للحديث عن العلاقة بين السعودية والإسلام الوسطي ـ الممثل بالمذاهب الأربعة فقهاً، وبالماتريدية والأشعرية عقيدة، وبالتصوّف أخلاقاً، وبحركة الإخوان المسلمين سياسة، لهذا الحديث أشجان ومحاذير كثيرة…
ونؤكد أنّنا في هذا المقال لا نقصد الانتقاص أو الطعن بساسة المملكة، أو مديح الإسلام الوسطي؛ لكنّها الحقيقة العلمية التي تقتضي البيان في زمن حرج تمرّ به الأمّةُ العربية، والاستقراء التاريخي يُظهر بوضوح ما سنصل إليه…
ونؤكّد كذلك أنّنا سنتناول العلاقة بين المملكة والإسلام الوسطي من الناحية السياسية فقط، وسنعتبر أنّ حركة الإخوان المسلمين هي التي تمثل التيار الوسطي من الناحية السياسية، والذي جعلنا نعتبر الإخوان المسلمين تمثل التيارَ السياسي للإسلام الوسطي هو منهجها المعتدل الذي استوعب أهل السنة والجماعة، وانتشارها في معظم العالم الإسلامي كتيار سياسي حاضر وفاعل، ولعدم وجود منافس حقيقي إسلامي لهذه الجماعة من الناحية السياسية، والحركات السياسية الإسلامية الأخرى قد تأثرت بها أو تمشي على خطاها وإن اختلفت الأسماء…
وبداية لابدّ من السؤال العريض الآتي: ما هي طبيعة العلاقة بين المملكة العربية السعودية وبين الإخوان المسلمين..!!؟
بالحقيقة إنّ العلاقة بين المملكة السعودية وبين جماعة الإخوان المسلمين هي علاقة عداء، وهذا العداء في عمومه، هو عداء من طرف واحد، وهو جانب المملكة السّعودية، وعلى مدار الأسرة الحاكمة السعودية لم يكن هناك تصالح مع الإخوان المسلمين إلا في عهد الملك فيصل رحمه الله، وقبل هذه الفترة وبعدها كان عداء المملكة للإخوان مستمراً، ولنضرب على ذلك بعض الأمثلة:
1 ـ في آذار عام 2014م تمّ تصنيف الإخوان المسلمين كمنظمة إرهابية، مثلها كمثل الحوثيين وحزب الله السعودي وتنظيم القاعدة بفروعه المختلفة، وأكّد وزير الخارجية السعودي الجبير على تصنيف الإخوان كمنظمة إرهابية عام 2016م.
2 ـ حظر أية حركة أو نشاط لتنظيم الإخوان المسلمين في معظم دول الخليج، والسجن أو التصفية هي مصير كلّ من يثبت تنظيمه أو علاقته أو تعاطفه مع الإخوان المسلمين، وهذا صرّحت به وزارة الداخلية السعودية…
3 ـ ظهور الجامية في السعودية، وتتلقى تشجيعاً من ساسة المملكة، والجامية تقوم بهجوم سياسي وعقدي على تنظيم الإخوان العالمي، ووصل الأمر بالجامية إلى التخوين والتكفير والاتهامات العريضة…
4 ـ لعبت المملكة العربية السعودية الدور الجوهري في الانقلاب العسكري المصري بقيادة السيسي، وما زالت مع بعض دول الخليج تقدّم الدعم السياسي والاقتصادي إلى نظام السيسي خوفاً من سقوطه، وعشرات المليارات من الدولارات التي قدّمت لنظام السيسي مثال على ذلك…
5 ـ دورها العدائي لحزب الإصلاح في اليمن واضح، فهي اتبعت وتتبع كلّ الوسائل للحيلولة دون وصول حزب الإصلاح لقيادة اليمن…
6 ـ هناك حرب إعلامية على الإخوان المسلمين وفي مختلف وسائل الإعلام، ومختلف تلك الوسائل تتبع للملكة العربية السعودية بشكل مباشر أو غير مباشر، ويساعد المملكة في ذلك ساسة الإمارات العربية المتحدة، وقناة العربية وسكاي نيوز مثال على ذلك…
7 ـ بعد أن وصل حزب العدالة والتنمية ـ المحسوب على الإسلام المعتدل ـ إلى الحكم في تركيا، حاول هذا الحزب أن يوطّد العلاقات مع العرب وخاصّة المملكة العربية السعودية، لكنّه فشل بامتياز، وكانت السعودية لا ترغب في علاقة استراتيجية مع تركيا، حتى أنّ بعض الجهات تشير إلى تورّط السعودية والإمارات ولو بشكل غير مباشر في الانقلاب الفاشل في تركيا، وعلى كلّ حال لم تكن إدانة السعودية للانقلاب إلى بعد فشله وبعبارات باردة…
8 ـ دعم السعودية الأحزاب التي تعادي الإخوان المسلمين، حزب النور السلفي في مصر مثال على ذلك…
والآن يأتي سؤال هام: لماذا تعادي المملكة العربية السعودية الإخوان المسلمين ..!!؟
تعادي المملكة السعودية الإخوان المسلمين؛ لأنّ الإخوان عندهم مشروع سياسي اجتماعي اقتصادي…وهذا المشروع يحاول أن يأتي بتطبيق الإسلام كاملاً، بحيث يكون نموذج حياة كاملة ومتكاملة تسبق الأنظمة العالمية الرأسمالية والاشتراكية…وهذا المشروع الوسطي يجد في كلّ الشارع الإسلامي جمهوراً واسعاً يتلهّف لتطبيقه…وكلّ التجارب أشارت إلى أنّه عندما تتيح الظروف لهذا المنهج التطبيق فإنّه يعطي النتائج الايجابية السريعة من حيث التأييد الجماهيري، ومن حيث إحداث النهضة الشاملة…
ففي تركيا خلال أربعة عشر عاماً من حكم العدالة والتنمية أصبحت تركيا دولة لها وزنها العالمي، فصنعت الطائرات والغواصات والدبابات والسيارات والإلكترونيات…أصبحت الاقتصاد رقم 16 في العالم، وتطمح في عام 2024م أن تكون ضمن الدول الست الأولى في العالم…
وفي مصر عند أول انتخابات حرّة فاز الوسطيون، لكن تمّ الانقلاب عليهم خوفاً من أن تُؤتي هذه التجربة ثمارَها في المستقبل…!!
وفاز الوسطيون في المغرب وتونس وليبيا…لكنْ لابدّ من وأد تجاربهم حتى لا تُؤتي ثمارَها في المستقبل…!!
أما في المملكة فلا يوجد عندهم مشروع نهضوي متكامل قادر على منافسة المشروع النهضوي المعتدل، فالساسة من آل سعود ومنذ القرن الثامن عشر يعتمدون على الوهابية كمنهج إصلاحي ديني، فأصبح وجودهم التاريخي والسياسي مستنداً في مشروعيته واستمراره إلى ذاك الفكر، وسخرّت السعودية كل إمكاناتها المالية والإعلامية على مدى عقود لتصدير هذا الفكر إلى العالم الإسلامي؛ بل أصبح هناك في العالم الإسلامي تياران يتنازعان في تصدير المناهج، تيار تصدير الثورة الخمينية، وتيار تصدير الوهابية (أو السلفية كما يسميها البعض)، وبعد ما يقرب من مئة سنة لم يستطع السّعوديون أن ينجحوا في إثبات قدرة منهجهم على بناء نهضة حضارية، فالسعودية إلى الآن تصنف ضمن منظومة “الدول المتخلّفة”، ولو كانت إمكاناتها المالية العظيمة استثمرت وفق مشروع نهضوي حقيقي لوجب أن تكون من أوائل الدول الحضارية في العالم، لكن ما زالت ضمن “الدول المتخلفة” التي تستهلك ما لا تنتج، وما يُتنج في أراضيها معظمه بأيدي عاملة أجنبية؛ إذ بلغ عدد المقيمين في السعودية 31 مليوناً منهم 11 مليوناً من الأجانب حسب الاحصاءات السعودية…!!!
فالسعوديون لم يُقدّموا المشروع النهضوي؛ بل اعتمدوا على شعار عام يدعو إلى تطبيق الكتاب والسنّة، ولم ينزلوا من الشعار إلى المشروع الاقتصادي السياسي الاجتماعي القابل للتطبيق، والذي يُترجم الشعار إلى واقع؛ بل أكثر ما في الأمر أغرقوا العالم الإسلامي بخلافات عقدية وفقهية فرعية كان من الواجب الابتعاد عنها في مراحل بناء الأمم؛ بل يحاولون محاربة الاسلام الوسطي في الدول الاسلامية ليحل مكانه المنهج السلفي (الوهابي)، ظنّاً منهم أنّهم الحق وما سواهم إلا الضلال…
أما على الواقع لا وجود لهذا المشروع، فمازال الاقتصاد السعودي ليبرالياً يتعامل بالربا، فهناك 50% من المصارف في السعودية غير إسلامية، وما زال النظام السياسي جبرياً يعتمد على أسرة واحدة منذ مئات السنين، فالأحزاب السياسية وتداول السلطة والانتخابات كأنها من المحرّمات، وما زالت منظمات المجتمع المدني غائبة…
إذن تعادي السعودية مشاريع الإسلام الوسطي السياسي؛ لأنها لا تملك مشروعاً نهضوياً متكاملاً، بينما الوسطيون يملكون مشروعاً نهضوياً متكاملاً على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي له أرضية شعبية واسعة…وبالتالي تحاول السعودية أن تستأصل هذا المنافس خشية سقوط النظام السياسي السعودي…!!
والآن ما خطورة هذا العداء !؟
بالحقيقة هذا العداء يحرم الأمّة الإسلامية فرصة الوصول إلى نظام إسلامي قائم على الحرية، ومن دون نظام إسلامي متكامل حرّ، لن نحقق نهضة حضارية شاملة تُنقذنا من عار تصنيفنا تحت مصطلح “الدول المتخلّفة”…
ومن يتتبع مسيرة التاريخ، ويتأمّل السنن الكونية، سيدرك أنّ الأنظمة الجبرية لن تدوم؛ لذلك لابدّ لهذه الدول أن تصلح نفسها قبل أن تأتيها رياح التغيير…
ونقولها لله، ثمّ للتاريخ: لابدّ من اصلاح داخلي في المملكة، ويقوم بهذا الإصلاح الأسرة الحاكمة السعودية نفسها، وكمال هذا الإصلاح أن تتحوّل المملكة العربية السعودية إلى مملكة دستورية، عندها تنفصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية عن بعضها، وينعم الناس بالحرية، ويضع الشعب مشروعه الحضاري الإسلامي، وعندها بالتأكيد ستتلاقى مع مشاريع الإسلام الوسطي، وتنتهي مسيرة العداء؛ لتبدأ مسيرة الإخاء والتعاون…
ومن يعتبر هذا الاقتراح غريباً نقول له: المملكة المتحدة انتقلت إلى الملكية الدستورية، فأصبحت بعدها الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، والسّعيد مَنْ وُعظ بغيره…