ركب أحمد صاحب الـ13 سنة زورقاً مطاطياً من كفر الشيخ مع مجموعة من المهاجرين غير الشرعيين المتجهين إلى إيطاليا.. عند وصوله لم يكن يحمل سوى بعض أوراق طبية لحالة أخيه الحرجة، راجياً الحكومة الإيطالية أن تقبل علاج أخيه ذي الـ 6 سنوات لعدم قدرة أسرته على تحمل نفقات العلاج في أم الدنيا؛ مجرد 50.000 جنيه مصري، حوالي 4 آلاف دولار بأسعار اليوم.
هجرة تُعبر عن حالة شعبنا في ظل الاستبداد الذي يجثم على صدره منذ عدة عقود، فترك لنا سُلطة لها ثلاث صفات:
السلطة العاجزة
مصر تزخر بالمختصين والمهرة في كل المجالات، لكن السلطة لا يمكنها لا أن توفر تعليماً ولا صحة ولا خدمات آدمية لشعبها منذ عدة عقود واليوم مع الانقلاب العسكري أصبح العجز أكثر انفضاحاً ليدفع أطفالاً للكفر بمعنى الوطن، وليظهر أقزام يتحدثون عن عدم الحاجة للوطن ويتساءلون في سخرية: وماذا سنخسر لو انهار؟
علماؤنا تغصُّ بهم معامل وجامعات ومستشفيات الدنيا، بينما لا مكان لهم بيننا، وأذكياؤنا يبحثون عن عالم آخر يحترم ذكاءهم ويمنحهم فرصة التعبير عن ملكاتهم.. العقول لا تهرب من وطنها إلا لأنه طارد.. والوطن لا يطرد العقول إلا لأنه يستغني عن العقل بذكاء الجنرالات.
والمحصلة هو العجز الذي يعاني منه بلد كبير، يمتلك مقومات الكبار لكنه وقع فريسة بيد تافهين.
السلطة التاجرة
نفس السلطة تُدير البلد، منذ خمس وثلاثين سنة على الأقل، باعتباره محل بقالة وخردوات، فهي تسعى لبيع أي شيء ترى أن له قيمة سوقية لتوفر لنفسها سيولة تسمح بأن تحيا حياة الترف وتعيش حياة الملوك، بغض النظر عن أولئك القاطنين على ضفتي النهر، فهي لا تراهم إلا همّا باليل وخطراً بالنهار.
أصبح الشعب في رؤيتها مجرد سوق استهلاكية، يُمكن أن تبيعه لهذه الشركة المتعددة الجنسيات أو تلك مقابل عمولة، بل اكتشفت مؤخراً أن الحقوق على المياه والمضايق والحدود البحرية يُمكن بيعها في سوق كبير لنخاسة الدول. بل الريادة أيضاً اعتبرتها سلعة تخلت عنها لغيرها مُقابل ريالات معدودات.
وأخيراً اكتشفت السلطة الانقلابية أن الشعب ما زال يُمكن أن يُعاد تدويره في ماكينة الفساد، فأصبح الفقراء هم من يُمولون مرتبات الأجهزة الأمنية والجيش والقضاة والإعلاميين، بل ويمولون صناديق علاجهم الفاخر.
بينما الشعب نفسه تفترسه الأمراض دون أن يجد علاجا محترما ولا يملك مقابل دواء ناجع.
السلطة الفاخرة
بعض مواقع المولاة للسلطة الانقلابية بثت خبر الطفل المصري المُهاجر بمركب مطاطي طلباً لعلاج أخيه ذي الـ6 سنوات باعتبارها مباراة رياضية في أولمبياد ريو التي لم تعكس سوى هوان تلك السلطة وتفاهتها.
ولم تجرؤ أبواقها أن تعقد مقارنة بين حالة الطفل الذي يبحث عن علاج لأخيه في بلاد الفرنجة لأنه لا يملك 4 آلاف دولار، وبين رئيس السلطة الذي يشتري من نفس البلاد أربع طائرات فاخرة بـ 300 مليون دولار لتنقلاته.
سقط برقع الحياء وأصبحت السلطة تفاخر أن شعبها يزحف على بطنه طلباً للقمة أو لدواء أو لعلاج، بينما هي تسبح في عالم مخملي لتنافس ترف أغنى أغنياء العالم.. وليس عجباً أن حفنة لا بأس بها من أثرياء العالم جنوا أموالهم من قوت شعبنا.
السلطة الغادرة
في مقابل الطفل أحمد الذي تحتفي به الصحف الإيطالية؛ لتُظهر كرمها على أبناء أم الدنيا الذين يخرجون منها حفاة عُراة، واستقبال أكبر الأطباء له والاستعداد لنقل أخيه وعائلته لعلاجه.
فإن ريجيني الإيطالي باحث الدكتوراه، جرى الاحتفاء به في مصر بنفس طريقة احتفاء السلطة بمواطنيها، فجرى نقله معززاً مُكرماً لمراكز الأمن والمخابرات وتعذيبه بكل احترام حتى تشوه جسده واختفت معالم وجهه ثم ألقي به في الطريق العام.
خطأ تأييد الاستبداد
أخطأت إيطاليا بأن وقفت خلف الانقلاب العسكري في مصري متبنية وجهة نظر حلفائها، وأخطأ ملايين من شعبنا في تأييد الانقلاب على الشرعية الدستورية التي صنعها شعبنا بيديه لأول مرة في تاريخه.
لكن الخطأ الأكبر هو الاستمرار في الخطأ وترك آلاف أحمد يطلبون حقوقهم في العلاج والتعليم والحياة الكريمة عبر القوارب المطاطية، فلا مصر تملك ترف الاستغناء عن أبنائها الذين يتدفقون على أبواب الهجرة مشروعة وممنوعة، ولا كل أوربا قادرة على استيعاب أبناء شعبنا أو تحقيق أحلامهم.
نحن شعب نملك كل مقومات النهوض إذا تخلصنا من العقبة الوحيدة التي تحرمنا من حقوقنا منذ عشرات السنوات، وهي سلطة الاستبداد والفساد. يوم سقوطها واستعادة إرادة الشعب، سيكون هو اللحظة التي تبدأ منها بناء مصر الجديدة التي لا يهرب منها أحمد مخاطرا بحياته، ولا يشكو فيها أخوه أنه لا يجد ثمن علاجه.
فالعلاج والصحة والتعليم لا تقتضي ثمنا، فهي حقوق لكل أبناء شعبنا لا بقدر حيازتهم للمال، بل مقابل مشاركتهم في وطن لا يجوز فيه السؤال عن ثمن الخدمة أو الامتناع عن تقديمها؛ فتلك جرائم في حق الوطن لا في حق أحمد وأخيه فقط.
دور النخب
قصة أحمد وعشرات آلاف القصص التي تُحيط بنا ولا تجعل لنا مهرباً من مشاعر الخجل بل والعار، لا يكفيها أن نمر عليها كمثال لفشل السلطة، فالسلطة فاشلة وستبقى كذلك ولا تهتم لذلك، ففشلها نجاح لها. ولا يكفيها أن نبكي حُلم يناير الذي سُرق منا بغفلتنا وخلافاتنا. ولا يكفيها أن نتذكر الأخطاء ونقول لو فعل فلان كذا لما حصل كذا. لا يكفيها سوى أن نستعيد صفنا ونحمل من جديد حُلمنا ونعود للميدان، فالنخب التي تتطلع للحرية ولاستخلاص حقوق شعبها، لا تدعوه للنزول للميادين، بل تسبقه هي إليها لتكون القدوة والدليل له.
لكن الاصطفاف في الميدان يبدأ في القلب ثم يصدقه العمل…