــ بعد ذلك وجهت مصر الدعوة إلى قيادة حركة الجهاد الإسلامى التى شكلت وفدا برئاسة الأمين العام، عقد عدة اجتماعات مع مسئولى الملف الفلسطينى فىمصر، خرج منها الوفد بانطباعات ايجابية ــ بالتوازى مع كل ذلك فإن مصر خففت من إجراءات حصار غزة بما أوحى باحتمال التدرج فى فتح معبر رفح.
هذه التحركات كلها أعطت انطباعا قويا بأن ثمة تحسنا فى علاقة القاهرة بالقطاع من ناحية، كما أنها جاءت إعلانا عن قيادة الوفد المصرى لمهمة الرباعية العربية. كما أنها كانت بمثابة إعلان عن مضى القاهرة ومعها الرباعية فى رعاية ما سمى بتيار «الإصلاح» الفلسطينى المناوئ لأبومازن، وهو الذى بات يضم أنصار دحلان بالدرجة الأولى إضافة إلى عدد من المستقلين والمفصولين الذين أقصاهم أبومازن لسبب أو آخر.
الملاحظة الأخرى المهمة أن حركة حماس التى تدير القطاع فى غزة لم تستثن من الدعوة فى المؤتمر العام المزمع عقده فى القاهرة لمختلف الفصائل، وفيما فهمت فإن عقدة علاقتها التاريخية مع جماعة الإخوان لاتزال محل بحث. وذلك ملف أكثر حساسية مما يثار حول علاقة حماس بما يجرى فى سيناء، الذى كان فيه من الضجيج الإعلامى بأكثر مما فيه من معطيات الواقع.
ليس خافيا أن الكثير من الخطوات القادمة سوف تتأثر بنتائج مؤتمر فتح السابع الذى يخشى أن يجرى فيه إشهار الانقسام وتوجيه ضربة قاضية لأكبر الحركات الوطنية الفلسطينية، ولو أن الأمر وقف عند ذلك الحد لهان ولأمكن احتماله، لأن التداعيات المترتبة على ذلك تفتح الأبواب واسعة لشرور كثيرة تهدد مسار ومصير القضية، ذلك أن خلفيات تلك التحركات ومراميها ليست معلومة بعد، فضلا عن أن سجلات الأطراف التى تدير المشهد لا تطمئن كثيرا. ومجرد ارتياح إسرائيل وسعادتها بما يجرى لابد أن يرفع لدينا منسوب القلق ومؤشراته. وهى محقة فى الاطمئنان والبهجة، لأن الموقف من الاحتلال ظل العنوان الغائب فى تلك الصراعات والتجاذبات حتى الآن.