لم تنتظر الدوائر الرسمية والأكاديمية فى الغرب طويلا لكي تستدعي حديث «الاستثناء العربي» ما إن اتضح تعثر عمليات الانتقال الديمقراطي في بلدان ثورات ٢٠١١.
تدهورت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية فى تونس ومصر بين ٢٠١١ و٢٠١٣، فعلل العديد من الرسميين والأكاديميين الغربيين ذلك بعدم أهلية البلدين لتجاوز الحكومات السلطوية. أما حقيقة أن السنوات الأولى للانتقال الديمقراطى عادة ما يصحبها تراجعات وأزمات مجتمعية خانقة كما بينت خبرات بلدان أوروبا الشرقية والوسطى وأمريكا اللاتينية منذ تسعينيات القرن العشرين فتم تجاهلها.
خلال السنوات الماضية، اشتدت فى تونس ومصر صراعات النفوذ والمصالح بين المؤسسات الرسمية القوية وبين المجموعات الاقتصادية والمالية المحسوبة مع النظام القديم وبين المجموعات المناوئة التى كانت تبحث عن الاستحواذ على النظام الجديد.
وعلى الرغم من كون صراعات كهذه تكررت دون استثناء فى جميع البلدان التى حاولت الانتقال من السلطوية إلى الحكم الديمقراطى شرقا وجنوبا، اعتبرها الغربيون دليلا قاطعا على الفشل المحتوم للتجربتين التونسية والمصرية وربطوا دون تحليل موضوعى بينها وبين الخصوصيات المتوهمة لطغيان دور الدين فى الحياة العامة أو للهيمنة المستمرة لثقافة سياسية سلطوية الطابع أو لصراعات «الإسلاميين والعلمانيين» التى حتما ودوما ستقضى على التجارب الديمقراطية.
***
وعندما حملت الفترة الممتدة بين عامين ٢٠١٢ و٢٠١٣ انهيار تجربة الانتقال الديمقراطى فى مصر، لم يبحث الكثير من الغربيين فى الأسباب المحددة لإخفاق القوى السياسية والمجتمعية فى بناء توافق عريض حول خطة محددة لإدارة الانتقال والتفاوض بشأنها مع المؤسسات الأمنية التى كان طبيعيا أن تقاوم بناء الديمقراطية ومع المصالح المرتبطة بالنظام القديم التى تخوفت بشدة من الإقصاء والتجريد من امتيازات الثروة والنفوذ والمكانة.
تجاهلوا كل هذه التفاصيل، ووقفوا يصرحون فى اللقاءات السياسية وفى المنتديات الأكاديمية أن فشل الانتقال الديمقراطى فى مصر كان قدرا محتوما وأن الخيار الأفضل «للمصريين» هو العودة إلى الحكم السلطوى المتسق مع خصوصياتنا التى لا يريدون التوقف عن توهمها.
وحين تجاوزت تونس خطر انهيار مشابه للانهيار المصرى وتمكنت الأطراف المشاركة فى الحياة السياسية بمساعدة المجتمع المدنى من صياغة رؤية توافقية لإدارة الانتقال الديمقراطى وإدارة تفاوض هادئ مع قوى النظام القديم ودمجها دون خطيئة الإقصاء، صنف الغربيون الحالة التونسية كاستثناء على الاستثناء العربى. ولم ينظر بموضوعية فى دلالات عدم انهيار تجربة الانتقال الديمقراطى فى تونس وفى الدروس الواجب استخلاصها لجوار تونس العربى. فالأصل لدى الغربيين هو استحالة بناء الديمقراطية فى بلادنا، وتونس يمكن تصنيفها كحالة خاصة يحتفى بها لبعض الوقت بجائزة نوبل للسلام وبإشادات عالمية متكررة ثم تلقى جانبا دون نظر فى إمكانية استنساخها عربيا.
***
فخانات الظواهر القابلة للاستنساخ عربيا غلقت أبوابها فقط على استمرارية السلطوية وتوابعها: ١. الأزمات المجتمعية التى تدفع دولنا ومجتمعاتنا إلى مصائر الانهيار إن نحن تخلينا عن تأييد الحكومات السلطوية، ٢. الحروب الأهلية وحروب الكل ضد الكل فى بلدان كالعراق وسوريا وليبيا واليمن إن نحن حاولنا إزاحة حكام مستبدين، ٣. الإرهاب المتجاوز لحدود الدول الوطنية ومآسى النزوح والتهجير واللجوء. أما البحث عن حاضر عربى تصان به الحقوق والحريات وسيادة القانون وتديره حكومات منتخبة ديمقراطيا أو مجرد الأمل فى قدومه، فخيالات واهمين.
ولأن نفرا محدودا من الرسميين والأكاديميين الغربيين تناسى قائمة المستنسخات العربية واندفع للدعم الرمزى الانتقال الديمقراطى فى بلاد العرب بعد ٢٠١١، أصبح لزاما على الغرب اليوم إبداء آيات الاعتذار الجماعى والندم المطلق على تهور بعضهم باسم الديمقراطية، وممارسة طقس جلد الذات فى المؤتمرات وورش العمل والحوارات المعنية بشئون العرب لكون بعضهم توهموا أهلية العرب للديمقراطية. وبعدها يعودون رسميا وأكاديميا إلى دعم الحكومات السلطوية بين البحرين والمغرب، وإلى التركيز على قضايا السلام والحرب على الإرهاب والتنمية الاقتصادية وتطوير القطاع الخاص وتشجيع الاستثمارات. وبعدها يعودون إلى نسيان ما كان من أمر حقوق الإنسان والحريات والانتخابات الحرة والسياسة التعددية، نسيان لا تقطع استمراريته سوى بعض البيانات «القلق الرسمى» على تدهور الأوضاع وبعض الأصوات الأكاديمية المتفرقة التى يرتب دفاعها عن الحق العربى فى الديمقراطية تصنيفها كأصوات حالمين أو مجاذيب لا طائل من وراء الإنصات إليها.