يقولون : (الطبع يغلب التطبع).
ويقولون أيضا : (يموت الزمَّار وأصابعه تلعب).
وهذه قوة سلبية يبثها المتشائمون المثبِّطون المعوِّقون العجزة الفاشلون.
وهل ولد زمَّار؟! أم أنه تعلِّم وتدرب وتعوَّد وبذل وصبر حتى صار له طبعا بل فنًّا يجيده ويحسنه؟!
فلم لا نتطبَّع بالشيء، بمران أنفسنا وتعويدها علي الشيء حتى يكون لنا عادة وطبعا.
وتعلمنا ذلك من ديننا.
ففي كتاب ربنا عز وجل {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}(1) قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ صَلَاحَهُ ثم هداه لِمَا يُصْلِحُهُ. (2)
{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا* إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (3) فمَنْ توجهتْ همَّتُهُ إلى العلا ينالُهُ، وكذلك مَنْ أخلَدَ إلى الأرضِ واتَّبَعَ هواهُ فسيلحَقُهُ بقدرِ دنوِّ همتِهِ مِنَ الذُّلِّ والمهانةِ والتبعيةِ
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا* قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}(4) {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (5)
يقول الشهيد سيد قطب: إن هذا الكائن مخلوق مزدوج الطبيعة، مزدوج الاستعداد، مزدوج الاتجاه ونعني بكلمة مزدوج على وجه التحديد أنه بطبيعة تكوينه (من طين الأرض ومن نفخة اللّه فيه من روحه) مزوَّد باستعدادات متساوية للخير والشر، والهدى والضلال. فهو قادر على التمييز بين ما هو خير وما هو شر. كما أنه قادر على توجيه نفسه إلى الخير وإلى الشر سواء. وأن هذه القدرة كامنة في كيانه، يعبر عنها القرآن بالإلهام تارة : «وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها» .. ويعبر عنها بالهداية تارة : «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» .. فهي كامنة في صميمه في صورة استعداد.. والرسالات والتوجيهات والعوامل الخارجية إنما توقظ هذه الاستعدادات وتشحذها وتوجهها هنا أو هناك. ولكنها لا تخلقها خلقا. لأنها مخلوقة فطرة، وكائنة طبعا، وكامنة إلهاما.
وهناك إلى جانب هذه الاستعدادات الفطرية الكامنة قوة واعية مدركة موجهة في ذات الإنسان. هي التي تناط بها التبعة. فمن استخدم هذه القوة في تزكية نفسه وتطهيرها وتنمية استعداد الخير فيها، وتغليبه على استعداد الشر.. فقد أفلح. ومن أظلم هذه القوة وخبَّأها وأضعفها فقد خاب «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» (6)
{… إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ …}(7)
فإنه لا يغير نعمة أو بؤسى ، ولا يغير عزا أو ذلة، ولا يغير مكانة أو مهانة… إلا أن يغير الناس من مشاعرهم وأعمالهم وواقع حياتهم، فيغير اللّه ما بهم وفق ما صارت إليه نفوسهم وأعمالهم. وإن كان اللّه يعلم ما سيكون منهم قبل أن يكون. ولكن ما يقع عليهم يترتب على ما يكون منهم، ويجيء لا حقا له في الزمان بالقياس إليهم. (8)
وفي سنة نبينا صلي الله عليه وسلم « الْخَيْرُ عَادَةٌ وَالشَّرُّ لَجَاجَةٌ وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ » (9)
فكل عمل أو خلق إنما جاء بالأساس بالتعود عليه وتكراره.
وفي فيض القدير: والعادة مشتقة من العود إلى الشيء مرة بعد أخرى حتى يسهل عليه فعل الخير والصلاح والعاقل من جاهد نفسه {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (10)
اعترض كلب في طريق عيسى عليه السلام فقال: اذهب عافاك الله فقيل له: تخاطب به كلبا؟ قال: لسان عودته الخير فتعود
وقال الحكماء: العادة طبيعة خامسة. (11)
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، مَنْ يَتَحَرَّى الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ … » (12)
وفي الحديث «… وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ ، وَمَا أُعْطِىَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْراً وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ » (13)
فإذا كانت النفس بالعادة تستلذ الباطل وتميل إليه وإلى المقابح فكيف لا تستلذ الحق لو ردت إليه مدة والتزمت المواظبة عليه … ومن أراد أن يصير الحذق في الكتابة له صفة نفسية حتى يصير كاتبا بالطبع فلا طريق له إلا أن يحاكي الخط الحسن ويواظب عليه مدة طويلة فيتشبه بالكاتب تكلُّفا ثم لا يزال يواظب عليه حتى يصير صفة راسخة في نفسه فيصدر منه في الآخر الخط الحسن طبعا كما كان يصدر منه في الابتداء تكلفا… وكذلك من أراد أن يصير سخيا عفيف النفس حليما متواضعا فيلزمه أن يتعاطى أفعال هؤلاء تكلفا حتى يصير ذلك طبعا له فلا علاج له إلا ذلك…
فالأخلاق الحسنة تارة تكون بالطبع والفطرة, وتارة تكون باعتياد الأفعال الجميلة, وتارة بمشاهدة أرباب الفعال الجميلة ومصاحبتهم, وهم قرناء الخير وإخوان الصلاح، إذ الطبع يسرق من الطبع الشر والخير جميعا. فمن تظاهرت في حقه الجهات الثلاثة حتى صار ذا فضيلة طبعا واعتيادا وتعلما فهو في غاية الفضيلة. ومن كان رذلا بالطبع واتفق له قرناء السوء فتعلم منهم وتيسرت له أسباب الشر حتى اعتادها فهو في غاية البعد من الله عز وجل.(14)
وحتى لو جربت مرة ومرات حاول ثم حاول ثم حاول ولا تعجز « … احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجَزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَىْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا . وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ »(15)
عُدْ بالنفس إلي أصلها:
جاء في الحديث « … وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا.. » (16)
قال النووي: قوله تعالى: {وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ} أي مسلمين، وقيل: طاهرين من المعاصي، وقيل: مستقيمين منيبين لقبول الهداية.
وقوله تعالى: «وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ، فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ» أي: استخفوهم فذهبوا بهم، وأزالوهم عما كانوا عليه، وجالوا معهم في الباطل»(17)
وقال الطاهر بن عاشور: «وإذ قد كانت نفوس الشياطين داعية إلى الشر بالجبلة تعين أن عقل الإنسان منصرف بجبلته إلى الخير، ولكنه معرض
لوسوسة الشياطين، فيقع في شذوذ عن أصل فطرته، وفي هذا ما يكون مفتاحا لمعنى كون الناس يولدون على الفطرة، وكون الإسلام دين الفطرة،
وكون الأصل في الناس الخير» (18)
«مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» (19)
قال القرطبي: «الفطرة هي الخلقة التي خلق الله عليها المولود في المعرفة بربه، فكأنه قال: كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة»(20)
وجاء رمضان ليكون فرصة نتعلم فيه كل خير ونعود أنفسنا علي الفعل الجميل فهو بمثابة برمجة النفس والعقل علي التعود علي الفضائل وترك الرذائل حتى يصير الخير سجية في النفس وعادة في الطبع.
يقول الإمام ابن القيم: كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الصّيَامِ حَبْسَ النّفْسِ عَنْ الشّهَوَاتِ وَفِطَامَهَا عَنْ الْمَأْلُوفَاتِ وَتَعْدِيلَ قُوّتِهَا الشّهْوَانِيّةِ لِتَسْتَعِدّ لِطَلَبِ مَا فِيهِ غَايَةُ سَعَادَتِهَا وَنَعِيمِهَا وَقَبُولِ مَا تَزْكُو بِهِ مِمّا فِيهِ حَيَاتُهَا الْأَبَدِيّةُ وَيَكْسِرُ الْجُوعُ وَالظّمَأُ مِنْ حِدّتِهَا وَسَوْرَتِهَا وَيُذَكّرُهَا بِحَالِ الْأَكْبَادِ الْجَائِعَةِ مِنْ الْمَسَاكِينِ . وَتُضَيّقُ مَجَارِي الشّيْطَانِ مِنْ الْعَبْدِ بِتَضْيِيقِ مَجَارِي الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَتَحْبِسُ قُوَى الْأَعْضَاءِ عَنْ اسْتِرْسَالِهَا لِحُكْمِ الطّبِيعَةِ فِيمَا يَضُرّهَا فِي مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا وَيُسَكّنُ كُلّ عُضْوٍ مِنْهَا وَكُلّ قُوّةٍ عَنْ جِمَاحِهِ وَتُلْجَمُ بِلِجَامِهِ فَهُوَ لِجَامُ الْمُتّقِينَ وَجُنّةُ الْمُحَارِبِينَ وَرِيَاضَةُ الْأَبْرَارِ وَالْمُقَرّبِينَ … فَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى التّقْوَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ } (21)
وَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الصّوْمُ جُنّةٌ . وَأَمَرَ مَنْ اشْتَدّتْ عَلَيْهِ شَهْوَةُ النّكَاحِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ بِالصّيَامِ وَجَعَلَهُ وِجَاءَ هَذِهِ الشّهْوَةِ.(22)
ولابد أن نثق أننا نستطيع التغيير بجد ومجاهدة وصبر ومثابرة واستعانة بالله.
…………………………………………………………….
- سورة طه الآية 50
- معالم التنزيل في تفسير القرآن للبغوي.
- سورة الإنسان الآيتان 2-3
- سورة الشمس الآيات 7-10
- سورة البلد الآية 10
- في ظلال القرآن
- سورة الرعد الآية 11
- في ظلال القرآن
- رواه ابن ماجة عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِى سُفْيَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وحسنه الألباني.
- سورة العنكبوت الآية 69
- فيض القدير
- رواه الطبرانى فى الأوسط ، والدار قطني والخطيب, وابن عساكر عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وحسنه الألباني.
- رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ رضى الله عنه
- إحياء علوم الدين
- رواه مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عن رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
- أخرجه مسلم وعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ عن رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
- شرح النووي على صحيح مسلم
- التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
- متفق عليه
- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي
- سورة الْبَقَرَةُ الآية 185
- زاد المعاد في هدي خير العباد