ثلاث سنوات كبيسات كئيبات عاشتها مصر هي عمر الانقلاب العسكري الغاشم الظَّلوم.
ما وصلنا إليه بعد هذه السنوات يفتح الباب على مصراعيه لكل الإحتمالات في مستقبل مصر وكذلك مستقبل ثورتها القادم المجهول.
الأداء المثير للانقلاب ورموزه يستبقي بمنتهى الجدية والحزم كل حظوظ الثورة في العودة والاشتعال، سواء أكان ما وصلنا إليه وما انحدرت إليه مصر في ظل الانقلاب العسكري فشلًا يتجرعه الجميع، أو كانت مهمة أتى من أجلها الانقلابيون ونجحوا في تنفيذها.
على الجانب الآخر وربما الأكثر إثارة هو الأداء الباهت الخافت المزري لمفردات النخبة الثورية وكياناتها الثورية من أقصى اليمين لأقصى اليسار، والذي ينافس الانقلابيين فشلًا وتخريبًا.
من يملك الحشد الجماهيري تأخر ولم يصل بعد إلى الرؤية الناجزة والخطة المحكمة والجرأة اللازمة والثقة في الذات والمبادرة والقرار. ومن يغيب عنه الغطاء الشعبي ويفتقد الحضور الجماهيري يستعلي على أصحاب هذه المَلَكَة ويمارس نوعًا من الانتفاخ غير المبرر والاستعلاء الكذاب ويخطب ود الغرب وينتظر من الخارج دعمًا وتأييدًا وتدخلًا يُغير المعادلة ويقلب الطاولة.
في هذا الواقع الأسيف الذي يتنازعنا فيه الفشل ويقود الفاشلون فيه الصراع يتوارد السؤال الأهم: ماذا يمكن أن يحمله المستقبل لمصر الثورة ومصر الدولة والوطن؟
هذان الخطان المتوازيان من الفشل سواء من الانقلابيين الخائنين أو الثوريين الأخيار الغافلين المغيبين، كيف يمكن أن يقودا الواقع المصري؟! وأي نوع من المستقبل يمكن أن يفضيا اليه؟!
في واقع كهذا يُعد الحديث عن مستقبل البلد أو مستقبل الثورة معادلة مجهولة النتائج ولوغاريتم شديد التعقيد، لأننا نتناول قوتين كل منهما مُفَتَتة بصراعاتها الداخلية؛ الانقلاب والدولة العميقة من جانب، وصف الثورة والكيانات الثورية من جانب آخر.
الأمل والتعويل على دعوات الاصطفاف لا يعدو عن كونه سرابًا خادعًا، كما أن تطهير الصف الثوري على حاجتنا له ليس حلًا في المتناول في حالتنا المصرية المعقدة.
إذن نظل عند السؤال الأكثر غموضاً وإثارة؛ ما هي المحطة النهائية البعيدة أو حتى المرحلية القريبة التي يمكن أن يصل إليها قطارنا الذي يسير على هاذين القضيبين المتوازيين المتجاورين؟!
هل يمكن أن تفاجئنا ثورة ثانية جديدة تستعيد طُهر ونقاء ثورتنا الأولي في يناير وتستبعد كل تعيس مجرم بعدما تطرد منها كل خبثها من السحرة والأدعياء؟!
نعم ممكن .. خاصةً وأن أسباب الثورة لا أقول لازالت موجودة بل تنمو وتتكاثر يومًا بعد يوم، كما أن قطاعات غاضبة من الشعب المصري تضاف كل يوم رضًا أو قهرًا لحاضنة الثورة، وفئات كثيرة من الجماهير ممن افتتنوا بالانقلاب في مهده وآزروه، تحولوا إلى كُتَلْ رفض صامتة تصب في رصيد رفض الواقع وطلب التغيير.
لا أحد يقطع بقيام ثورة جديدة في مصر ولا أحد يمكنه القطع بعكس ذلك. لكنها إذا حدثت ــ وهذا احتمال ــ ستفاجئ الجميع، وسيكون الشعب المصري وقتها صاحب الفرح والراعي الرسمي للمفاجأة، رغم أنها ستفاجئ الشعب نفسه ربما بأكثر مما تفاجئ به الآخرين.
الثورة لا تحتاج إلى أسباب جديدة حاليًا فكل أسبابها متوفرة، لكن الشعب المصري مازال الساكت المستكين برغم الاستفزازات القاسية التي يتعرض لها على كل الأصعدة من النظام وشياطينه.
ما الذي يمكن أن يحرك هذا الساكن العنيد؟!
الشعب المصري ربما لن يحركه فعلًا إلا حدث ذي دويٍ شديد في الداخل أو الخارج، حينها ستكون حركته انفعالية تلقائية تبدأ في مناطق شعبية أو عمالية، ثم لا تلبس أن تتراكم ككتلة جليد لتشمل طول البلاد وعرضها في وقت قياسي ولحظة تاريخية لا تتكرر كثيرًا، ليست بدعوة من أحد ولا بقرار أو اتفاق أو ساعة صفر محددة.
أدري أن قطاعات كثيرة من العقلانيين محبطين من الشعب ويائسين من أي حراك منه، هؤلاء سيرفضون هذا السيناريو وربما تندروا عليه, لكنه هؤلاء وأضعاف أعدادهم وملايين من المصريين كانوا أكثر يقينًا وأكثر يأسًا وإحباطًا قبيل ثورة يناير وإبان أحداث ثورة تونس وهروب بن علي.
السيناريو الثاني وهو أقرب للواقعية وإن كنت أراه متساوي مع السابق في حظوظ الحدوث وإمكانيته؛ هو حدوث تسوية تكون مقدماتها خارجية يغيب فيها شخص عبد الفتاح السيسي عن المشهد فجأة بسيناريو مشابه لموت جمال عبد الناصر المفاجئ.
هذا السيناريو إن حدث سيعيد تخطيط الملعب بتحول دراماتيكي في ظاهرة بسيط وهادئ في مضمونه وحقيقته، وحينها يكون المشهد مُؤَهَل بامتياز لتسوية تاريخية تتضمن حديثًا عن هوامش مقبولة من ديمقراطية يسمح بها الخارج (الفاعل الحقيقي والراعي الرسمي للتسوية).
هذه التسوية ستضمن للعسكر الحُكْم بوجه جديد، وتعيد مصر لزمن الإستبداد المستقر أو سمه إن شئت الاستبداد “الجميل” أو الديكتاتورية الشيك.
أما الحديث عن سيناريو يتحدث عن مصالحة في ظل شخوص الحاضر والواقع الحالي، فليست هناك أرض يمكن أن يقف عليها أطراف الصراع فضلًا عن مائدة تجمعه لإجراء مثل هذا الحوار.
الإخوان لا يمكنهم الاستسلام التام والرضوخ الرخيص للسيسي ونظامه، ولو قبلوا فإنهم لا يأمنون السيسي في أي اتفاق مهما كان مُذلًا.
على الجانب الآخر لا يتوفر وسيط خارجي أو داخلي يحوز ثقة أطراف الصراع، وإن وُجِد فلا أعتقد أنه يمكن أن يضمن أي تسوية طرفها السيسي وشلة مراهقيه الذين يتصدرون المشهد.
بعد كل هذه الفروض النظرية واستبعادها؛ سيظل سؤال المستقبل بلا عنوان أو جواب شافي جازم.
ما يجعلنا ننتقل إلى سؤال آخر: هل سننتظر كثيرًا في هذا الركام؟!
هل سيطول أمد هذه السوءات التي يغص بها الواقع ولا تتحملها النفوس وملأ سحب دخانها وغبارها فضاء الوطن والإقليم؟!
لا .. لن يطول.
أعتقد أننا بصدد واقع موار .. وأجزم أن تغييرًا ما وشيك الحدوث.
وأتوقع وأنتظر أنه سيغير المشهد وسيصبغ المستقبل بلون جديد!!