قالت عين عمران “انتظرونا” إلى كل من أوصلنا لهذا الحال.. انتظرونا.. العقاب سيطال الجميع.. أولكم ذاك “الغرب”.
التحمتُ مع عمران في نظرته بكل جوارحي رغم البون الشاسع ما بين مأساتي ومأساته، هو طفل لم يتجاوز الرابعة، فقد أهله وبيته وطفولته، وأنا شاب أكملت السابع والعشرين من عمري فقدت حريتي وفقدت قبلها أغلى أصحابي ووطني.. لكن قاتل أهله وهادم بيته وسجاني وقاتل أصحابي ومن سلبني وطني واحد.
الفارق أيضا أن عمران لا يدرك ماذا أحدث حتى يُفعلَ به ما فُعل، لكني أدركت، فقصة عمران بدأت بما انتهيت إليه أنا وجيلي “الرغبة في الانتقام”.
أبدأ من تلك اللحظة التي وقفت فيها أمام مكتب الإرشاد أنا وخمسة عشر شابا من شباب الإخوان لندعوهم فيها للتراجع عن قرار النزول إلى سباق الرئاسة، كنت أرى أن الفرصة المواتية للتصدر لم تحن بعد، وأن الشعب لم يستوعب ذلك المشروع علاوة على تبنيه حتى يتحمل تبعات هذا التصدر لذلك المشروع الذي يحمل الهوية الإسلامية.
كانت التبعات جلية لنا واضحة لذلك الغرب المتربص ونظرته الدونية للشرق.
كان جليا أن الغرب لا يريد لنا الحرية ولا أن نكون له أندادا، إنما يريد إلحاقنا به، بهذا تنطق كتب مفكريه وتقارير مراكزه البحثية، بل بهذا ينطق قادته الذين لا يخجلون من الحديث عن “مصالحهم” التي هي ثرواتنا التي تحتويها أرضنا، والتي تشمل ديننا وثقافتنا بحجة مكافحة التطرف ونشر التسامح.
يشير العالم الأمريكي إيمانويل والرشتاين والعالم الأمريكي أيضًا أندري غوندر فرانك والعالم المصري سامر أمين -هؤلاء العلماء ذوي توجه يساري ومن منتقدي النظام العالمي في نظريتهم “التبعية”- بأن الدول الغربية “المركزية” لن تعطي الفرصة إطلاقًا للدولة الشرقية “الفرعية” للاستقلال عنها من خلال تطوير نفسها وتنميتها، وذلك لأنه في حال تطور الدول الشرقية سيكون هناك خلل في نظام المصالح السياسية والاقتصادية والثقافية للدول الغربية، وهذا يُعد أمرًا خطيرًا لهم لذا فلن يسمحوا في أي يوم من الأيام بتطور دولة أخرى أكثر منهم.
وبالطبع يريدون إسلاما بمواصفات خاصة تتوافق ومصالحهم، فكان متصورا ردة الفعل العنيفة تجاه أي فصيل إسلامي يريد أن يتصدر معركة التحرر من تلك التبعية.
كنا نري أننا لسنا جاهزين لكل ذلك بعد ولن يتحمل الشعب -الذي يهفو لمن يخبز له العيش ويسقيه الماء فقط- أن يدخل في معركة كهذه لا ناقة له فيها ولا جمل.
لم يكن الحجاب مكشوفا عنى ولم أكن أعلم الغيب، ولكن كثيرين وقتها رأوا من الشواهد ما رأيت، من بينهم قيادات صوتت ضد هذا القرار ولكنهم في النهاية التزموا بقرار الشوري الذي كان بفارق صغير لا يرقى في رأيي لحسم قرار على هذه الدرجة من الجسامة، وحدث ما حدث وتولي الدكتور مرسي الرجل الصامد سدة الحكم، وصار التنوع بيننا ما بين منسحب من الهراء السياسي برمته وناصح يجاهد لضبط الميزان وداعم لمبادرات الحوار هنا وهناك.
إلى أن..
القوات المسلحة تمهل جميع الأطراف 72 ساعه للجلوس والتفاهم يوم 306، كان ذلك الاعلان إيذانا ببدء الحلقة الاخيرة من مخطط الهدم الذي شاركت فيه كل الأطراف التى تسعي جاهدة للملمة تلك الفوضى التي أنتجتها ثورات الشؤم كما ينظرون إليها، وارتمت نخب العار في أحضان العسكر التي كانت قبلا تدعي الديمقراطية وصلا، لكن ما أن اتت الأخيرة بأندادهم من أبناء وطنهم حتى تنكروا لها ولوطنهم واستقرت ضمائرههم الميتة لهدم المعبد سيرا على نهج شمشون، كل ذلك كان بمباركة الشيطان الأكبر “الغرب” .
لم يكن لى ولا لغيرى رفاهية الاختيار غير الوقوف أمام هذا التعدي على قيمة الإرادة الشعبية وكانت رابعة.
رابعة أن تشعر كم هي رخيصة تلك الأرواح التى زهقت حينما وقفت فى ذلك الميدان تدفع عن حرية اختيارها عن الديمقراطية التى يكفلها ميثاق حقوق الإنسان، ولكن يبدو أنه يكفلها لهم هناك في الغرب وليس لنا هنا في الشرق.
فسيظل الغرب غربا لا يبحث إلا عن مصالح مواطنيه الذين ينتخبون من يذود عن حماهم، ويرعى مصالحهم، ويتواطأ مع الغير لضمان الرفاه لمواطنيه، ولو بتدمير كل ما يتصل بالبلاد والعباد في الضفة الأخرى من حوض البحر الأبيض المتوسط.
ولكن الدم الذى رسخوا به هذا المفهوم فى قلوب وعقول هذا الجيل لم يكن هينا “إننا لن نستطيع أن نحيا معكم على كوكب واحد إما أن تستعبدونا أو تبيدونا”، وصلت الرسالة.
كنت هناك أحمل الأشلاء التي تتطاير حولي، فمن الجثث ما لم نستطع أن نحمله جملة.
كانت الحالة النفسية التي خرجنا بها من ذلك الميدان في نهاية يوم دموي وكأننا أسرى حرب نسير في صفوف، والمسمى أننا مصريون على أرض مصرية؛ كفيلة بتزكية رغبة عارمة في الانتقام داخلنا من الجميع وفى القلب ذاك “الغرب”.
انتهي بي الحال حيث أكتب الآن تلك السطور من إحدى زنازين الوطن التي ملئت عن آخرها بشباب وشابات أجرموا بتوقهم للحرية في بلاد اعتقدوها خطأ بلادهم، لكنهم اكتشفوا حقيقة كونها مقاطعات غربية وإن كانت في شرق الجغرافيا وبأسماء عربية لكنها في النهاية لا تخص أهلها.
إذا أردت أن تتأكد مما أقول يمكنك بسهولة -و هذا ما فعلته- أن تفتح إحدى مواقع التواصل وتنقر أحرف سؤال: ماذا تعني لك مصر، سوريا، ليبيا، العراق، لبنان..
ستبهرك الإجابات وستجد فيها ما يدلك ماذا تعني كلمة “وطن”، تلك الكلمة التي لا تجد لها صدى في أفئدة وعقول ذلك الجيل ومن يعقبه.
يتساءل الغرب: ماذا يريد “الإرهاب الإسلامي” -كما اعتادوا أن يحددوا العدو ويصيغوا المعارك التي يجب على العالم خوضها معهم- من الغرب؟ لماذا تتفجر قنابلهم وتزغرد بنادقهم وتطعن سكاكينهم في بلادنا؟ لم تتسع دائرة الانتماء لنموذج مثل داعش الإرهابي الذي يستهدف أوطاننا؟
الإجابة هو: ما كسبت أيديكم هو ثمن سياساتكم تجاهنا، وهي قيم الحضارة الغربية المقصورة على بلاد الغرب محرمة على الشرق، وهو بالمناسبة بداية طريق الزوال.
يقول د. سيرغيه لازاريف: “أي دولة أو أي حضارة غير أخلاقية محكوم عليها بالزوال عاجلاً أم آجلاً. لا تساعدنا الأخلاق في المحافظة على حب الله والإيمان به فحسب، بل تساعدنا كذلك على الإحساس بالوحدة مع الآخر”.
فأصبحت نماذج مثل داعش تغازل الرغبة التي تأججت في نفوس تلك الأجيال التي وأدتم أحلامها رغبة بـ”الانتقام”.
فقد نقلت تلك الجماعات بؤر الصراع إلى عقر دار العدو الحقيقي لتلك الأجيال، فتلك الهراوات التي يضرب بها ذلك العدو من أنظمة مستبدة وجيوش محتلة بالوكالة لم تعد مقصدا أخيرا مرضيا لتلك الأجيال التي خلعت عنها السذاجة فوضعت نصب أعينها علاج أصل الداء واقتلاع الشر من جذوره الممتدة عندكم في “الغرب”.
لم يكتف الغرب بحياكة المؤامرات من الخلف والتخفي خلف قناع زائف يتشدق بالديمقراطية والحرية وإرادة الشعوب.
مؤخرا رفع القناع وأبدى نواياه ببجاحة وصفاقة من يريد إعلان الحرب، موقفكم من انقلاب تركيا يفضح وجهكم حين تواطأتم لتمهيد السبل للانقلاب وترقبتم لحظة طعن الديمقراطية وحين فشل تركتم الدماء التي أًسيلت وعدوتم خلف حقوق الانقلابيين أصدقائكم وتشكلت سريعا لجان التحقيق خوفا من ازدياد وتيرة القمع وأعداد السجناء، ونحن هنا في مصر فوق الستين ألفا في السجون ولم تتفضلوا علينا بلفته من مجلس أمنكم.
رسالة التحذير تلك التي أوجهها للعقلاء فيكم ومراكز الابحاث في بلادكم لتضيء لكم الاضواء الحمراء قبل وقوع البلوى، أبعثها اليوم من رحم المأساة وأنا أرى بعيني كل يوم مقدار البغض والكره الذي تحمله آلاف من حولي لكم ويسوقونه لأولادهم، وأنا أرى المعتدلين ينفرون لينضووا تحت راية الجماعات الأكثر تطرفا.
لا تغتروا بقوتكم، فالفوضى لها مفعول السحر الذي يقلب الموازين، الغضب الذي يغلي في قلوب هؤلاء الشباب لا تتخيلوا مقداره.
مازلنا نطرق ابواب العقل والمنطق قبل أن يفوت أوانه، من أراد الحل فالعقلاء فينا موجودون قبل أن يفقدوا تأثيرهم.