تمثل التجارب العالمية الناجحة في تحرير العملة المحلية مقابل الدولار حافزًا قويًا لكثير من الأنظمة التي تواجه مشكلات مماثلة على المستوى الاقتصادي، إلا أنه ومن المؤكد أن هذا النجاح ليس كافيًا لتعتمد الأنظمة على نفس الوسيلة كحل لمشكلاتها الاقتصادية؛ فما اعتمدت عليه بعض الدول في نجاحها، ربما يكون غير مناسب لدول أخرى، وما يتوفر من بنية تحتية أو غظاء نقدي أو مستوى من الإنتاج والصادرات قد لا يتوفر لغيرها.
في هذا الإطار مثلت الأرجنتين نموذجًا أمثل في الصعود من الهاوية؛ حيث واجه الاقتصاد الأرجنتيني انهيارًا عنيفًا في ديسمبر عام2001م، واضطرت الحكومة الأرجنتينية لخفض الإنفاق العام بنسبة 20%، أي بمقدار10 مليارات دولار من خلال عدد من الإجراءات التقشفية علي رأسها تخفيض أجور العاملين بالحكومة بنسبة 13%, وهو ما كان بمثابة الفتيل الذي أشعل ثورة الغضب الشعبي واندلعت مظاهرات احتجاجية زلزلت أرجاء العاصمة بوينس إيرس، وتراجع اقتصاد الأرجنتين إلي حد كبير أمام ارتفاع الديون وتجميد الأرصدة البنكية وتراجع قيمة العملة المحلية بنسبة الثلثين وارتفاع نسبة البطالة إلي02%.
وكثيرة هي الأمثلة على التحول الاقتصادي وتحرير سعر العملة منها التجربة الروسية والصينية والنيجيرية والمغربية والماليزية.
لكن ما الذي تملكه مصر سواء على مستوى المنظور القريب أو البعيد (إستراتيجيا) جعل نظامها يتخذ قرارًا بتحرير العملة أمام الدولار الأمريكي؟ وهل هذا هو الحل الأنجع لمواجهة واقع اقتصادي مرير يرضخ في ظله أكثر من 40% من المصريين تحت خط الفقر، كما أن الوضع الاقتصادي المصري يواجه جملة من الصعوبات التي قد تعوق سياسة تحرير العملة، أهمها:
– غياب الرؤية
منذ أن تولى عبدالفتاح السيسي رئاسة مصر على أثر انقلاب عسكري في الثالث من يوليو 2013م، لم يقدم رؤية اقتصادية واضحة يستطيع من خلالها المراقبون التقاط خيط لخطة اقتصادية أو برنامج واضح المعالم، فضلاً عن المواطن العادي؛ فمعظم القضايا الاقتصادية التي شغلت تفكير المصريين وانتظروا أن يضع لها السيسي رؤية أو برنامجًا ظلت بلا حلول حتى وقتنا هذا، فالرجل لا يملك رؤية لحل مشكلة البطالة ولا ضعف الإنتاج ولا قلة الصادرات اللهم إلا من بعض الآراء الشخصية التي يضعف محلها من الإعراب في عالم الاقتنصاد.
ولم يترك السيسي نفسُه فرصة لاجتهاد نقاد أو محللين حتى يثبتوا ذلك؛ فقد اعترف الرجل في أحد حواراته المتلفزة بأنه قد ترك الجيش من أجل عيون المصريين الذين اختاروه رئيسا فلا يحق لأحد أن يسأله عن برنامج!
– انتشار الفساد
بحسب مجلة فورين أفيرز الأمريكية فإن مسؤولين مصريين خبؤوا عن الأنظار 94 مليار دولار على الأقل من أموال الدولة في حسابات غير مراقبة في المصرف المركزي والمصارف التجارية الحكومية، ويطلق على تلك الأموال اسم “الأموال الخاصة”، وأنها أنفقت من قبل هيئات حكومية مثل وزارة الداخلية وهيئة مكافحة الفساد.
وكثيرة هي القضايا التي تشير إلى استشراء الفساد المالي والإداري في أوساط مصرية حكومية كان أبرزها قضية استيراد القمح التي استولى فيها مجموعة من رجال الأعمال على مبلغ 621 مليون جنيه.
ويرى مراقبون أن الإشكالية لم تعد في أن الفساد واقع ومعترف به بل إن السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا يفعل السيسي ونظامه لمواجهة هذا الفساد؟
– غياب الخطوات العلمية لزيادة الإنتاج
يعلم الكثيرون الآن أن المشاريع التي حاول عبدالفتاح السيسي إقناع المصريين بجدواها صارت في أعين الجميع وهمًا، أو على أقل تقدير حلمًا يستحيل تحقيقه؛ خاصة بعد أن تبين ضعف الأداء الاقتصادي للقائمين على تلك المشاريع، فضلاً عن كذب المسئولين على الشعب فيما يخص جدواها وعوائدها المادية وعلى رأسهم الرئيس ذاته؛ فتفريعة قناة السويس لم تجلب مائة مليار جنيه في العام ولا السيسي أنشأ شبكة طرق (تمسك البلد كده) علي حد قوله، ولا الشباب سكنوا وحدة واحدة من المليون وحدة سكنية المزعومة.
أما على مستوى الصادرات المصرية للخارج، وهي تمثل حجر الزاوية في فكرة تحرير العملة أمام الدولار، فإنها شهدت تراجعًا ملحوظًا في الفترة من يناير 2014م حتي يوليو 2016م، في مجالات عدة؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر، أكد أحدث تقرير لمستودع بيانات التجارة الخارجية بوزارة التجارة والصناعة، أن الصادرات المصرية غير البترولية عن شهر سبتمبر 2015م، قد بلغت مليار و221 مليون دولار بنقص مقداره ( 28,69% ) عن نفس الشهر من العام الماضي، والذى بلغت قيمته مليار و713 مليون دولار ليصل اجمالى الصادرات للعام 2015 الى 13 مليار و 884 مليون دولار حتى نهاية سبتمبر بنقص مقداره ( 19,28 % ) فى مقابل 17 مليار و 200 مليون دولار عن اجمالى القيمة عن نفس الفترة من العام الماضي.
كما شهدت صادرات الصناعات اليدوية انخفاضًا ملحوظًا؛ حيث بلغت مليارًا و33 مليون دولار لعام 2015م، مقارنة بـ مليار و339 مليون دولار عن نفس الفترة من العام السابق عليه، كما انخفضت صادرات الملابس الجاهزة إلي مليار و23 مليون دولار للعام 2015م، مقارنة بـ مليار و101 مليون دولار عن نفس الفترة من العام الماضي، كما انخفضت صادرات الغزل والمنسوجات حيث بلغت 650 مليون دولار للعام الحالي مقارنة بـ 722 مليون دولار عن نفس الفترة من العام الماضي.
تلك الوضعية الصعبة تطرح مجموعة من التساؤلات، منها هل قدمت الحكومة المصرية ما يشير إلى قدرتها على معالجة كل هذه المعوقات، إن لم تكن قد تسببت في خلق بعضها؟ وهل لمجرد اتخاذ القرار، فإن مصر ستصبح مصر أختًا لماليزيا والصين والهند؟ أم أن المعطيات يجب أن تؤكد ذلك؟
وهل صار أنصار النظام في مصر محقين في دفاعهم عن هذا النظام فيما يخص تحرير العملة المصرية أمام الدولار، أم أنه مجرد هوس وارتباط سطحي بتجارب أخرى كانت لها ظروفها الخاصة وتصدرت لها حكومات كفوءة تعتمد عليها شعوبها وتثق بها؟!