ماذا كان يضير مصر لو أنها حين قامت بترحيل الإعلامية ليليان داود بصورة أكثر احتشاما واحتراما. أعنى أن تبلغ بالقرار ثم تعطى مهلة لمغادرة البلاد، خصوصا أننا فهمنا أنه لن يسمح لها بالعودة مرة أخرى. إذ حين تقيم بالقاهرة طوال خمس سنوات وتنجب ابنة بعمر إقامتها، فإن مغادرتها النهائية تحتاج إلى ترتيب لأوضاعها الخاصة المعيشية والأسرية، أما أن ينهى تعاقدها مع القناة التليفزيونية فى الصباح، ثم يزورها بعد الظهر من يطلب منها المغادرة خلال دقائق، ولا يسمح لها إلا بحمل حقيبة يدها وحافظة نقودها وربما بتقبيل ابنتها الصغيرة التى أصابها المشهد بالرعب والصدمة، فذلك مما لا يليق ببلد مثل مصر. بل فيه إساءة إلى البلد أكثر مما فيه انتقام منها أو إهانة لها.
لا أعرف من اتخذ قرار الإبعاد ولا ما هى حيثياته، لكنى مستعد لاحترامه، لكن الذى لم أفهمه هو لماذا تم تنفيذه بهذا الصورة المسيئة التى لا تشرف مصر، فضلا عن أنها تذكرنا بممارسات ظننا أو تمنينا ألا يكون لها ظل أو وجود لا بعد ثورة ٢٥ ولا بعد انتفاضة ٣٠ يونيو. وليس ذلك أسوأ ما فى الأمر، لأن الحدث وإن كانت ضحيته السيدة ليليان، إلا أن رسالته تتجاوز الشخصية، لتبعث بإشارات التحذير والتخويف والوعيد إلى كل الإعلاميين، بل إلى كل المهتمين بالشأن العام، لم أشر إلى الصحفيين الأجانب الذين استشعروا الخطر من وجودهم فى القاهرة، فرحلوا عنها واحدا تلو الآخر كى لا يصيبهم رذاذ الملاحقة أو الإهانة ويعرضهم لما لا يحبون.
الذى لا يقل خطورة عن هذا وذاك أن ما جرى لليليان داود يقلقنا بدرجة أكبر على المستقبل. بمعنى أنه ليس مقصورا على إهانتها أو تحذير الإعلاميين وإظهار «العين الحمراء لهم» ولا على الإساءة إلى النظام وتشويه صورته أمام العالم، وإنما هو أيضا بمثابة سهم كاشف عن اتجاهات الريح ومسارها فى المستقبل. إذ أنه دال ليس فقط على تزايد ضيق الصدر والتضييق على منافذ التعبير، وإنما أيضا على التشدد فى النزوع إلى القمع وعدم التسامح. ليس فقط إزاء المعارضين، ولكن أيضا إزاء كل غير الموالين، بمن فيهم المستقلون حتى من كان منهم ضمن النخبة التى عرفت باسم ائتلاف ٣٠ يونيو.
إزاء ذلك فإن ما يقلق هو رمزية الإجراء. بمعنى أنه بدا صادما فى ذاته ومؤرقا ومخيفا فى دلالاته رغم أنها قد تبدو أفضل حظا من غيرها. إذ حين قمعت فقد كان لها بلد آخر استطاعت أن تلجأ إليه، أما غيرها فإن قمعه ينتهى به إلى سجن العقرب أو أى جحيم آخر.
مبلغ علمنا أن السيدة داود لم تكن من المعارضين. لكن مشكلتها أنها حافظت على رصانتها واستقلالها، ولم تكن من المهرجين أو الشتامين المبتذلين. إن شئت فقل إنها كانت نموذجا للإعلامى المهنى الذى يحترم نفسه ويحترم الحقيقة ويحترم مشاهده. وبالمعايير الموضوعية، فإن تلك الصفات تعد فضائل ترفع من قدر الإعلامى وتحسب له. لكننا فوجئنا بأن ما اعتبرناه فضائل من جانبنا، حسب عليها ولم يحسب لها. وما الأسلوب الفظ الذى اتبع فى إبعادها ــ طردها إن شئت الدقة ــ إلا دليل واضح على جحم الضيق بأدائها والحرص على إهانتها والتنكيل بها.
ما لا يجب أن ينسى فى هذا الصدد أن دورها كان مقصورا على تقديم برنامجها، لكن الإعداد لم يكن منوطا بها. بمعنى أنها كانت تقول كلاما أعده لها غيرها، ولا أستبعد أن يكن قد وجد هوى لديها واقتنعت به، لكن ذلك لا ينفى حقيقة أنه أعد لها سلفا من قبل فريق البرنامج، وبالتالى لم تكن وحدها المسئولة عما وصف «بتجاوزاته» لم يكن سرا أنها كانت ضمن المتحمسين لثورة ٢٥ يناير، ولم تكن ضمن المعارضين لما جرى فى ٣٠ يونيو والثالث من يوليو. لكن ذلك يظل شأنها الخاص الذى اشتركت فيه مع قطاع عريض من المصريين، فضلا عن أنه لم يكن له تأثيره على أدائها الذى اتسم بالتوازن طول الوقت. وكان ذلك الأداء سببا فى بغض المهرجين لها الذين سعى بعضهم إلى تجريحها ومعايرتها بأنها «أجنبية» تخوض فى الشأن المصرى، فى حين أنها إذا كانت قد انضمت إلى زمرة الطبالين والمنافقين لعد ذلك من آيات التضامن العربى والتفاف الجماهير العربية حول أم الدنيا.
ما جرى يوم الاثنين ٢٧/٦ جعله يوما حزينا لمصر، أطلت علينا فيه «بهية» بوجه منفعل ومقطب تشع منه الرغبة فى التنكيل والتشفى. فلم نرَ فيه مصر الكبيرة أو الواثقة. لكننا لمسنا فيه بقوة رمزية الدبة التى قتلت صاحبها وهى تحاول أن تهش الذباب من على وجهه، لقد تكاثرت الدببة علينا.