قد يكون من المنطقي مثلا إبعاد فكرة نشوب حربا عالمية ثالثة عن أذهاننا قدر اﻹمكان، لكن، من الغير منطقي عدم توقعها البتة، وهذا بات من اﻷمور المسلم بها حسب عديد المحللين الإستراتجيين والسياسيين، دعونا نتصور ذلك معا، قبل سنين ليست ببعيدة من اﻵن كانت فكرة إحتمال ذاك الإصطدام المدمر لنيزك هائل باﻷرض ينهي الحياة عليها، تفوق بآلاف المرات فكرة إحتمال نشوب حربا عالمية ثالثة تنهي جزئيا تلك الحياة، أما اﻵن فقد بات اﻷمر معكوسا تماما حتى عدم عقلانية مقارنة تلك النسب المؤية لحدوث هذين اﻷمرين.
لا يخفى على أحد اﻵن أن الكرة اﻷرضية تلتهب باﻷحداث المتسارعة، فتلك المناطق الشرقية التي تستهلك اﻵن معظم إنتاج الماكنة الحربية الغربية، يقابلها مناطق غربية ملتهبة سياسيا، أو على حافة اﻹنهيار اﻹقتصادي، وتجتمع كلها تحت مظلة اﻹلتهاب اﻹقتصادي، أنتانات إقتصادية -إن صح التعبير- تنتشر على كافة كوكبنا بشرقه وغربه، شماله وجنوبه، فقيره وغنيه، ضعيفه وقويه، ربما أن علاج هذه اﻷنتانات بات من الصعوبة بمكان حد الكي كخيار أخير.
الحقيقة أنني سأعتمد هنا في تحليلي على مبدأ “التاريخ يعيد نفسه”، وسنكتشف معا عزيزي القارىء أن اﻷمر صادم للغاية حين ندرك ذاك التشابه في تتابع اﻷحداث، فقد كان مثلا أحد أهم الأسباب التي زادت من حدة الكساد العالمي العظيم (1935-1929) هو الحرب العالمية اﻷولى وتداعياتها (1918-1914)، وغالبا ما تكون تلك العلاقة العكسية ظاهرة في حالات مماثلة، فلربما هذه المرة سبقت اﻷزمة المالية العالمية (أزمة الرهن العقاري في 2008) التي أدت إلى كساد عالمي نشهد حدته حاليا، سبقت تلك الحرب الثالثة المنشودة، وهناك دائما تلك العلائق الوطيدة بين الحروب واﻷزمات اﻹقتصادية بغض النظر عن اتجاهاتها العكسية، لكن ما يزيد الوضع الحالي خطورة عن ذاك الوضع الذي كان في بدايات القرن الماضي -حسب إعتقادي- هو ظهور مشكلة التغير المناخي التي سببها ظاهرة اﻹحتباس الحراري والتي وضعت العالم بأسره في مأزق حرج، ووضعت اﻹنسانية قاطبة هذه المرة في ذات الزاوية القاتلة، هذا ما أطلقت عليه في غير تحليل “البؤس العالمي الغير نسبي” وبتبسيط شديد فإن ذلك يعني أن البائس الذي يعيش في أمريكا قطعا يختلف عن ذاك البائس الذي يعيش في كينيا “هنا بؤسا نسبيا”، بينما البؤس البيئي لن يفرق بين دولة صناعية غنية ودولة متخلفة فقيرة، فهذا البؤس يتعلق بالهواء الذي نستنشقه وبحار ومحيطات وغابات كوكبنا وغلافه الجوي “هنا بؤسا ليس نسبيا”.
أيضا نجد أن أزمة الكساد العظيم اﻷولى بدأت من مجرد تشاؤم رجال اﻷعمال في الولايات المتحدة الأمريكية، ثم ما لبثت أن أصابت كامل إقتصادات العالم، وها هي أزمة الرهن العقاري بدأت مجددا في الولايات المتحدة وما لبثت أن أصابت كامل إقتصادات دول العالم تباعا، الصناعية الغنية ثم المستهلكة الفقيرة، كلا اﻷزمتين أصابتا العالم بأسره نتيجة إعتماد اﻹقتصاد العالمي الدولار اﻷمريكي كعملة أساسية في كافة التبادلات التجارية واﻹقتصادية، والذي غالبا ما ينقل عدوى اﻷزمات اﻹقتصادية المحلية اﻷمريكية لباقي الدول الذي يتكدس في خزاناتها كبديل عن غطاء الذهب للعملات المحلية.
على سبيل المثال لا أكثر فإن حربي الخليج اﻷولى والثانية في تسعينيات القرن الماضي نجد أن أحد أهم أسبابهما هو عندما قرر الرئيس العراقي الراحل “صدام حسين” التخلي عن الدولار اﻷمريكي كثمن للنفط الذي يبيعه، واستبدله بسلة عملات، في حين رفضت دول الخليج التعاون معه في مسألة التخلي عن الدولار اﻷمريكي، هذه كانت صورة مصغرة لدور دولار أمريكا بلعبة اﻷمم في العصر الحديث، ولربما أن معظم الحروب التي شهدناها ونشهدها حاليا كان للدولار اﻷمريكي ذاك الدور الرئيسي فيها.
أضف إلى تلك اﻷزمات اﻹقتصادية التي ما زالت تعصف بالعالم، والحروب الدائرة رحاها، وأتون حروب تحت اﻹشعال، أضف مشكلة البيئة كما أسلفنا، فهناك مشكلة المياه، ومشكلة الطاقة، ومشكلة الرقع اﻷرضية المحدودة، ومشكلة اللجوء وفقدان الهوية، ومشكلة اختفاء الأوطان جغرافيا وفيزيائيا جراء تزايد منسوب مياه المحيطات والبحار، وجراء تشرذم تلك اﻷوطان القومية التاريخية بعد الحروب، وسنأتي بشىء من اﻹختزال على هذه اﻷسباب والتي أعتبرها بمثابة تلك النذر الواضحة لحرب عالمية ثالثة قادمة لا محالة، ربما.
أزمة المياه، والتي تتمثل حسب اﻷمم المتحدة بمفهوم ندرة المياه الصالحة لﻹستعمال البشري في ظل الطلب المتزايد عليها عالميا، وتلوث المياه، فهناك مشكلة عدم حصول خمس العالم على مياه صالحة للشرب ما زال جلهم في الدول الفقيرة، غير أن ذلك بدأ يظهر أيضا في تلك الدول الغنية نظرا لبدء نضوب المياه الجوفية عالميا، ونظرا للإفراط في تلويث المياه الجوفية خاصة في الدول الغنية الصناعية، مما سيدفعها تاليا للبحث عنوة عن مصادر جديدة للمياه العذبة وهذا ما سيؤجج الصراعات اﻹقليمية على المياه الشحيحة وبالتالي الحروب.
لقد بدأت تظهر تلك الصراعات عبر الحدود حول المياه بالرغم من وجود ما يسمى “بقواعد هلسنكي” والتي تنظم قواعد الحصول على المياه النهرية بين البلدان، فمثلا لولا حربي الشام والعراق الطائفية لنشبت حرب -صراع بقاء- حول مياه نهري دجلة والفرات، ﻷن إجمالي الطلب على النظام النهري هناك تجاوز الحد منذ زمن وتخطى قواعد هلسنكي، كذلك النزاع الذي نشب بين المجر وتشيكوسلوفاكيا حول حصص مياه نهر الدانوب في عام 1992، غير أن ذلك من المحدودية بمكان في مسألة أزمة المياه العالمية، لكن ما يحصل بين الكوريتين الشمالية والجنوبية، وما يحصل بين مصر وأثيوبيا والسودان حول حصص مياه نهر النيل، واﻹحتلال الصهيوني ولعبه ذاك الدور حول تأجيج هذه الأزمة، خاصة وأن الشرق اﻷوسط يعاني من شح المياه، لهو أمر جلل بالمقارنة، فأزمة الشرق اﻷوسط المركبة بات جزء كبيرا منها يتبلور حول أزمة المياه.
أزمة الطاقة، ونعني هنا إرتفاع أسعار مصادر الطاقة الطبيعية كالنفط والغاز والتي تؤثر سلبا على الناتج المحلي اﻹجمالي للدولة واقتصادها، وغالبا ما يؤدي ذلك إلى إرتفاع تكلفة إنتاج الكهرباء أساسا، ومن اﻷسباب المعروفة الحالية لارتفاع تكاليف مصادر الطاقة هي الحروب في دول اﻹمداد، واﻹحتكار والتلاعب بسعر التكلفة من قبل الدول الصناعية الكبرى من خلال شركات إنتاج الطاقة المتعددة الجنسية، الظروف المناخية المتطرفة والتي تظهر جراء تفاقم ظاهرة اﻹحتباس الحراري والتغير المناخي والتي تزيد من كلفة نقل مصادر الطاقة كالنفط، هجمات الميليشيات المسلحة على مواقع اﻹنتاج أو موانىء النقل واﻷنابيب عبر اليابسة أو إستيلاء هذه الميليشيات على مواقع اﻹنتاج أصلا، مما يؤدي إلى تدمير البنى التحتية لمواقع اﻹنتاج وقصور في الناتج العالمي لمصادر الطاقة بالمقارنة مع الطلب العالمي.
لكن، ربما أن ذلك يعتبر نقطة في بحر أزمة الطاقة والتي تعتبر من النذر الرئيسة للحرب القادمة، إذا ما قارنها بمسألة قرب نضوب تلك المصادر الطبيعية للطاقة مثل النفط والغاز، وهنا ستصبح مسألة البحث عن أماكن مناسبة لاستغلال الطاقة الشمسية مثلا اﻷقل تكلفة من استغلال طاقة الرياح والمد والجزر في البحار والمحيطات، والتي يوجد معظم مصادر هذه الطاقة الشمسية في الشرق الأوسط الحار، ستصبح أمرا ملحا للغاية مما سيؤجج الصراعات اﻹقليمية وبالتالي الحروب، وللعلم فقط فإن معظم المناطق التي تعتبر اﻷفضل عالميا لاستغلال الطاقة الشمسية هي تلك المناطق الواقعة في بعض دول الخليج العربي وبعض دول بلاد الشام كاﻷردن، فقد صنفت مدينة “معان” جنوب اﻷردن كأفضل المناطق على مستوى العالم ﻹنتاج الطاقة الشمسية، حيث انعدام الرطوبة والتي تؤدي إلى اﻹستغلال الأمثل ﻷشعة الشمس، كذلك بعض المناطق في الربع الخالي وسيناء وشمال أفريقيا.
أزمة الرقع اﻷرضية، ونقصد بهذه اﻷزمة تلك المساحات اﻷرضية المطلوبة ﻹنتاج المزيد من البروتين الحيواني لسد الطلب المتزايد عليه عالميا، ويقسم ذلك إلى ثلاثة أقسام، القسم اﻷول توفير رقع أرضية ﻹنتاج فول الصويا وهو المكون اﻷساس لأعلاف اﻷبقار المركزة، وهنا يتطلب قطع المزيد من الغابات التي تعتبر رئة الأرض اﻷولى، والقسم الثاني هو توفير رقع أرضية لتربية الماشية عليها وخاصة اﻷبقار، وهنا أيضا يتطلب قطع الغابات، والقسم الثالث يتمثل بتوفير رقع أرضية لتربية الأسماك، فالثروة السمكية في طريقها لتكون أكثر سمية في تلك المياه المفتوحة نتيجة التلوث الصناعي وقصور رئة اﻷرض الثانية وهي البحار.
وهذه اﻷزمة من أعقد الأزمات التي تواجه الجنس البشري حاليا، حيث أنه أحد أسوأ الغازات الدفيئة التي تفاقم ظاهرة اﻹحتباس الحراري هو غاز الميثان الناتج عن تلك الأنشطة البشرية المتعلقة بتربية الماشية وخاصة اﻷبقار، إذ يفوق تأثير غاز الميثان على الإحتباس الحراري سبعا وعشرين ضعفا تأثير غاز ثاني أكسيد الكربون على نفس الظاهرة، غير أن تلك اﻷزمة لن ترقى إلى إشعال تلك الحروب اﻹقليمية كسابقاتها، إلا أنها ستفاقم من بؤس البشرية قاطبة وستعيد اللحوم لتصبح تلك السلعة الترفيهية الغير متاحة للجميع.
يقول خبير الغذاء البريطاني “مورغان فريمان” تربينا في صغرنا على تلك اللحوم الوفيرة والرخيصة، لكنا نشهد اليوم اللحوم وهي تعود لتكون تلك السلع الترفيهية والتي لن تكون متاحة للجميع في قادم الأيام”، ومن هنا ستظهر مجددا أزمة توفير البروتين الحيواني لبشر على حساب آخرين كأزمة ملحة وسيادية، وستكون مسألة توفير البروتين الحيواني هذه عنوة أو من خلال حروب ستشن على بشر سيعانون لتوفير تلك الحياة الرغيدة لشعوب أسيادهم.
أزمة اللجوء، وتقسم هذه اﻷزمة العالمية إلى ثلاثة أقسام، فهناك أزمة اللاجئين الذين يضطرون إلى ترك أوطانهم جراء الحروب والصراعات الدائرة رحاها، وهناك لاجؤون يضطرون لذلك جراء تفاقم ظاهرة الإحتباس الحراري وغرق أوطانهم كما سيحدث مثلا خلال الثلاثون سنة القادمة لسكان جزر المالديف وغيرها من الجزر والسواحل، وهناك البشر الذين يجبروا على ترك أوطانهم جراء التهريب واﻹتجار بالبشر أو أولئك البشر اللاجؤون والذين يقعون في فخ تجار البشر في بلاد اللجوء، ومأساة الإتجار بالبشر هذه، باتت من التجارات الدولية الرائجة والتي تقدر سنويا بعشرات المليارات من الدولارات، لكن تكمن خطورة أزمة اللجوء هذه من كونها أخطر أزمة للجوء منذ الحرب العالمية الثانية وسط تقاعس المجتمع الدولي في إيجاد الحلول العملية والجادة لها رغم خطورتها، وإلا لما اجتمع قادة الدول ال93 اﻷعضاء في اﻷمم المتحدة في نيويورك في سبتمبر/تشرين أول من هذا العام لمناقشة ما قد يعصف بالسلم واﻷمن العالميين، أو ممثلين عنهم.
قد تتمثل الحروب حول هذه اﻷزمة عندما يبدأ اللاجؤون وفاقدي اﻷوطان والهويات بالضغط على إقتصادات وموارد تلك البلدان المضيفة لهم وعلى مزاحمة أبناء البلد اﻷصليين على العيش وعلى فرض معتقداتهم وقيمهم المجتمعية الخاصة وعاداتهم، الأمر الذي سيفاقم مشكلة ما يسمى “بمعاداة الأجانب” من جهة، ومن جهة أخرى عندما تنشب تلك النزاعات الدولية جراء تزايد أعداد اللاجئين وحصص كل بلد من تلك الأعداد الهائلة، فهناك مثلا حفلة مكاسرة أذرع بين تركيا واليونان وصلت حد تهريب اللاجئين بين البلدين رسميا وتحت جنح الظلام، الأمر الذي سيؤدي إلى امتداد ظل هذه الأزمة على كامل منطقة اليورو في النهاية.
في حين بدأ يطفو على السطح ذاك اﻹحتقان الدولي بين البلدان التي استضافت اعدادا هائلة من اللاجئين، وبين تلك التي استضافت اعدادا ضئيلة منهم، كالبرازيل واليابان وكوريا الجنوبية، و بين تلك البلدان التي لم تستقبل أحدا على غرار روسيا مثلا وكوريا الشمالية.
عزيزي القارىء، لنتفق على ما أوردناه قبلا حول مبدأ “التاريخ يعيد نفسه” دائما، بغض النظر عن تلك الإتجاهات المتعاكسة أحيانا بين اﻷسباب والمسببات، الواضح أن التاريخ يعيد نفسه حول حدوث تلك الحروب الكونية خلال فترات من زمن تطور الجنس البشري، وأنا من المؤمنين بذلك إلى حد ما، لكن الغريب أن بعض مناصري هذا اﻹعتقاد وأنا لست منهم، يعزون ذلك لمبدأ “اﻹنتقاء الطبيعي” الذي يحكم هذا الكون بما فيه الجنس البشري، أي أن حدوث تلك الحروب الكونية من الوجوب بمكان كي تستمر الحياة على هذا الكوكب، فلنتخيل مثلا لو لم يقضي أولئك ال55 مليون إنسان في الحرب العالمية الثانية كيف كان سيكون عليه حال الكوكب؟ هذا تساؤل مناصري ضرورة خضوع الجنس البشري لمبدأ اﻹنتقاء الطبيعي بطريقة أو بأخرى.
وسأترك لكم أعزائي حرية التخيل هذه، حول مبدأي التاريخ يعيد نفسه، وومبدأ اﻹنتقاء الطبيعي.