سيحكي لنا التاريخ يوماً إن رجلاً نبيلاً، اسمه أحمد سيف الإسلام عبد الفتاح حمد، مرّ من هنا، تاركاً ما إن تعلم منه السياسيون والحقوقيون لن يسقطوا في مستنقعات الفاشية المثقفة والنضال الملوّث أبداً.
عامان مرّا على الرحيل المفجع للسياسي والحقوقي، اليساري المحترم، أحمد سيف الإسلام، أحد القلائل ممن نجوا من طاعون التلوّن والتحوّل والتبدل، مستعصياً على السقوط في بئر عنصرية الشلة ومكارثية التيار وبؤس التحيز للأيديولوجيا على حساب الإنسانية الجامعة، والوطنية المانعة للانسحاق أمام إغراءات الاستعلاء الزائف، والارتواء من دماء الخصوم السياسيين.
بضميرٍ يقظ، وقلب سليم وعقل راجح، قرأ أحمد سيف الإسلام ما جرى في مصر، ذلك الصيف البائس من عام 2013، فقال في تصريح متلفز على موقع “مصر العربية” إن ما جرى، باختصار، أن الرئيس المدني المنتخب تعرّض لمؤامرةٍ من القادة العسكريين، شاركت فيها بعض الأحزاب والقوى السياسية المدنية، استغلت غضباً شعبياً لإطاحته.
كان سيف الإسلام ممن رفضوا تظاهرات 30 يونيو/ حزيران، ولم يوقع على استمارات “تمرد” المصنوعة في مطابخ العسكر، معلناً أن السير في هذا الاتجاه يعني، ببساطة، أنه لن يكون لمصر رئيس مدني آخر، إن تم إسقاط الرئيس مرسي بذلك الشكل سيكون أول وآخر رئيس مدني، لأن السير في هذا الطريق يكرّس قاعدة أن أي رئيسٍ لا يرضي هوى الجنرالات ستتم إطاحته.
يصلح تراث سيف الإسلام الحقوقي والسياسي منهجاً شاملا لمن أراد تعليم التربية الوطنية، والثقافة الإنسانية الرفيعة، بكل ما تشمله من أسس الحريات والكرامة والنضال السياسي من أجل المبادئ الكلية العامة، بعيداً عن التحوصلات الأيديولوجية والتكتلات الشللية الضيقة.
هو درسٌ في الاصطفاف الوطني والإنساني، لمن يبحث عن اصطفافٍ محترم، وليس عن صفقاتٍ وتسوياتٍ تتأسس على الانتهازية والمنفعة، وتعتمد قوانين السوق ومهارات السمسرة والمضاربة في الأسهم السياسية.
كما أنه درسٌ في الاستقامة السياسية، والاتساق مع الذات والانتصار للإنسان، بما هو إنسان، وليس بما هو ابن الشلة والتيار والحزب، وأظن أن ذكراه فرصةٌ لمن يريد أن يفهم ويتبصر ويختار الطريق، بعد ثلاث سنواتٍ من النزيف القيمي والتساقط الأخلاقي لدى النخب السياسية، باختلاف منابعها ومصباتها.
في ذكراه الأولى، قلت إن الانقلاب نجح، منذ غنت حناجر ملوّثة بالكراهية المقيتة ضد “الكائن الإخواني”، وقدّمت خدماتٍ جليلة لهذا “الأبارتهايد” العنصري الذي ظل ينمو ويتوغل، حتى وصل إلى مرحلة “أنتم شعب ونحن شعب”، وأن الذين لا يتذكّرون القيم الإنسانية، إلا حين يلحق بأصدقائهم وإخوانهم في الأيديولوجيا الأذى، هم أول من يطيل عمر هذا الانقلاب، ويدعمه على نحوٍ يفوق ما يقدمه الانقلابيون الصريحون أنفسهم.
الآن، وفي ذكراه الثانية، تتهاوى مصر إلى الأعمق في مأساتها الإنسانية، إذ انتقلنا من مرحلة” شعب وشعب” إلى حالةٍ باتت فيها أبواق السيسي تهدّد الجميع بالمحو والإبادة والاستبدال، ولا تتورّع عن التلويح بالتخلص من هذا “الشعب الوغد” الذي يعبر عن تململه من الخراب الاقتصادي والانهيار السياسي، فتتطاير سموم الفاشية من النوافذ الإعلامية، تعلن صراحةً أن على من لا يرضى بحكم نظام السيسي أن يبحث له عن وطنٍ آخر، أو يستعد للموت إن فكّر يوماً في الخروج للاحتجاج على إدارته التعيسة للبلاد.
مرة أخرى، من يريد التأسيس للمشروع الوطني الجامع عليه أن يستلهم روح أحمد سيف الإسلام الذي شخّص، في جملٍ شديدة البساطة، أصل الداء، وحدّد معالم طريق الانعتاق والتحرّر من مصيرٍ مخيفٍ، تنزلق إليه مصر بالسرعة القصوى، مع استمرار جماعة الحكم الدموية الفاشلة في العبث بمستقبل البلاد.
وأحسب أنه كلما استشعر هذا النظام اقتراب النهاية، سيوغل في الفاشية والقمع، بحيث لا يترك مصر إلا وقد وضعها على منحدر السقوط في جحيم صراعٍ طائفيٍّ ومجتمعيٍّ مرعب، ذلك أن الإنجاز الأكبر لنظام عبد الفتاح السيسي أنه نجح في تحويل البلاد إلى ما يشبه خرقةً مبللةً بكيروسين الفتنة الطائفية والاحتراب المجتمعي.
وعلى ذلك، تُحسن النخب السياسية والقانونية صنعاً إذا بدأت، من الآن، الاشتغال على حماية النسيج الاجتماعي المصري، من الاحتراق بفعل سياسة النظام المنهجية لصناعة حالةٍ من “حرب الكل ضد الكل”، والعودة إلى ما قبل اختراع “الدولة”. تعالوا إلى كلمةٍ سواء، اسمها” أحمد سيف الإسلام عبد الفتاح حمد”.