لا تأتي الدهشة من أن نظام عبد الفتاح السيسي لم يتذكّر أن ينعى ضحايا الفرار من أيامه السعيدة.. هو لا يحبهم ولا يريدهم.. هم فقراء بسطاء، ليسوا من المرحّب بهم في خرابته السعيدة، وإن لم يموتوا غرقاً يقتلهم هو تعذيباً أو إهمالاً أو مرضاً، أو يستعمل أقصى درجات الرحمة، فيطلق حناجره المسعورة تنهشهم، وتطالبهم بالرحيل إلى الجحيم.
تنبع الدهشة من أن أحداً لم يرسل برقية عزاء إلى مصر، حكومة أو شعباً، في حادث مركب رشيد الغارقة، لا دولة عربية، ولا اتحاد أوروبي، ولا هيئة أممية، ولا منظمة أو مجلس لحقوق الإنسان.
في مصر، لك أن تتخيّل، يوجد شيء اسمه المجلس القومي لحقوق الإنسان، بعض أعضائه من المتورطين في التحريض على إراقة دماء شهداء رابعة العدوية، وما تلاها، لم نسمع أن هذا المجلس نعى شهداء محاولة الفرار من جحيمٍ مستعر، أو أعلن الحداد. كل ما صدر عنه أنه أرسل بعثة إلى موقع الكارثة للتقصّي والتحقيق، حتى الدكتور محمد البرادعي الذي استقال بعد وقوع مذبحة رابعة، أطلق تغريدة يقول فيها “قد يكون من الواجب أن نعلن الحداد”، ومضت أيام على هذه الـ”قد”، ولم يتأكّد بعد ما إذا كان الضحايا يستحقون الحداد، أو لا يستحقون.
على بعد ثلاثة أيام من اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني 2011، تحدثت عن “جراكن الكيروسين التي تحكم مصر”، وتقودها إلى الحريق بكل مكوناته، الاجتماعية والطائفية والسياسية.. والآن، بعد ما يقرب من ست سنوات، تبدو مصر محكومةً بمجموعة من البراميل المتفجرة، تستعجل خراباً محمولاً يسير على قدمين. طائفية واجتماعية، فيما بترت القدم السياسية، بفعل غرغرينا أصابت السياسة في مقتل، منذ صعد عبد الفتاح السيسي إلى الحكم.
حالة “الهلوسة” التي تعصف بالنظام الرسمي في مصر الآن هي الأخطر في تاريخها على الإطلاق، إذ لم تعرف دولةٌ في العالم نظاماً ينفخ في نار الاحتراب الداخلي، كما يسلك نظام السيسي الآن. وهنا، يجدر التوقف عند مسألتين شديدتي الخطورة، الأولى: المعالجة الرسمية لفاجعة مركب رشيد، والثانية: الأصابع الخفية التي تتحرّك في الظلام، لتصبّ زيتاً مغلياً على نارٍ طائفيةٍ، يجري تأجيجها في الصدور، واتخذت شكلاً سافراً بمناسبة استعراض السيسي في نيويورك.
يظهر النظام، بتنفيذييه وإعلامه، عداءً عنصرياً بغيضاً للقطاعات المطحونة في الشعب المصري، ويرى فيها أوراماً سرطانيةً تهدّد “التنمية الكاذبة”، ويجب استئصالها، مع الفشل في معالجتها، الأمر الذي يفرز مناخاً عدمياً، تذهب فيه قيمة المواطنة أدراج رياح شوفينيةٍ وفاشية تمنح المواطن المصري، الناقم على تردّي الأحوال الاقتصادية والاجتماعية، شعوراً بأن وطنه ينكره، ولا يريده.
يتزامن ذلك مع نوبة جنونٍ سلطويةٍ يهبط فيها العقل الحاكم إلى ما تحت مستوى اللوثة العقلية، باختراع تنظيمٍ يقود مخططاً لإشاعة المناخ التشاؤمي ضد التنمية، وأظن أنه، بالوصول إلى هذه المرحلة من المرض العقلي، لنا أن نحبس الأنفاس قلقاً مما هو آتٍ من سلطةٍ تمضي كأنها شاحنة مسرعة، بلا مكابح، يقودها سائقٌ فاقد الوعي، إن لم ينجح أحدٌ في السيطرة عليها، وإيقافها ستهوي بالجميع إلى قاع سحيق.
الأخطر ما تعج به وسائل التواصل الاجتماعي من تسجيلاتٍ مسربةٍ لرجال كنيسة، يبدو محتواها أخطر على مصر من قنبلةٍ نووية، بما تحمله من عوامل استدعاء مخيفة لمخزون الاحتقان الطائفي المتصاعد منذ نكبة يونيو/ حزيران 2013، والذي يصل الآن إلى مستوياتٍ أكثر خطراً مما كان في الأسابيع السابقة على ثورة يناير/ كانون الثاني 2011، عقب تفجير كنيسة القدّيسين، ولجوء نظام حسني مبارك إلى هذه اللعبة الخطرة، بعد أن استشعر خطر النهاية.
والخطر، هذه المرّة، أكبر وأفدح، ذلك أنه قبل ست سنوات لم يكن الجيش متورّطاً في اللعبة، بالعمق والوضوح الظاهرين الآن، بل كان لا يزال، ظاهرياً على الأقل، يصلح مانعاً للانزلاق إلى الجحيم، أما الآن فنحن بصدد سلطةٍ لا تتوانى عن الدفع بالبلاد إلى الحريق، في ظل غيابٍ كاملٍ لما كان يعرف بعقلاء السلطة والمعارضة، حيث التنافس على أشدّه في ماراثون السباحة بنهر الجنون.