يقول أرنولد توينبي: تسقط الحضارات لثلاثة أسباب: ضعف القوَّة الخلاَّقة في الأقلِّـيَّة المُوجِّهة (النخبة) وانقلابها إلى سلطةٍ تعسفية؛ وتخلِّي الأكثريَّة عن مُوالاة الأقلِّـيَّة الجديدة المُسيطرة وكفِّها عن مُحاكاتها، والانشقاق وضياع الوحدة في كيان المُجتمع.
وفي ذلك، يحمّل توينبي النخبة مسؤولية الفشل، حتى عندما تبدو الاتجاهات الاجتماعية الجماهيرية الغالبة تعمل ضد الذات، وضد اتجاه النخبة الإصلاحي، فعندما تكفّ النخبة عن كونها ملهمةً للمجتمعات والجماهير والشباب والناشئة، فإن المجتمعات تمضي، وتسوق معها النخبة أيضاً في اتجاهاتٍ مضادة لمصالحها، إذ ليس ثمّة سكون في الكون والحياة، فإذا لم تقد النخب المجتمعات، فإن المجتمعات تقود النخب، وإذا لم تعمل النخب باتجاه القيم الأساسية للتقدم والنمو، فإنها تعمل حتماً باتجاه الفشل.
وليس خطأ المجتمعات أو غالبية الجماهير، على سبيل المثال، عندما تُقبل بحماسة وهوس على الانشغال بمباريات كرة القدم وتشجيع الأندية المحلية والعالمية، فهذه هي طبيعة المجتمعات والثقافات في التاريخ والجغرافيا، الغنية منها والفقيرة، والمتقدّمة والنامية والأقل نمواً.. ولا ملامة على الناس، بمختلف أعمارهم ومستوياتهم التعليمية وانتماءاتهم الاجتماعية والاقتصادية، أن يتابعوا المباريات والبرامج التلفزيونية الترفيهية، وأن يشجعوا الفرق والأندية، ويستمعوا بشغفٍ إلى الأغاني والموسيقى الجديدة والشبابية.
ولكن المشكلة الكبرى والكارثية في مجتمعاتنا هي غياب النخبة الثقافية والاجتماعية، أو عدم وجود فئة اجتماعية وثقافية، يجب ألا تقل عن خمس المجتمع، تشارك على نحو فاعل ومؤثر الحركة الثقافية والفنية والعلمية والإبداعية المحلية والعالمية، وتنشئ أسواقاً ومؤسساتٍ وبرامج ومشاركات وفضاءات للثقافة والفكر والفنون والموسيقى والمسرح، .. وتجتذب باستمرار الأجيال والشباب وجميع الفئات الراغبة والمهتمة بالثقافة والفنون الراقية والمتقدّمة، وتقدم أيضاً نموذجاً بديلاً وفاعلاً للثقافة والفنون الجماهيرية والشعبية، وأقصد بالشعبية التي يتجه إليها غالبية الناس، بغض النظر عن كونها تنتمي إلى الثقافة الأصيلة، أو وفدت عليها.
وليس المطلوب، بطبيعة الحال، أن يكون المجتمع، في أغلبه، مثل النخبة. لكن، يجب أن تكون النخبة متميزةً في انشغالاتها وقدراتها، وربما يكون التوزيع المناسب والمثالي للاتجاهات الثقافية أن ينشغل في حدود الخمس من المجتمع بالثقافة والفنون والعلوم في مستوياتها ومجالاتها الرفيعة والنبيلة، في الفلسفة والأدب والفنون والموسيقى والمسرح والآداب. ويغلب على هذه الفئة الاشتغال الكبير، وبعضها التفرّغ في الشأن الثقافي والفكري والفني. وفي توزيعها العمري، يغلب عليها أنها فوق الأربعين. ولكن، يجب أن يكون ثلثها على الأقل دون الأربعين، لتظلّ قادرةً على التجدّد والاستقطاب، ثم يكون خمسٌ آخر في المجتمع، يغلب عليه أنه دون الأربعين، يغلب عليه مشاركة النخبة اهتمامهاتها الجادّة والمتقدمة، ويشارك الشباب والجماهير أيضاً في وجهتها الجماهيرية، فهذا التداخل يضمن تطوير الاتجاه الشعبي، ويضمن أيضاً حيوية الاتجاه التقليدي والقيادي، وقدرته على الإحاطة والتجدّد. ثم يكون خمس ثالثٌ يغلب عليه جيل ما دون الخامسة والعشرين، وإن كان يغلب عليه الاتجاه نحو الترفيه، فإن له اهتماماً بالثقافة والفنون والآداب، ولا بأس بعد ذلك أن يكون الجيل وجزء كبير من المجتمعات مشغولاً بما يبدو أقلَّ نفعاً وأهمية، طالما أن نسبة مؤثرة أو معقولة من المجتمع مشغولةٌ بالعلم والثقافة.
ولكن، يحدث التشوه الفكري والقيادي، عندما تواصل الأجيال هذه الطريقة في التفكير والحياة، بعد التخرج من الجامعة، أو ما يعادلها في السنّ، وعندما لا تستقطب النخبة الأذكياء والمتفوقين، وأسوأ من ذلك عندما ينجرف الأذكياء بعيداً عن القيادة والتأثير، أو يصل إلى القيادة الأقل ذكاء وقدرة، أو عندما تعجز المؤسسات عن استقطاب أو اكتشاف الأذكياء والموهوبين، ففي هذه الحالة، تتعطّل ديناميكيات المجتمعات ومحفّزاتها، وتفقد النخب قدرتها على التأثير، وتمضي متوالية الشرور، فلا يعود الأذكياء والمتفوقون يأخذون موقعهم الذي يستحقونه في المجتمعات والدول، فيخرجون عليها ويتحوّلون إلى التطرف، ويستخدمون قدراتهم في التأثير على المهمشين والغاضبين للعمل ضد الدولة والمجتمع.
يملك كل مجتمعٍ، وعلى نحو طبيعي، نسبةً من الأذكياء والموهوبين، ويكون الفرق بين أمةٍ وأخرى في القدرة على رعاية الموهوبين، وتفويضهم فيما بعد بالقيادة والتأثير، وفي قدرة هذه القيادات والنخب على قيادة مجتمعاتها، والتأثير فيها، وأسوأ ما يحدث عندما تستخدم النخب مواهبها، وفرصها في العمل ضد الذات.
أزمة الإصلاح في عالم العرب اليوم هي الصراع بين النخب والمجتمعات، أو الانفصال بين القيادات الاجتماعية والاقتصادية ومصالح المجتمعات وتطلعاتها، فالجماهير الغاضبة تنزع إلى الانتقام والكراهية، والنخب صارت في حالةٍ غير قادرة على التراجع، أو التخلي عنها، وإذا لم تستطع النخب استعادة زمام المبادرة باتجاه تسويةٍ مع المجتمعات، وفي اتجاه استعادة دورها الأصلي، فإن الصراع يلحق ضرراً بالغاً بكل أطرافه، .. ويكاد يدمر كل شيء.