في أسبوع واحد، وبعد أقل من شهرين على تولي رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة «تريزا ماي» مهام منصبها، حدث متغيران في غاية الدلالة في العاصمة البريطانية لندن، أحدها يتعلق بالنظام في مصر، والآخر يتعلق بجماعة المعارضة الرئيسة «الإخوان».
المتغير الأول أتى عبر مجلة «الإيكونوميست»، التي تعتبر واحدة من أكثر المجلات رصانة في العالم، والتي تنبأت سابقا قبل ثورة يناير بأشهر بأفول «مبارك». الصحيفة خصصت تقريرًا عن الوضع الاقتصادي المصري، بعنوان صريح هو «خراب مصر»، و«حالة الإنكار» التي يعيشها «السيسي».
المتغير الثاني أتى من الخارجية البريطانية نفسها، التي أعلنت عن استعدادها لإعطاء اللجوء السياسي لأعضاء «الإخوان المسلمين» المتواجدين في بريطانيا.
وبدون مبالغة، فقد كان المتغير الأول مفزعًا للنظام، وأكبر من قدرته على التحمل، بينما كان المتغير الثاني مثيرا لدهشة الإخوان أنفسهم، وأكبر من محاولاتهم على تفسيره!
***
1- تراجع دور أمريكا في المنطقة
ليس خفيًا التقارير والتحليلات التي تحدثت عن تراجع اهتمام الولايات المتحدة بمنطقة الشرق الأوسط؛ لأسباب عدة، أهمها: تراجع أهمية النفط الخليجي للسوق الأمريكية.
فبفضل النفط الصخري، وهو «استخراج النفط والغاز من الصخور الزيتية»؛ ستنافس الولايات المتحدة أكبر دول العالم إنتاجًا للنفط في العالم بحلول 2017، وستبدأ بتصدير النفط أكثر مما تستورده عام 2025، وستحقق أول اكتفاء ذاتي كامل في الطاقة عام 2030؛ مما جعل اهتمام واشنطن بالمنطقة يتراجع.
***
2- بريطانيا مسؤولة تاريخيًا عن مصر
وليس معنى تراجع دور الولايات المتحدة في المنطقة أنها ستتركها، بل هو تعميق للمبدأ الذي رفعه «أوباما» «القيادة من الخلف» Leading from behind .
وحيث إن بريطانيا هي المسؤولة عن مصر تاريخيًا في الغرب، سواء بالاحتلال المباشر لعقود، أو لنفوذها الاستخباراتي والاقتصادي بعد ذلك، فإن من الطبيعي أن توصف بريطانيا بأنها الأكثر دراية بالشأن المصري، وتوصف صحافتها بالأكثر إلمامًا بأدق المتغيرات في مصر.
فعلى سبيل المثال؛ إن الصحيفة البريطانية «الديلي ميل» هي التي أكدت أن الطائرة الروسية التي سقطت في سيناء كان تحوي قنبلة ذكية، ضبط «جهاز التوقيت»Timer فيها بعد ساعتين، «أي عندما تصل إلى تركيا»، إلا أنها سقطت مبكرًا. وبالفعل، فإن أول تصريح لمسؤول رسمي مصري عقب الحادث، أن الطائرة لم تسقط أصلًا وأنها الآن فوق الأجواء التركية!
وكانت الصحافة البريطانية أيضًا أول من كشف القصور الأمني في مطار شرم الشيخ، وألمحت الصحيفة إلى أن شخصًا من داخل المطار قد زرع القنبلة بنفسه، مما أشار بأصابع الاتهام إلى «السسيسي» نفسه، الأمر الذي دفع الرئاسة في مصر إلى إصدار نفي رسمي، وهو نفي يعني أن الاتهامات كانت قوية!
وقد كانت بريطانيا أول من أصدر قرارًا بإجلاء السائحين من مصر، حتى قبل روسيا صاحبة الطائرة المنكوبة نفسها، فأجلت في وقت مبكر ما يقارب من 20 ألف بريطاني، الأمر الذي أحرج «بوتين» بشدة، وصوره أمام شعبه بعدم الحريص على أرواح المواطنين الروس، فاتخذ قرارًا هو الآخر بإجلاء ما يقرب من 80 ألف سائح روسي من مصر!
***
3- تيريزا ماي: براجماتية أمنية
ومع استفتاء بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوربي، ومجيء رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة إلى الحكم، بدأ البعض يتساءل عن سياسة السيدة الجديدة، بالرغم من أنها كانت مؤيدة لبقاء بريطانيا في الاتحاد.
«تيريزا ماي»، التي تعد واحدة من أطول من شغلوا منصب وزير الداخلية البريطانية في تاريخ البلاد، في أول جلسة أمام البرلمان بعد منصبها الجديد، سُئلت ما إذا كانت مستعدة لشن هجمات نووية خارجية يموت فيها رجال ونساء وأطفال لحماية الأمن القومي البريطاني، فأجابت نعم!
نحن أمام حالة من البراجماتية الشديدة النابعة من رغبة في حماية الأمن القومي البريطاني، بأية وسيلة وبأي ثمن، بعيدًا عن أن أي وازع فكري أو أخلاقي أو حتى إنساني!
4- استمرار السيسي يعني الانهيار أو الانفجار!
نعود هنا لبداية المقال؛ ما الدوافع البريطانية التي جعلت لندن تبعث إلى القاهرة رسائل علنية، غير رسمية، شديدة اللهجة، مثل تلك التي حواها تقرير «الإيكونوميست» المشار إليه، والذي نقل ما كان يدور في الغرف المغلقة منذ عام تقريبا؟
الغرب يفكر بمنطق البدائل، فيختار أفضل المتاح، وأحلى المرين، ويحاول استباق الأحداث قبل أن يحدث انفجار.
الآن، وبعد عامين من حكم السيسي، ومع انهيار العملة، وأزمة الدولار، والأوضاع الاقتصادية التي لم تعد تخفى على أحد، فإن الغرب صار متأكدًا أن السيسي نفسه جزء من المشكلة، وأن استمرار الأمور على ما هي عليه يعني انهيارًا أو انفجارًا، وهو ما لا يمكن السماح به!
فأوروبا لا يمكنها أن تحتمل مأساة جديدة للاجئين من مصر، تعدادها خمس مرات عدد سوريا، وأكثر من نصفها شباب يريدون الهجرة حتى بدون حرب أهلية!
5- استمرار السيسي مستحيل مع تراجع الدعم الخليج!
تشريح الانقلاب في مصر مهم؛ لتبيان مدى قدرته على البقاء! فصحيح أن انقلاب «3 يوليو (تموز)» كان قرارًا غربيًا إسرائيليًا من الرأس، ونفذه عملاؤهم في الجيش وباقي مؤسسات الدولة على الأرض، إلا أن الحلقة الوسيطة، والممول الرئيس له، كانت دول الخليج، التي مثلت القلب النابض، والرافعة الاقتصادية للانقلاب.
وطيلة الأعوام السابقة، عندما كان يخير الغرب، إما بين السيسي أو عودة الشرعية، كان يختار على الفور السيسي، طالما أنه يحافظ على الحد الأدنى من الاستقرار في مصر، مدعومًا بالمساعدات الخليجية السخية.
ومع تراجع إيرادات النفط لكثير من دول الخليج، بدأ هذا الدعم في التقلص، ومن المرجح ألا يستمر، مما دق نواقيس خطر في الغرب، ودفعه لاستباق الأحداث قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة. (صرح «طارق عامر» رئيس البنك المركزي مؤخرًا: علينا الاعتماد على أنفسنا، ووديعة الإمارات لن تأتي)
ومع براجماتية تيريزا ماي، ومع سياسة الغرب القديمة في استباق الأحداث قبل خروجها عن السيطرة، فإن رسائل الإيكونوميست غير الرسمية، عبرت عن تغير رسمي في الموقف البريطاني، مفاده أن استمرار السيسي بدون دعم خليجي كالسابق، يعني أن الأمور تتجه إلى انهيار أو انفجار.
في المقابل فإن الإعلان الغريب عن استعداد بريطانيا النظر في طلبات اللجوء للإخوان المقيمين في بريطانيا، مع تأكيد لاحق من السفارة البريطانية في القاهرة، أن بريطانيا لن تنظر في طلبات اللجوء من خارج المملكة، هو إعلان ضمني أن موقف بريطانيا الرسمي من الإخوان أنهم جماعة غير إرهابية.
الخلاصة
من السذاجة التصور أن بريطانيا تخلت عن علاقتها بالسيسي، وأنها صارت تراهن على الإخوان. الراجح أن بريطانيا تريد عدم ترشح السيسي «كشخص» لفترة رئاسية ثانية بعد عامين، للخروج من المأزق الراهن، مع الابتعاد عن متلازمة «الشرعية والانقلاب»، وهو ما أوصى به التقرير، الذي يفترض أنه اقتصادي!
وآلية تنفيذ ذلك في رأيي لا تكون، إلا بتكرار ما فعله السادات مع الجماعة في السبعينات، عندما أخرجهم من المعتقلات وسمح لهم بالعودة للعمل في المجتمع والجامعات، تحت سقف النظام الموجود!
ومع انفضاض جماعات معارضة في مصر معروفة بعلاقتها بالخارج من حول السيسي، وقرار بعضهم الترشح ضده في انتخابات الرئاسة القادمة، «عصام حجي»، فإنه من غير المستبعد أن يعلن هؤلاء، لاحقًا، استعدادهم للتصالح مع الإخوان، والاصطفاف معهم، ضد السيسي في الانتخابات القادمة، تماشيا مع السياسة الغربية الجديدة.
لكن الوقت ليس في صالح الغرب، وعلى الإخوان أن يدركوا أن رئيسة الوزراء البريطانية البراجماتية الجديدة، والمستعدة لشن هجمة نووية حتى لو راح ضحيتها مئات الآلاف من الأبرياء، لم تغير موقفها، لا منهم، ولا من السيسي، إلا لأسباب قوية، تؤكد أن العصا قد وضعت بالفعل في عجلة الانقلاب، وأن استمراره صار مكلفًا وخطرًا محدقًا، وأنهم قد انتزعوا من الغرب استعدادًا مبدئيًا لوجودهم في أية معادلات قادمة للتسوية! لقد أدرك الغرب أن مرحلة السيسي قد انتهت، لكنه يرتب الآن للبديل، حتى لا تكون الخسارة فادحة!