شاب متشيك يبيع فريسكا في وسط البلد، ثم يتضح أنه نجم مجتمع يرتدي أفخر ملابس ويرتاد أغلى النوادي الليلية وتظهر صوره يراقص الفتيات في مواقع كايرو زووم وكايروسين. شاب وفتاة مخطوبين بيجهزوا للزواج بعربية بطاطا بالنوتيلا، لنكتشف أن لديهم سيارات ألمانية فارهة ومشتركين في أغلى النوادي ويرتدون ملابس براندات، وكمان عندهم شركة سياحة بتاعتهم. وأخيرا ميار وسارة بيبيعوا شقة البطيخ في الشارع بخمسة جنيه وهم أساسا طلبة في اقتصاد وعلوم سياسية.
انا لا أميل لنظرية المؤامرة خالص، وأن ده ملعوب من النظام لمواجهة البطالة والضحك على الشباب العاطل، بدل من توفير فرص عمل له في ظل تحول رهيب إلى الليبرالية الجديدة التي تفرم الغلابة ولا ترحم. نظام يقترح علينا العمل على توكتوك أو عربية خضار. بس تعالوا نشوف مين اللي بينشر عن المبادرات المثيرة للغثيان دي؟ وسائل إعلام موالية للنظام، اليوم السابع، برنامج البيت بيتك الخ، ثم نجد الفنانة نشوى مصطفى ممثلة مديوكر واحد المطبلات المعروفات للنظام والكارهات للثورة تقول: “عفارم عليهم انهم مااستسلموش للاحباط وللبطالة ولا قعدوا يولولو ويشتموا فى البلد”. أظن كده الرسالة وصلت.
حد فينا فاكر صورة الست اللي البلدية بتشد منها سوباطة الموز وهي مستقتلة عليها؟ لأنها رزقها ورزق عيالها وأكلهم. حد فاكر صورة البلدية وهي بتصادر عربية القصب والراجل بتاع القصب عمال يبكي في حسرة على ماله لأنه بيكافح فعلا وده مصدر رزقه الوحيد؟ هل البلدية تقدر تقرب من ميار وبطيخها؟ يقفشوا بتاع الفريسكا أبو شعر مسبسب؟ يصادروا البطاطا والنوتيلا؟ هل ميار وبتوع النوتيلا بيواجهوا بلطجية الشواع؟ بيدفعوا فردة؟ بيدفعوا ارضية؟ بيزبطوا أمين شرطة البلدية والمرافق علشان يسيبهم يسترزقوا؟ ليه ما اتقبضش عليهم زي آية حجازي اللي هي برضه بنت ناس ونزلت تساعد أولاد الشوارع؟ السؤال الأشمل والأعم: هل هم فعلا بيكافحوا؟ وهل ده كفاح أصحاب الشهادات العليا المطلوب في هذا البلد؟ أم إهانة للشهادات وللشباب الذي كافح بالفعل في تعليمه حتى حصل على الشهادة؟
في السنوات الأخيرة ليس فقط بعد الثورة، ولكن قبلها بسنوات ظهرت موضة العمق، ليس عمقا حقيقيا ولكن عمق مدعى مختلق، شباب يقرأ لكنه لا يقرأ، كتب قيمة بل كتب تجارية تافهة تتحول إلى أفلام سينمائية فيما بعد، هيبتا وفيل أزرق وبلا أزرق، شباب لم يقرأ سكشبير وديكنز ولكنه يقرأ لأحمد مراد ودان براون، موسيقيون يقومون بعمل ريسايكلينج أو إعادة تدوير للأغاني القديمة لفيروز وأم كلثوم والسير الشعبية والشعر الصوفي ويعتبرهم مريدوهم مجددين ومحدثين، يغنون السيرة الهلالية ومربعات ابن عروس التي تغنى في الموالد وحلقات الذكر للبسطاء منذ مئات السنين ويعتبرون أنفسهم اندر جراوند، بينما وصلت تذاكر حفلات بعضهم إلى آلاف الجنيهات. وأنا أعرف الاندر جراوند حين أراه، وما أراه هنا لا يسعدني حقيقة، لتنتشر ظاهرتهم في القاهرة وبيروت وتونس وكازابلانكا. فنانون مديوكر لفظتهم الكباريهات فقرروا أن يخترعوا لأنفسهم ساحة.
لي صديقة بعد أن انتهينا من احتساء كان من البيبسي، قامت بتقطيع الكان بكاتر وحولت الكان إلى طفاية سجائر على شكل زهرة. لم يكن هذا فنا ولا إبداعا ولم تكن صديقتي فنانة ولا أنا جمهورها. كل ما حدث هو عملية ريسايكلينج قام بها أحد الهواة، لكن بما أن المنطقة تمر بعصر من عصور الانحطاط أصبحت الميديوكريسي فنا، أنصاف أصوات، أنصاف مواهب، ألحان مسروقة، كتابات مسروقة من كتب أجنبية ناجحة، محادثات سوقية تتحول إلى دواوين شعرية رومانسية تحقق أعلى المبيعات، ويقوم كتابها بعقد حفلات للتوقيع للمعجبين والمعجبات ثم قد تتحول لأغنيات راب. فنانة تاتو تسرق التصميمات الأجنبية وتقوم بتنفيذها لأبناء الاثرياء بمبالغ بالألوف على أنها من تصميمها، وأخيرا شابة تشتري أحذية قماشية بيضاء من الصين بسعر دولار واحد للحذاء، ثم ترسم عليه رسومات رائجة منقولة وتبيعه للمغفلين ب 800 جنيه للحذاء. لم يخترع أحدهم شيئا أو يبدع شيئا، لكن كلهم يريدون أن يحصلوا على ثروة تماثل بيترو فيريرو مخترع النوتيلا.
في وجود هذا الجمهور الذي ينبهر بغالية بن علي وهي تغني يا مسافر وحدك وهي ترقص الفلامنكو بشكل رديء، ويقول أحد المعلقين على صفحتها: الله اول مرة اسمع الاغنية دي! ولا كأن عبد الوهاب غناها سنة 1942، ودينا الوديدي وهي تغني لابن الفارض دون تعريف جمهورها به كما يستحق وكأنها تغني من شعر السيد والدها مثلا ولسه مخلص كتابته ليها إمبارح، كان لابد من توفير تغذية من نفس النوع، النوع العميق، فتحول الفول والكشري الى فرانشايز زوبا في الزمالك والمعادي والتجمع الخامس، وتحولت الطعمية إلى فرانشايز جاست فلافل التي أعتقد أنها أغلقت فروعها في مصر بسبب منافسة الطعمية المصرية الأصلية.
بعد ما نشرت بوست مقتضب على السوشيال ميديا عن عدم رضائي عن مشروع ميار وسارة للبطيخ، وصلتني من ميار احدى المشاركات في المشروع رسالة في الانبوكس تتهمني بالهمجية وأن مشروعهم مشروع حضاري. والحقيقة لا أعرف ما الحضاري في بيع شقة البطيخ بخمسة جنيهات؟ ومالها عربيات البطيخ بتاعة زمان والناس اللي واقفة بكل أصالة تزروط هدومها بمية وبذر البطيخ؟ ما الحضاري في أن مطعم زوبا يقشر القصب ويعمله مكعبات في كوبايات ويبيعه بالشيء الفلاني؟ ومالها مصمصة القصب على شط الترعة اللي عملها جدودنا لألوف السنين؟ ما الحضاري في بيع سندوتش الطعمية بخمسين جنيه؟ ما الجديد والمبهر والحضاري الذي تقدمه ميار وسارة؟ هل حتى فكرتم في تحسين أوضاع الناس العاملين في تلك المهن بالفعل لتكون مبادرة حضارية حقا؟
حكيت لميار كيف كنت أسافر نيويورك قديما لأجد على كل ناصية مقهى مختلف بطعم مختلف وبن مختلف من بلد مختلف، فهذا برازيلي وهذا عربي وهذا إفريقي. كل مقهى له جو مختلف وشكل مختلف وسعر أيضا مختلف، ثم كيف أسافر إلى نيويورك الآن فأجد كل هذه المقاهي وقد أقفلت وأفلست وخرجت من السوق وحل محلها ستارباكس، نفس القهوة بنفس الديكور بنفس ملابس النادلين والنادلات، فهل هذه جنة الرأسمالية والسوق الحر والعولمة التي كانت تسخر من ارتداء الصينيين للبدل الزرقاء كزي موحد؟ ثم ضربت لها مثلا بمطعم هوترز في أمريكا الذي يجذب زبائن باستخدام نادلات من ذوات الصدور الكبيرة، فسكتت ميار، لكن وراء فكر ميار وسارة يقف دكتور أو دكتورة في الجامعة من تلاميذ ميلتون فريدمان ومدرسة شيكاجو الاقتصادية الحقيرة، يعمل على نقل تجربة الإفقار إلى مصر التي اكتفت من الفقر فعلا.
أنا راجل مش متخصص في الاقتصاد، لكن أميل لأفكار اليسار والعدالة الاجتماعية، وضد توحش الرسمالية وانسحاب الدولة من تنظيم التهام أصحاب المال لجهد وعرق وصحة ومستقبل الفقراء. درست الاقتصاد لسنتين فقط وكانت درجاتي فيه امتياز والحمد لله، لكني تحولت إلى دراسة الأدب الانجليزي لأني أحبه وأريد أن أعمل في ما أحبه، وأنا لم أكن أحب العمل بالاقتصاد أو البنوك. لكن دعوني أقتبس من محادثة جرت بيني وبين الناشط اليساري تامر وجيه:
“تسليط الضوء على حد بيعمل مشروع صغير فردي ناجح ده تكتيك ليبرالي جديد اتهرس ميت مرة قبل كده. الرسالة متعددة الجوانب، جانب بيقول سيبك من الدولة والتزامها تجاه الشباب والمواطنين بإنها تشغلهم، وجانب بيقول اللي بيجتهد بينجح بس الناس كسلانة ومش بتجتهد، وجانب بيقول إن المشروع الخاص طريق التقدم والنجاح، وجانب بيغازل إحساس إن كلنا ممكن نبقى مليونيرات لو ابتدينا صغيرين واجتهدنا (قصص من نوع ده ابتدى بخمسين جنيه وأصبح أكبر مليونير في أمريكا)… كل ده في حين أن المشروعات الفردية الصغيرة – بالذات في ظروفنا – هي نصباية وطريق للهلاك.. من بين كل ميت مشروع عشرة بينجحوا نص نص وتسعين بيفشلوا.. الحقيقة هي اللي اتقالت في فيلم الليمبي لما حاول يبيع كبده خدته البلدية وحاول يأجر عجل اتمسك في شرم الشيخ.. إلخ.. ومش بس حرب الدولة ضد المشروعات الصغيرة هي المشكلة.. ده كمان حرب السوق نفسه اللي بينحاز للمشروع الكبير ويهرس الصغير.. أمال الغارمات دول إيه بالضبط. بس الليبرالية الجديدة قايمة فكريا على مغازلة حلم إن كلنا هنبقى بيزنيس بيبول (تاتشر قالت هخلي كل البريطانيين رجال أعمال أظن).”
ويستمر تامر: “ثانيا: كون إن اللي بيتسلط عليه الضوء حد شيك واقتصاد وسياسة وست بيضيف سبايسس للقصة، ويخليها حراقة أكتر، ومن ناحية تانية بيزود حقارتها، يعني انتوا ناسيين الملايين اللي بيعملوا مشاريع صغيرة من الحرافيش وجايين تصوروا حد شيك عشان “مننا” و”شبهنا” (ما هي الرسالة بتتقدم للطبقة الوسطى اللي عيالها هما كمان مأزومين)..”
كلام تامر وخصوصا كلمة الغارمين والغارمات ولعت لمبة جديدة في دماغي وقررت أبحث في الموضوع. تقدر الإحصاءات عدد الغارمين والغارمات في مصر بسبب المشاريع الصغيرة الفاشلة وعدم القدرة على تسديد الديون والاقساط بعدد 20 ألف سجين وسجينة يقبعون داخل السجون المصرية ونسبتهم تصل الى 25% من نسبة المساجين في مصر، إلى جانب أضعافهم صدرت بحقهم أحكام نهائية تنتظر التنفيذ، كل هؤلاء أصحاب ستارت أبس بدأت وفشلت، بعضهم محبوس بدين يقدر ب 90 جنيها فقط لا غير، لكنهم مش زي بتاع الفريسكا ولا بتوع النوتيلا الكيوت.