وفقا للرواية التاريخية الأكثر مصداقية لأزمة «مارس 1954» في مصر، وظف الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الأجهزة الأمنية والأدوات الإعلامية والمال لتنظيم تظاهرات ومسيرات شعبية تطالب بإسقاط الديمقراطية وعدم عودة الأحزاب السياسية وبقاء الجيش (ممثلا في عبد الناصر والمتحالفين معه من قيادات الضباط الأحرار) في الحكم.
تسقط الديمقراطية، هكذا هتف المكلفون بالتظاهر والاحتشاد في شوارع وميادين شهدت بين 1919و1954 حراكا شعبيا حقيقيا (أي غير مدفوع الأجر) من أجل الديمقراطية والتحرر الوطني وجلاء المستعمر. زيفت الآلة الأمنية- الإعلامية – المالية التي صنعها عبد الناصر وعي البعض، وبدلت مواقف بعض التنظيمات النقابية (اتحاد عمال النقل) والشعبية (جماعة الإخوان المسلمين) التي تعاونت بمكيافيلية صارخة مع الضباط الراغبين في السلطة والنفوذ.
غير أن إسقاط الديمقراطية وما تبعه من تمكن حكم الفرد من مفاصل الدولة والمجتمع في مصر ما كان له أن يمر دون قمع ممنهج تورط فيه «الحاكم وأتباعه» وبعض السياسات الاجتماعية التي انتصرت لحقوق الفقراء ومحدودي الدخل وأسكتتهم عن رفض الاستبداد.
سقطت الديمقراطية فاختفت ولعقود طويلة الأحزاب السياسية ذات الجماهيرية الحقيقية كحزب الوفد الذي لم تحل خطايا قياداته الكثيرة (أزمة 1942 وغيرها) دون استمرار شعبيته وارتباط اسمه بنضالات المصريات والمصريين.
سقطت الديمقراطية، فتشوهت المؤسسات التشريعية والقضائية، وتخلى بعض رجالاتها عن مبادئ استقلالية دور البرلمان والمحاكم والتوازن بين السلطات والرقابة على أعمال الحاكم واحترام القانون وضمانات الحقوق والحريات، واصطفوا في خدمة السلطان تارة بتبرير وممالأة وأخرى بتوطين الاستبداد عبر شكليات رديئة وقوانين فصلت لأغراض حكم الفرد.
سقطت الديمقراطية، فلم يدهس قطار ضحايا الاستبداد أنصار العدل والحق والحرية وحسب، بل أوقع أيضا من دفعتهم مكيافيليتهم إلى التحالف مع عبد الناصر (الاستبعاد الممنهج للضباط الأحرار) وتأييده (جماعة الإخوان المسلمين) وظنوا أنهم ضمنوا النجاة من القمع والتصفية.
لم تكن الممارسة الديمقراطية قبل 1952في مصر خالية من الخطايا والنواقص والعيوب الكثيرة، ولم تكن نخب الحياة السياسية ببعيدة عن شبهات الفساد. غير أن البلاد كان لها وثائق دستورية يتظاهر الناس دفاعا عنها ورفضا للعصف بها وطلبا لإعادة العمل بموادها (دستور 1923)، وكان لها مؤسسات تشريعية وقضائية تقيد سلطة الملك وتراقب الحكومات وتواجه المستعمر البريطاني وتبحث (أحيانا) في سبل تحقيق العدالة الاجتماعية وتضييق الفجوة بين الأغلبية الفقيرة ومحدودة الدخل وبين الأغنياء.
لم تترجم سنوات ما اصطلح على تسميته الحقبة الليبرالية (1919 ـ 1952) جل آمال الناس ومطالبهم المشروعة ولم تغب عثراتها وإخفاقاتها، إلا أنها صنعت لمصر من القوانين والمؤسسات والنظم المدنية (من الإدارة والصحة إلى التعليم والصحافة) ما ألحق البلاد بالعصر الحديث. والأهم هو أن الحقبة الليبرالية لم تتورط في العصف بالديمقراطية ولا القضاء على حكم القانون ولا في إعادة البلاد عقودا إلى الوراء كما فعل الاستبداد العسكري ولم يزل نظير سياسات اجتماعية أبدا لا تكتمل وادعاءات سيادة وطنية لا تسندها فاعلية الدولة ومنعة المجتمع ووعود تقدم وازدهار ورخاء لا تتحقق سوى لدوائر الأتباع والمنتفعين.