حدثت مؤخرا حالة كبيرة من الجدل بدأت منذ أيام قليلة، عندما نشر موقع عربي21 “تسريبا” لما قيل إنه إعلان مبادئ، توافق عليه مجموعة من النشطاء من اتجاهات مختلفة من الأطياف كافة، اجتمعوا في العاصمة الأمريكية واشنطن، ولذلك انتشر إعلاميا باسم “مبادرة واشنطن”، حول ما هو متفق عليه من مبادئ بين هذه الأطراف لمستقبل مصر، وقد أثار هذا التسريب استغراب، بل استياء الكثيرين على وسائط التواصل الإجتماعي؛ لأنه حدث دون أي تمهيد، وانطلق من مكان مثير للجدل، كما حوى مادة صادمة للغالبية تتحدث عن أن “الدولة لا هوية ولا مرجعية لها إلا مدنيتها… ولا يتدخل الدين في الدولة، ولا تتدخل الدولة في الدين…إلخ”، مما استفز الكثيرين ودفعهم لأخذ موقف عدائي من هذه الوثيقة المسربة، وهذا بالطبع مفهوم في إطار الملابسات التي ذكرتها.
وقد انتهز البعض الفرصة ممن هوايتهم الاصطياد في الماء العكر، وقاموا بمهاجمة من ذكرت أسماؤهم في التسريب بشراسة، ثم تعدوا ذلك كالمعتاد بمهاجمة كل من يدعو إلى الاصطفاف والعمل الوطني المشترك، ومنهم كاتب هذه السطور، وادّعوا مثلا مشاركتي في هذا اللقاء، وأنني تنازلت عن الشرعية وبعت الدين والدنيا، إلى آخر القائمة المعتادة من الافتراءات، وهو ما جعل، نظرا لحساسية ما نشر في الوثيقة المسربة، الكثيرين يقعون فريسة تصديق هذه الأوهام “العكاشية”، التي أصبحت مع الأسف ذات أثر كبير عند الكثيرين من أبناء شعبنا الطيب، حيث ساهمت هذه الطريقة الإعلامية في إسقاط رئيسنا الشرعي المنتخب شعبيا الدكتور محمد مرسي، وهذا ما اضطرني لكتابة عدد من التغريدات أنفي فيها مشاركتي في هذا اللقاء أو علمي بالوثيقة المسربة، وطلبت ممن حضر اللقاء أن يصدروا توضيحا لما تم درءا للشبهات ودفعا للفتن، وأطلقت على من سرب متعمدا هذه الوثيقة دون علم أصحابها، ثم تعدى ذلك إلى ضرب مبدأ العمل الوطني المشترك من أساسه، بمن يخدم الأجندة المخابراتية، ولم أقصد بالطبع من شاركوا في هذا اللقاء، فلهم مني كل الاحترام و التقدير.
وحقيقة لم أكن أنوي الخوض أكثر من ذلك في هذا الموضوع، مكتفيا بما كتبته من تغريدات، وما أجريته من اتصالات بالبعض ممن حضروا اللقاء لأستوضح الأمر، ثم أبلغهم رأيي في إصدار مثل هذه الوثيقة، وأيضا ما احتوته من بعض المواد، إلا أنه بعد أن بدأ بعض المشاركين في اللقاء في كشف حقيقة ما حدث، وتم نشر المسودة التي توافق عليها الحاضرون بالفعل، رأيت أن هذه فرصة لأوضح رأيي في هذا الموضوع، وأهم من ذلك وجهة نظري في أولويات العمل الوطني في هذه المرحلة.
بداية، أؤكد مرة ثانية احترامي الشديد لكل من شارك في هذا اللقاء، وأثمن حرصهم ورغبتهم في تحقيق شيء من الإجماع الوطني الذي تحتاجه الثورة المصرية في هذه المرحلة المهمة من تاريخها، وأن أي رأي مخلص يتم طرحه هو رأي مقدر ومعتبر، طالما لم يحاول صاحبه فرضه على الآخرين، وهذا ما يدفعني لنشر رأيي لما أراه من وجهة نظري تصحيحا للمسار، ولما ينبغي على الساعين للعمل الوطني المشترك بوجه عام أن يضعوه كأولويات؛ كي ينحّوا ما يزيد الفرقة والاختلاف جانبا لوقت يكون أكثر مناسبة لمناقشة مثل هذه الأمور بهدوء.
وقد علمت أن هناك بالفعل من طرح الصياغة التي صدمت الكثيرين، لكن الغالبية العظمى من الحاضرين، سواء من الإسلاميين أو من غيرهم، رفضوا هذا الطرح انطلاقا من تصادمه مع ما يؤمن به معظم أبناء الشعب المصري، وتم توثيقه دستوريا بداية من دستور 1923 باعتبار أن الإسلام دين الدولة، وما لحق بعد ذلك من تعديل لدستور 1971 بأن مبادئ الشريعه الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وهو ما لم يتغير فيما لحق ذلك في دستور 2012، وحتى في ظل الدستور الذي أنتجه النظام الانقلابي في 2014، وقد أدى ذلك الرفض إلى استبدال هذه المادة المقترحه بصياغة أخرى، ما دعا من طرح الصياغة الأولى للانسحاب من الاجتماع. وهنا يبرز سؤال مهم: ما الذي دعا من سرب الوثيقة إلى إغفال هذا التعديل، بشكل متعمد، ليثير كل هذه الشكوك ويضرب في مصداقية أصحاب الوثيقة، ويتعدى ذلك إلى آخرين لم يشاركوا في هذا العمل أصلا؟ هذا حقيقة ما دفعني لنعت من يقوم بهذا العمل بخدمة أجندة مخابراتية.
أما السؤال الآخر الجدير بالإجابة فهو: ما جدوى طرح مثل هذه الأمور المتفق عليها أصلا بين الأغلبية الساحقة من الشعب المصري فيما يتعلق بهويتهم الدينية والحضارية في هذا التوقيت؟ وهل علينا إذا أردنا تحقيق الاصطفاف الوطني أن نسعى لتضييق هوة الخلافات، أم نسعى لتوسيعها بما هو غير مطروح أصلا؟ ويترتب على هذا السؤال سؤال آخر أكثر أهمية: هل من الأفضل الآن أن ننفق الوقت والجهد في النقاش على مبادئ ما نسعى لتحقيقه بعد استعادة إرادة الشعب وانتصار الثورة انتصارا تاما، أم نركز في أمور أخرى أكثر أهمية وعجالة؟ ما فائدة طرح أمور مختلف عليها ولن تستطيع نخبة صغيرة مهما بلغ تنوعها حسمها بعيدا عن إرادة الشعب، وقد توحي للبعض بمحاولة فرض مواد ذات طبيعه “فوق دستورية” ليس هذا أوانها، وتتطرق لأمور، على سبيل المثال، من قبيل “المساواة التامة بين كل المواطنين”، وما يمكن أن يترتب على “الالتزام التام بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان”، وهو ما يرى فيه الكثيرون في بلادنا مخالفة صريحة لأحكام الشريعة الإسلامية في بعض المواضيع مثل المواريث والعلاقات الأسرية وغيرها، ومثل هذه الأمور التي تحتاج تفسيرا وتفصيلا، وموضعها يكون الدساتير المتكاملة المعتمدة شعبيا، وليس من خلال مبادئ نخبوية؟
لقد خلصت من هذا، ومن واقع تجربتي خلال العامين الماضيين في العمل على مشروع الاصطفاف الوطني، إلى قناعة مؤداها أن محاولة طرح مثل هذه المبادئ والوثائق والإعلانات سيؤدي دائما إلى تفخيخ العمل، ولن يوصل إلى الغرض الذي تفرضه طبيعة المرحلة من تحقيق أكبر قدر ممكن من الإجماع الوطني حول قضايانا المصيرية. ولهذا فأنا أبدي تحفظي المبدئي على مجرد إصدار مثل هذا الإعلان، بصرف النظر عن محتواه، وأنا هنا لا أصادر حق أي مجموعة من الأفراد أن تجتمع وتناقش وتصدر ما تراه صوابا، وتتحمل في المقابل الآراء المخالفة والانتقادات التي يمكن أن توجه إليها، ولكني أطرح رأيي المتواضع في هذا الموضوع لعل فيه الفائدة. أما والأمر كذلك، فما هو واجب الوقت، من وجهة نظري، وما هو الذي ينبغي علينا أن ننشغل به الآن؟
للإجابة على هذا السؤال، رأيت أن أعود لما يسمى بفقه المقاصد، الذي يلزمنا الآن أكثر من أي وقت مضى، في زمن تكثر فيه الفتن والمحن وتتعدد فيه الخيارات المتاحة بما يدعو إلى اتباع منهجية محكمة في الموازنة بين الخيارات واختيار الأولويات ودراسة المآلات، إلى غير ذلك مما يخرج شرحه عن الهدف من هذا المقال، وأدعو القارئ بدلا من ذلك إلى الرجوع لدراسة متميزة نشرها مؤخرا الأصولي البارز د. وصفي أبو زيد على موقع المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية تحت عنوان: مقدمات أصولية في ضبط العمل الثوري وترشيده، وقد استعرض من خلالها صنفين من المقاصد، “الأولى: المقاصد العالية أو المفاهيم التأسيسية، وهي التي تواضعت عليها البشرية، وتلاقت عليها الإنسانية في كل عصورها، مثل الحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، والأمن الاجتماعي، وغيرها من مقاصد عالية. وهذه المقاصد هي البيئة التي تطبق فيها الأحكام، وينبت فيها الشرع، وتحفظ فيها المراتب الأخرى من المقاصد، فلن نستطيع تحقيق حفظ ضروريات المقاصد إلا في حضن الحرية والأمن والعدالة والكرامة؛ فلا حفظ للنفس أو المال أو العرض في غياب الأمن والحرية والعدالة. الثانية: المقاصد الضرورية، وهي حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال، وأضاف بعض الأصوليين العرض كلية سادسة للضروريات”.
بالنظر إلى هذا التصنيف، تترسخ قناعتنا بالفعل في عدم إمكانية حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال والعرض، مما نشاهده بأعيننا يُنتهك كل يوم عشرات المرات بواسطة النظام الانقلابي الاستبدادي، دون تهيئة البيئة الحاضنة من الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، ويصبح بذلك أول الأولويات السعي لتحقيق هذه المقاصد العليا، الذي لن يتم إلا بالتخلص التام من النظام الانقلابي العسكري المستبد، واسترداد إرادة المصريين في اختيار من يحكمهم، ويطلق قدراتهم للبناء والنهوض، ومن ثم يصبح التوافق حول هذه المقاصد العليا، دون تفصيل، كافيا لتحديد الحد الأدنى من التوافق ينطلق بعده الجميع في العمل المشترك دونما كثير من الجدل حول مبادئ فوق دستورية ومصطلحات سياسية، بما يؤدي إلى الفرقة أكثر مما يؤدي إلى الوحدة.
وبإعمال فقه الموازنات والأولويات والمآلات، أرى أن يكون التركيز الآن، دون الكثير من الشرح والإيضاح، الذي ربما تتاح الفرصة له في مجال آخر، على العمل الجبهوي التوافقي من خلال مسارين كبيرين لا ثالث لهما، الأول هو مسار إنهاء الحكم العسكري الانقلابي، والثاني هو مسار الإعداد لإدارة الدولة خلال المرحلة الانتقالية بعد كسر الانقلاب بإذن الله. ويتضمن المسار الأول ثلاثة أهداف رئيسية؛ الأول هو السعي والتنسيق لتكوين جبهة سياسية واسعة ذات مشروع سياسي توافقي من أكبر قدر ممكن من الطوائف الثورية والمجتمعية المتفقة على المقاصد العليا، التي تمت الإشارة إليها، وعلى وجوب إسقاط النظام العسكري وليس فقط معارضته من داخله، والثاني هو استنهاض همة الشعب ليهب هبّة واحدة يحصل فيها على حقوقه باستخدام وسائل المقاومة المدنية كافة؛ المشروعة والمبتكرة التي استخدمها الكثير من الشعوب الأبية من قبل لاستعادة حريتها من النظم المستبدة في ظل حالة القمع والعسكرة المفروضة، والثالث هو السعي لدى شعوب العالم الحر لفضح النظام الظالم الفاشل باستمرار وكسب أكبر قدر ممكن من الدعم الشعبي والرسمي الدولي للثورة، بما يفقد النظام المشروعية التي اغتصبها من نظام ديمقراطي شرعي منتخب.
وعلى الجانب الآخر، فمن المهم بمكان السعي من الآن على المسار الثاني (الإعداد للمرحلة الانتقالية) المتضمن أيضا ثلاثة أهداف رئيسية، الأول هو حماية النظام الثوري بعد كسر الانقلاب من قوى الثورة المضادة التي ستعمل على إعادة إنتاج نفسها كما فعلت من قبل، والثاني هو تلبية الاحتياجات العاجلة لمعاش المصريين حتى يبدأوا في تذوق ثمرة انتصار الثورة، فيعملون بجد على حمايتها من أعدائها، والثالث هو تهيئة البيئة الملائمة لإنتاج مشروع بنائي تنموي يشارك فيه المصريون لبناء بلدهم على أسس سليمة، وتحقيق الأهداف الأصيلة لثورة يناير المجيدة. وبالطبع هناك تفاصيل كثيرة عن كيفية السعي لتحقيق هذه الأهداف، من خلال مشاريع تشاركية كثيرة تتاح فيها مشاركة جميع المصريين مما لا يتسع له المقام هنا الآن.
إلا أنني في الختام أود أن أشير إلى نقطة مهمة، فالعمل الوطني المشترك يقتضي إدراك أن من يجمعهم هذا العمل هم مختلفون بالضرورة حول الأيديولوجيات والأفكار ومسارات العمل في المستقبل، وإلا لو كانوا متفقين على كل شيء، فما الداعي للحديث عن الاصطفاف أصلا؟ إن البدء من هذه النقطة مهم جدا لعدم التوقف حول ما سيعترض العاملين من اختلافات طبيعية حول المستقبل، فعلى سبيل المثال هناك من هم مثلي ممن يرون ضرورة عودة الرئيس الشرعي د. مرسي لممارسة مهامه الرئاسية بعد كسر الانقلاب، ويكون طرفا في تقرير مسار أية مرحلة انتقالية مقبلة، كونه آخر رئيس مدني منتخب بحرية وشرعية من الشعب، مع ابتكار طرق تتجلى فيها الإرادة الشعبية لتأكيد هذا المسار، لكن هذا لن يمنع الآن من التعاون والعمل المشترك مع من يرى ضرورة العودة للشعب من اليوم الأول لكسر الانقلاب لتحديد المسار السياسي خلال المرحلة الانتقالية، ليكون هذا العمل المشترك، رغم الاختلافات، مركّزا لتحقيق المقاصد العليا المشار إليها آنفا، مما يعني بالضرورة إخراج د. مرسي من محبسه، ليتم التوافق وقتها على سبل إدارة المرحلة الانتقالية، في وجود الرئيس حرا طليقا.
هذه هي المهام التي أراها واجب الوقت الآن، بدلا من الانشغال بمحاولة حسم أمور خلافية وإصدار إعلانات مبادئ ليست من الأولويات الآن في ظل غياب المقاصد العليا، التي ستفتح الباب لتحقيق كل ما يتمناه المصريون. ألا هل بلغت، اللهم فاشهد.