لم يفاجئنا السيد أحمد أبو الغيط حين وصف الربيع العربي باعتباره «مؤامرة»، ولم ير فيه إلا ما حل ببعض الأقطار من خراب وفوضى.
ذلك أن مسؤولا بمواصفاته وتاريخه لا يستغرب منه مثل ذلك الكلام. إذ من المفهوم أن يرى وزير خارجية مبارك لمدة سبع سنوات أن ثورة ٢٥ يناير جزءا من مؤامرة.
وحين يكون الرجل صديقا للإسرائيليين ومعاديا للفلسطينيين وفخورا بإفشاله دعوة انعقاد القمة العربية لوقف العدوان الوحشي الإسرائيلي على غزة فإن خصومته للربيع العربي تصبح مبررة.
لكن المشكلة أن يصدر هذا الكلام عن الأمين العام لجامعة الدول العربية. وهي صفة كانت تفرض عليه أن يكون أكثر حذرا واحتشاما في الحديث عن رياح التغيير التي هبت على العالم العربي في عام 2011 معبرة عن شوق العرب إلى الحرية والعدل.
صحيح أن الجامعة العربية تمثل الأنظمة وليس الشعوب العربية، وهي الآن في أضعف وأتعس حالاتها، وأن الرجل يجسد تلك الحالة، الأمر الذي يجعله الرجل المناسب في الظرف المناسب، إلا أن ثمة حدودا للوهن والسقوط.
ولو تمتع الرجل ببعض الكياسة وحسن التقدير لاستخدم لباقة الدبلوماسيين التي يفترض أنه تعلمها في التعبير عن رأيه.
إذ ليس مطلوبا منه أن يمتدح الربيع العربي وربما قبل منه أن ينتقد تداعياته أو يحذر من تفاقمها. لكن انحيازه الصريح إلى الثورة المضادة وتعبيره الجارح عن إدانة انتفاضة الشعوب العربية لا يهين المشاعر العربية فحسب، ولكنه يهين المنصب الذي يشغله باعتباره أمينا للجامعة.
حتى إذا كان الرجل مناسبا لمرحلة الانكسار وانهيار النظام العربي، وأصبح رمزا للسقوط الذي صرنا إليه، فليس مفهوما أن يبالغ في ذلك وأن يصل به إلى القاع بحيث يخاطبنا من منتهاه.
ولئن عمت البلوى وصار السقوط واقعا يتعين علينا أن نعترف به ونتعامل معه حتى إشعار آخر، فما تمنينا أن يكون خطابه من قاع السقوط، وما توقعنا أن يعبر أمين الجامعة العربية عن ذلك الخطاب حفاظا على ما تبقى من رمزية الجامعة واحتراما لمنصب الأمين العام.
أدرى أن الأوصاف التي أطلقها السيد أبو الغيط في حواره الذي بثته قناة «سى. بى. سى» مساء الأحد الماضي17 /7 استخدمها آخرون من قبل، حيث لم يكن أول من وصف الربيع العربي بأنه «مؤامرة»، إلا أن ذلك الوصف جاء على ألسنة خصوم وموتورين وآخرين من المنافقين والمهرجين وغير ذوي الصفة.
وما تمنينا أن يجور علينا الزمان ويتردى بنا الحال بحيث يصطف أمين الجامعة العربية إلى جانب هؤلاء.
أكرر أنني لا أحسن الظن بالرجل وليس لدي دفاع عنه، لكنني انطلق من الغيرة على المنصب وأتعلق بشعرة تبقى على شيء من الكرامة للجامعة العربية.
إذا أردنا أن نوسع دائرة المصارحة فإننا لا ينبغي أن نكتفي باستهجان ما صدر عن السيد أبو الغيط، لأن زملاءه الذين عملوا معه ويحفظونه جيدا يقولون إنه ما كان له أن يتحدث بتلك الجرأة إلا إذا كان مطمئنا إلى أن هناك من يسانده ويدعمه.
ولأنني سمعت ذلك الرأي من أكثر من واحد، فالسؤال الذي تثيره الملاحظة هو: ما هي الجهات التي عبر السيد أبو الغيط عن رأيها فيما جهر به؟
الإجابة سهلة ولا تكلف الباحث أكثر من متابعة بعض التصريحات الرسمية والاتصالات لبعض الأصوات التي تتردد في المنابر الإعلامية المقروءة والمرئية والمسموعة.
وهي ذات الأصوات التي تتحرك ضمن معسكر الثورة المضادة، الذي ظننا أنه مخاصم فقط للحلم العربي، لكن اكتشفنا بمضي الوقت ما هو أنكى وأمر، إذ تبين لنا أنه متصالح أيضا مع إسرائيل!
يغنينا عن التفصيل في الإجابة عن السؤال عما إذا كان الربيع العربي مؤامرة أم لا، أن نتعرف على السائل بهويته وخلفياته.
إذ حين تسقط ثورة 25 يناير نظام مبارك، فمن الطبيعي أن يعتبر وزراؤه أن ما حدث كان مؤامرة ــ بالمناسبة فقد كان مدهشا في حوار السيد أبو الغيط إشارته إلى أن النظام المصري كان ينبغي أن يتغير لأن مبارك حينذاك كان قد بلغ عامه الثالث بعد الثمانين ــ من ثَمَّ فإنه لم يذكر في حقه سوى أنه كبر في السن.
أما جرائمه طوال ثلاثين عاما، التي تمثلت في الفساد والاستبداد وتزوير الانتخابات ونهب ثروات البلد التي أدانه فيها القضاء، ذلك كله سقط من ذاكرة «الأمين» الهمام، ولم ير فيه ما يشين الرجل ونظامه.
حين يكتب التاريخ بنزاهة يوما ما سيعرف الناس ما يهمس به البعض ولا يجرؤ على إعلانه لأسباب مفهومة، من أن التآمر الحقيقي قامت به أطراف محلية وإقليمية.
وهو ما يسوغ لنا أن نقول بأن الربيع العربي كان ضحية للتآمر ولم يكن سببا فيه. أما مظاهر الخراب والفوضى فلها أسباب أخرى على رأسها الاستبداد ومخلفاته، والربيع العربي بريء منها، بل لعله كان العلاج الحقيقي لها.