ليس ثمّة تفسير معقول لهذه الوضعية التي تظهر عليها ماكينة عبد الفتاح السيسي الإعلامية، وهي تحاول الاندماج في أدوار المصدومين المندهشين، من رحلة سامح إلى قدسنا المحتلة، لقضاء يوم مع نتنياهو، سوى أن وزير الخارجية فعلها على الرغم من أنف السيسي، ومن دون علمه، وأنه سقط سقوطاً ذاتياً.
تطالع صحف السيسي تعليقا على الزيارة المشؤومة، فتجد نفسك وقد عدت إلى مقعدك أمام التلفاز في فترة تسعينيات حسني مبارك، متابعا صياح ديوك النظام ضد وزير خارجية، مثلا، غضباً من ذهابه أشواطا بعيدة في طريق التطبيع، أو صراخاً ضد وزير مالية، مثلاً، استياء من فساده، وذلك عملاً بنظرية “انشب مخالبك في الجميع وأنت آمن، شريطة عدة الاقتراب من لحم الزعيم”، وهي النظرية التي تطورت لاحقاً إلى “النظام فاسد لكن الرئيس جميل”، وهي اختراعات من إبداع دولة حسني مبارك، تقوم على تكنولوجيا “المسؤول الإسفنجة”، أو “الوزير الصدّادة” الذي يمارس الرئيس من خلاله كل الخطايا والجرائم المثيرة للغضب والقرف، فتنصب اللعنات واللكمات والركلات على الوزير، فيما ينعم الزعيم بوضعية المشتكى إليه، أو طوق الإنقاذ، والملجأ والملاذ.
وعلى هذا النحو، أمضى حسني مبارك عقوداً في علاقةٍ مشينة مع الكيان الصهيوني، من دون أن يذهب، بل وكان يجيد استعمال”دويتو” شعبان عبد الرحيم ومصطفى بكري في لعن إسرائيل وسبابها، من خلال مونولوجات صحافية وغنائية مضحكة، بينما يشير إلى الصهاينة، من طرف خفي، أن استمتعوا معي بالفرجة.
يعلم عمال ماكينة السيسي الإعلامية، قبل غيرهم، أن وزير خارجيته ذهب إلى الكيان الصهيوني، بناءً على استدعاء من بنيامين نتنياهو، أملاه على السيسي مباشرة، ويعلمون أيضاً أن قائدهم الهصور لم يترك مناسبةً تمر من دون أن يغازل إسرائيل، ويتسوّل رضاها عن أدائه، ولعلهم شاهدوه يلف خطبته في محافظة أسيوط بألوان العلم الصهيوني، ويخاطب جمهور الاحتلال بكلّ التزلف والانبطاح. ولعلهم يتذكرون أنّ “الغضنفر” بالنسبة لهم هو الدجاجة التي تبيض ذهبًا لإسرائيل، وأنّ سامح شكري ذهب إلى هناك مرسال غرام مقيم، وعامل “ديليفري” يقوم بتوصيل طلبات التطبيع إلى المنازل، حتى وإن صادف أنّ المرسل إليه قدّم له وجبة عشاء، واستبقاه لمشاهدة مباراةٍ مهمةٍ في كرة القدم، على قنوات تلفزيونية مشفرة.
يعلم النائحون والنائحات جيداً أنّ زيارة سامح شكري تحصيل حاصل، وأنها ربما تأخرت كثيراً. لذلك، يبقى مثيرا للدهشة الاستغراق في ألعاب الأجهزة الأمنية، لخطف الحوار إلى منطقة مستوى انحناءة الوزير أمام نتنياهو، انحنى كليا، أم جزئياً أم لم ينحن.. هيرتزول قال أم لم يقل، ليتحول النائب الناصري العتيق، كمال أحمد، ضارب توفيق عكاشة بالحذاء، من صقر ضد تطبيع السادات ومبارك وعكاشة، إلى فرخةٍ تبيض فوق عشب تطبيع السيسي، ليقدّم وصلة تطبيل مشتركة مع فريدة الشوباشي، طريدة راديو مونت كارلو لرفضها التطبيع، كما أقنعتنا في تسعينات القرن الماضي، ليدهشك هذا الثنائي بأن ما فعله السيسي ووزير خارجيته دبلوماسية محمودة، بينما ما فعله عكاشة تطبيع مذموم.
هنا، يقف مؤسسو الفاشية منبهرين من هذا التطبيق الحرفي للنزعة أو الفكرة التي تقوم على عبادة الدولة/ الدكتاتور، واعتبار كل ما يأتي به صحيحاً ومقدساً، بينما الشيء نفسه محرّم ومجرّم لدى الأفراد، فيصبح تطبيع عكاشة خيانة، وتطبيع السيسي منتهى الحكمة والدبلوماسية. فتسقط فريدة، وليسقط كمال، في غواية التطبيع الفاشي، كما يحلو لهما، فقد فعلها كثيرون قبلهما، منذ زمن لطفي الخولي. لكن، من قال إن ألوان السلام الدافئ الفاقعة يمكن أن تعمي الأبصار والبصائر؟!
ما زال في مصر ملايين سعد إدريس حلاوة وآلاف سليمان خاطر وملايين من الشباب سيجدد الهتاف، كما هتفنا في مظاهرات الجامعة دفاعاً عنه “اللي يبص لسليمان بصّة، يبقى يا خلق عايز له منصة”. صحيح أنهم قتلوا سليمان، وصادروا الهتاف في الحناجر، ومات شفيق أحمد علي، وعاش مكرم محمد أحمد، لكن ذلك كله لا يعني أن أبجدية القضية خرجت من الدم: إسرائيل عدو وفلسطين عربية.