عندما نحكم على الرجال، لا ننظر إلى حبّنا أو كرهنا لهم؛ بل الدّين والمنطق يقولان لنا: يُحكم على الرجال من خلال أعمالهم وإنجازاتهم في حياتهم…
والآن عندما توفي شمعون بيريس عن ثلاثة وتسعين عاماً، بدأ بعض الناس بالسّباب والشتيمة والفرح…وبعض النّاس حزن وبكى عليه ووصفه بالصفات العظيمة…والغريب أنّ من زعماء العرب من بكى عليه…!!!
ونحن بداية نقول: نعم إنّ شمعون بيريس قتل من العرب وشرّد وظلم…لكنّه فعل ذلك كي يبني دولة يهودية في قلب العالم الإسلامي، وقد نجح مع زملائه من القادة الإسرائيليين في ذلك أيَّما نجاح…
فهو من هذا المنظور رجل خدم أمّتَه بنجاح؛ وستذكره أمتُه بالخير ليلَ نهار…فهو من صنّاع الأمم شئنا أم أبينا، فرحنا أم حزنا…
وهذا لا ينفي عداوتَنا له ولمشروعه الاستيطاني الظالم، لكن من حيث النّجاح فقد صنع مجداً لأمته اليهودية…!!!
وهذا ما يجعلنا أن نتساءل عن زعماء العرب وصناعتهم لمستقبل أمتهم…!!!
فهل فعلوا لأمتهم ما فعل شمعون بيريس لأمته …!!؟
وهل سيذكرهم تاريخُ أمتهم بالخير…!!؟
للإجابة على هذه الأسئلة وغيرها أجرينا هذه المقارنة بين شمعون بيريس وحكامنا العرب، لعلّ القارئ العربي يصل إلى شيء من الحقيقة ولو كانت مرّة قاسية…!!!
ولنبدأ بالمقصود:
1 ـ شمعون بيريز كاتب ومثقف: وعنده ما يزيد عن 11 مؤلفاً من أهمها: “الشرق الأوسط الجديد” الذي تُرجم لأكثر من 30 لغة، و”المرحلة القادمة” 1965م، و”الآن غداً” عام 1978م، “اذهب مع الناس” عام 1979م، “المحاربة من أجل السلام” 1995م، “البداية الجديدة” 1998م، “وقت للحرب ووقت للسلام” 2004م.
أما حكامنا، فمنهم لا يجيد القراءةَ والكتابة بشكل جيد، ومنهم الضباط الذين لا يعرفون إلا العنف والقتل والانقلابات، ومن درس الجامعة منهم درسها تحت الرعاية والتربية الأجنبية، وعلى كلّ حال لا يوجد حاكم عربي مثقّف، عدا عن أن يكون أديباً أو كاتباً أو أستاذاً جامعيّاً…
2 ـ شمعون بيريس وتداول السلطة: كان يؤمن بتداول السلطة؛ لذا تراه استلم مرتين رئاسة الوزراء، وأكثر من مرّة وزيراً ونائباً لرئاسة الوزراء، ومرات عديدة خارج الحكومات الإسرائيلية، ومرات عديدة ليس رئيساً لحزبه الذي ينتمي إليه، وختم حياته رئيساً لإسرائيل.
أما حكّام العرب فليس في قاموس أفكارهم أو سلوكهم مفهوم “حرية” أو “تداول سلطة”؛ بل هم أعداء لكلّ شيء يقرب من الحرّية…فالحكم عندهم من البلوغ إلى بلوغ الدار الآخرة:
فآل سعود يحكمون منذ عام 1744م إلى الآن؛ أي أكثر من 270 عاماً وهم يحكمون…!!
وآل الصباح يحكمون منذ عام 1752م إلى الآن؛ أي أكثر من 260 عاماً وهم يحكمون…!!
وآل خليفة يحكمون البحرين منذ عام 1776م إلى الآن؛ أي أكثر من 240 عاماً وهم يحكمون…!!!
وآل نهيان يحكمون أبو ظبي قبل عام 1761م إلى الآن؛ أي أكثر من 255 عاماً وهم يحكمون…!!!
وآل مكتوم يحكمون دبي منذ عام 1833م إلى الآن؛ أي أكثر من 180 عاماً وهم يحكمون..!!!
وآل ثاني الذين يحكمون قطر منذ عام 1850م تقريباً إلى الآن، أي أكثر من 160 عاماً وهم يحكمون…!!!
والأسد حكم ثلاثين عاماً ثمّ ورّث ابنه، وعبد الناصر حكم 18 عاماً ومات فجأة، والسادات مات مقتولاً، ومبارك كاد أن يورّث نجله، والسيسي بدأ رحلته الانقلابية، ومحمد الخامس والسادس والبقية تأتي، وبو تفليقة ـ عاجز مشلول على كرسي متحرّك ـ وهو يحكم بلد المليون شهيد، ولسان حاله يقول: موتوا غيظاً، سأموت وأنا على الكرسي…
وعلى العموم فكلّ حكام العرب مستبدّون، يتمسّكون بالحكم ويحاولون توريثه، سواء من كان ملكاً أو سلطاناً أو زعيماً أو رئيس جمهورية…
3 ـ شمعون بيريس هدفه خدمة المشروع الإسرائيلي: عاش بيريس 93 عاماً، أمضى منها 67 عاماً لخدمة إسرائيل، بدأها بالانضمام لعصابات الهاجاناه الصهيونية المسلّحة التي تقتل الفلسطينيين، وانتهى برئاسة إسرائيل من عام 2007م إلى 2014م.
وللحقيقة نقول: إنّ حكام العرب يسبقون بيريس في الخدمة، لكن خدمة من !؟ خدمة أوطانهم !؟ لا إنهم يسبقون بيريس في خدمة عروشهم، أجل يسبقون بيريس في خدمة عروشهم …فعلى أرض الواقع هم أعداء لشعوبهم وأوطانهم، فكلّ الحكام العرب من المحيط إلى الخليج لم يستطيعوا أن يحققوا التنمية لبلادهم، فهم رعاة للكراسي والتخلّف في بلدانهم؛ لذا من الطبيعي أن تجد أنّ جميع الدول العربية مازالت تعيش تحت مسمّى “الدول المتخلّفة”…فالمهم هو الكرسي مع المتخلّف ،وليس التنمية أو خدمة الأوطان…!!!
4 ـ شمعون بيريس والصناعة النووية: كان بيريس هو مهندس العلاقات الفرنسية الإسرائيلية في المجالات الصناعية العسكرية والأبحاث المتعلقة بالجيش، وهو الذي نجح بجدارة في بناء المفاعل النووي الإسرائيلي (مفاعل ديمونة)، كما نظم بيريس التعاون العسكري مع فرنسا الذي أدى إلى العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م.
أما حكام العرب فهم ضدّ التقدّم الصناعي العسكري والمدني، ويبنون جيوشهم لحفظ عروشهم، ويستوردون الأسلحة ـ بدل تصنيعها ـ من كلّ أعداء العرب وبمئات المليارات من الدولارات لترضى عنهم تلك الدول، ومنذ أسابيع عرض أوباما صفقة أسلحة على السعودية بمبلغ يزيد عن 117 مليار دولار…!!
5 ـ شمعون بيريز يسفك الدماء لأجل إسرائيل: عندما كان وزيراً للدفاع في 11 نيسان عام 1996م أمر بعدوان عسكري شامل ضدّ لبنان سمي عملية عناقيد الغضب، فقصف مدن لبنان بما فيها بيروت، ووصل العدوان في 18 نيسان ذروته في مجزرة قانا التي راح ضحيتها أكثر من 250 قتيلا وجريحا من المدنيين أكثرهم من النساء والأطفال.
أما الحكام العرب باعونا في نكبة عم 1948م، ورقصوا على أشلائنا في نكسة عام 1967م، وفي حرب 1973م التي صرعوا شعوبهم بها، لم يتم تحرير الجولان ولا سيناء وأراضي الأردن ولا الضفة الغربية ولا غزّة…بل برع الحكام العرب في ارتكاب المجازر في حق شعوبهم، فحافظ الأسد قتل في الثمانينات في مجزرة حماة ما يقرب من ثلاثين ألف سوري، عدا عن اغتصاب النساء، وقتل الأطفال والشيوخ، وعدا عن عشرات الآلاف من المعتقلين، وأتى ابنه الآن ليصل عدد القتلى والمعاقين إلى ما يقرب من مليون سوري، وفي ليبيا في الثمانينات قتل القذافي الآلاف، وفي السبعينات الملك حسين قتل الآلاف من الفلسطينيين في أيلول الأسود، وفي الجزائر قتلوا ما يزيد عن مئتي ألف جزائري في تسعينات القرن العشرين، والحسن الثاني قتل الآلاف واعتقل الآلاف، وعبد الناصر قتل واعتقل الآلاف من المصريين، وصدّام قتل واعتقل الآلاف، والسيسي الآن قتل الآلاف وعنده عشرات الآلاف من المعتقلين، ولا تستثني أحداً من حكام العرب، فأيديهم جميعاً ملطخة بدماء شعوبهم…!!!
6 ـ شمعون بيريس يتجسس لصالح إسرائيل: عندما كان بيريس ضابطاً في الموساد الإسرائيلي فكان هو المكلف بالتعامل وتدريب الجاسوس المصري الشهير أحمد الهوان في الفترة ما بين عام 1967م و1977م.
بينما حكام العرب باعوا أوطانهم من أجل البقاء في كراسي حكمهم، فما من حاكم عربي إلا ويقدّم فروض الطاعة لإسرائيل ولأمريكا والغرب أو روسيا والصين، فحكامنا الآن يقدمون لإسرائيل كل ما تحتاج من معلومات وتسهيلات… وما زيارة رئيس المخابرات السعودية السابق أنور عشقي لإسرائيل ببعيدة عنّا.
7 ـ شمعون بيريس وزياراته السرية التنكريّة لزعماء العرب: كان بيريس يزور زعماء العرب بشكل سري، وأحياناً يكون متنكراً، ففي عام 2014م كشف بيريس على حسابه “الفيسبوكي” كيف كان يتنكر ليزور الملك حسين، فزار بيريس الملك حسين عام 1974م عدة مرات، وكان بيريس يومها وزيراً للدفاع وكان رئيس الحكومة إسحاق رابين، وزاره عام 1987م وكان يومها وزيراً للخارجية في عهد إسحاق شامير.
وزار كذلك بيريس الحسن الثاني ملك المغرب، ويقال كان هناك لقاءات سرية عديدة مع مسؤولين خليجيين…
إذن حكام العرب يُظهرون العداوة لإسرائيل وهم من تحت الطاولة ينسّقون مع إسرائيل، ولقد برّر بيريس أنّ اللقاءات كانت سريّة حتى لا يحرج الطرفين…!!!
والتاريخ سيذكر الخفايا العظام التي يخفيها حكام العرب عن شعوبهم المقهورة…
8 ـ شمعون بيريس ولعبة السلام: كان عرّاباً للسلام بين إسرائيل والعرب، وعُرف بدهائه وهدوئه ونظره البعيد، فانتزع فلسطين من العرب وهم يضحكون؛ بل انتزع السلام مع العرب قبل أوسلو من خلال زياراته السرّية للعرب…
أما الحكام العرب فكانوا يهرولون بين يدي بيريس والإسرائيليين، فوقّع حكام العرب اتفاقية كامب ديفد عام 1978م، واتفاقية أوسلو 1993م التي تنازل فيها عرفات عن 78% فلسطين، واتفاقية وادي عربة عام 1994م، وجميع هذه الاتفاقيات كانت لمصلحة إسرائيل، وليت إسرائيل التزمت بهذه الاتفاقيات، وجميع العرب ـ وإلى الآن ـ يهرولون باتجاه الاتفاقيات مع إسرائيل، ويتمنّون أن تتكرّم عليهم إسرائيل بقبول مبادرة الملك السعودي عبد الله للسلام في الشرق الأوسط التي بادر بها عام 2002م، وهي مبادرة بالنتيجة تقبل بإسرائيل دولة محتلة لفلسطين المقدّسة، لكن هيهات أن تقبل إسرائيل بهذه المبادرة السخيّة…!!!
9 ـ شمعون بيريس بطل الاستيطان: خلال تولّيه منصب وزير الدفاع اهتم بيريس بتقوية الحركة الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967م.
أما حكام العرب ـ المتخومون بالأموال ـ فيبخلون حتى بالأموال على الفلسطينيين المقدسيين لمنع تهويد القدس…
10 ـ شمعون بيريز والدّين اليهودي: لم يكن أبواه يهوديين متدينين، لكنّ بيريس درس التلمود في صغره على يد جدّه، وأصبح ملتزماً دينياً.
أما حكام العرب فهم يحاربون الدين الإسلامي ليل نهار، تارة بشكل مباشر باسم القومية والتقدمية والحداثة والاشتراكية والليبرالية، ومرّة بشكل غير مباشر وذلك من خلال تقديم النماذج الإسلامية المنحرفة التي تحاول تشويه صورة الإسلام…
11 ـ شمعون بيريز وسلوك زوجته: تزوج شمعون بيريس سونيا غلمان التي تعرّف عليها أثناء دراسته، وكانت تخدم في صفوف الجيش البريطاني خلال فترة الحرب العالمية الثانية، وطوال ظهور زوجها السياسي والإعلامي كانت ترفض الظهور والترف والإسراف، وعندما أصبح زوجها رئيساً لإسرائيل رفضت أن تعيش في البيت الرئاسي، وفضّلت أن تعيش في بيتهم المتواضع في تل أبيب.
أما نساء الزعماء العرب فمنهج آخر، فالزعيم العربي يخلق لنا زعيمة عربية يُسمونها زوراً وبهتاناً بـ “السيّدة الأولى”، فبشار الأسد اخترع لنا أسماء الأسد، ومبارك اخترع سوزان مبارك، ومللك الأردن اخترع لنا رانيا وآخر سلمى…
فنحن لم نصدّق الخلاص من ” السيّد الأوّل” حتى رجمونا “بالسيّدة الأولى”…
و”السيّدة الأولى” من حيث الحقيقة لا تفقه لا في السياسة ولا في الاقتصاد ولا في الاجتماع…لكنّها زوجة الزعيم أو الملك أو السلطان…
لكنّ السيدة الأولى بالتأكيد تعيش في أحسن القصور، وهي سيّدة في الرفاهية والإسراف والموضات والحفلات…
وصفت صحيفة “ديلي ميل” أسماء الأسد بأنها مثل زوجة ملك فرنسا لويس السادس عشر ماري أنطونيت صاحبة المقولة المشهورة “إن لم يكن هناك خبز للفقراء دعهم يأكلوا كعكاً”، فالسيدة الأولى تتسوّق أكثر فأكثر عبر الإنترنت لشراء ملابس ومنتجات صحية باهظة الثمن وأطعمة، في الوقت الذي يفترش فيه السوريون الأرض في بلاد النزوح واللجوء…وتضيف الصحيفة بأنّ أسماء أنفقت مبالغ هائلة لشراء ثريات بوهيمية من براغ، وبأنها تطلب بشكل منتظم أطعمة غربية لأولادها كي لا يضطروا لأكل الطعام السوري طوال الوقت، وذَكَّرت الصحيفةُ بالوثائق الكثيرة والغريبة التي نشرها موقع ويكيليكس عن ترفها وبطرها…
وما يقال عن أسماء يقال عن غيرها من سيّدات الدرجة الأولى والأميرات العربيات…!!!
12 ـ شمعون بيريس وأولاده: كان له ثلاثة أولاد شقوا طريق حياتهم بأنفسهم، وليس على حساب أمجاد أبيهم، وهم: تسفيا فالدن (وهي بروسوفور في العلوم اللغوية) ويهونتان بيرس (وهو طبيب بيطري) ونحاميا بيريس ( وهو مهندس، شريك ومدير مؤسِّس لصندوق رأس مال مخاطر).
أما أولاد حكامنا فلا تسأل عنهم، سرقوا بلادهم، وطغوا على أبناء بلادهم…فأصبحوا سادة والناس عبيداً لهم…ومن لا يصدّق فلينظر إلى آل الأسد في سوريا، وآل مبارك في مصر، وآل حسين في العراق، وجميع الأمراء في دول الخليج…
ولنتذكّر شهر تموز من هذا العام الذي تزوج فيه أحدُ أبناء الملك سلمان، فكانت أفراحه في مدينة طنجة في المغرب، وبقيت مراسم الأفراح لمدّة شهر كامل من 12 تموز ولغاية 12 آب، وحُجزت فيه أغلب الفنادق المصنّفة بمدينة البوغاز التي تزينت لاستقبال العروسين والأسرة الملكية وضيوف الملك سلمان، ومن بينهم عدد من الرؤساء والملوك العرب، هذا عدا عن الشقق المفروشة الأخرى، وتكفل الملك بجميع مصاريف الضيوف…
13 ـ جنازة شمعون بيريس: حضر جنازته في 30 أيلول 2016م ما يقرب من 90 وفداً من 70 دولة في العالم على رأسهم أوباما وهولاند…وشاركت ست دول عربية في هذه الجنازة، على رأسهم محمود عباس، وسامح شكري وزير خارجية مصر، ومستشار ملك المغرب، وخميس الفارس سفير سلطنة عمان، ومبعوث وزارة خارجية البحرين، ونائب رئيس الوزراء الأردني جواد العناني، وكلّ زعماء العرب كان يمكن أن يشاركوا بأنفسهم لولا بقية التمثيل المغشوش باسم الوطنية والقومية والإسلام…
أما من رفض ـ بحق ـ حضور هذه الجنازة هم النواب العرب في الكنيست الإسرائيلي وعلى رأسهم النائب أيمن عودة، فطوبى لهم…
وفي النهاية نقول: سيذكر التاريخُ أنّ ملوكنا وسلاطيننا وزعماءنا ورؤساءنا وأمراءنا… يقتلون الآمالَ والأحلام في أجيالنا…
يُميتون الفكرَ في رؤوسنا..
يسرقون ثرواتنا…
يُزيّنون المنكرَ في نفوسنا…
يُفسدون الدماء في عروقنا..
لكنْ من قال: إنّ جذوة الحق تموت ..!!؟
سيخرج من هذه الأمَّة مَنْ يحمل هَمَّ أُمّة، ومَنْ حمل هَمَّ أمّة صنع أمّة…
والفجر قريب…