تأتي الذكري الـ68 للنكبة الفلسطينية وسط تراجع الاهتمام العربي بالقضية الفلسطينية بل وتآمر عليها من قبل الثورات المضادة التي انقلبت على ثورات شعوبها وعلى طموحاتها وآمالها بالحرية والديمقراطية والحفاظ على وحدة الأمة وهويتها والاهتمام بقضاياها المركزية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وهو ما أجهضته هذه الثورات المضادة طبقا لخطة مدروسة وتآمر دولي وإقليمي معاد للفلسطينيين ويحمل لغة التودد والتقرب إلى الكيان الصهيوني.
كان من الطبيعي أن ترتفع وتيرة مخاوف الفلسطينيين من التطورات التي حدثت في بعض الدول العربية وما عرف بالثورة المضادة للربيع العربي؛ بسبب عدم وضوح الرؤية لمسار هذه الثورات، بالتزامن مع التغيرات السياسية والإقليمية، وتأثيرها السلبي في القضية الفلسطينية، وهو ما شاهدناه بوضوح في الحرب التي شنها الكيان الصهيوني على قطاع غزة في 2014، وتشديد الحصار عليه من الجانبين المصري والصهيوني، والسباق الزمني الذي يخوضه الكيان لاستهداف المسجد الأقصى، وتهويده، والهجمة الاستيطانية الشرسة في الضفة الغربية.
وسرعان ما كشفت الثورات الأنظمة العربية على حقيقتها، ولم تعد تنفع محاولات التغطية على واقع الاستبداد والإتجار بقضية فلسطين، أو بدعوى مواجهة التحديات الخارجية، والأكذوبة التي رددتها هذه الأنظمة طوال العقود الماضية لتبرّر إخفاقاتها في تحقيق التنمية الاقتصادية، والنهوض بالدولة، وانتهاكات حقوق الإنسان، والمبالغة في عسكرة وتغوّل الأجهزة الأمنية، بدعوى مواجهة إسرائيل، كما تراجع دور الإعلام العربي في تناول القضية الفلسطينية، وظهر ذلك بوضوح من خلال قنوات عربية مسيسة تعمل لصالح جهات بعينها، ولغة مخاطبة متدنية فاسدة، غرضها التأثير في المواطن البسيط وكانت ثورات الربيع العربي التي بدأت بالثورة التونسية في 17 ديسمبر 2010، مثلت تحقيقا لأحلام تحررية عاشها جيل شبابي جديد، ورأوا فيها وطنا عربيا خليا من الاستبداد الداخلي والتبعية للخارج.
بيد أن الثورات المضادة التي تقودها الدولة العميقة، بتوجيه وتمويل من دول عربية وأجنبية، بحسب مراقبين؛ جعلت ربيع العرب شتاءً، وحوّلت قيادات الثورة إلى رؤوس قد أينعت وحان قطاف بعضها، وزج بعضها الآخر في المعتقلات المظلمة، كما يجري الآن في مصر وأفضى كل ما سبق إلى نسيان وصمت، بات يمثل حال الذكرى الثامنة والستين لنكبة 1948، وهو المصطلح الذي يطلقه العرب على يوم 15 مايو من ذلك العام ويشير لقيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين. وأصبح السؤال المطروح الآن هو ما إن كان العرب يتذكرون النكبة بعدما مر بهم من اضطرابات ونكبات في سنوات “الربيع العربي”.
تناثرت الإشارات للنكبة على استحياء في وسائل الإعلام المصرية هذا العام. على سبيل المثال فكتب محمد سلماوي في “الأهرام” أعرق الصحف المصرية والعربية: “ما من شك أن سلسلة الثورات العربية المتتالية في أكثر من قطر عربي والتي أطلق عليها الغرب اسم الربيع العربي، كانت السبب الرئيسي لتراجع الاهتمام العام بالقضية الفلسطينية”.
وقال فرحات حسام الدين -في مقال بالأهرام أيضا- إن ذكرى “النكبة حلت علينا هذا العام والقضية الفلسطينية تواجه أسوأ مراحلها، فلم تعد قضية العرب الأولى التي خاض من أجلها العرب أربع حروب كبرى ضد الكيان الصهيوني، “فقد تراجعت أولوياتها في الاجتماعات والمؤتمرات والمنتديات وحتى في القمم العربية ولم تعد تتصدر جدول الأعمال إلا ذرًّا للرماد في العيون باعتبارها قضية العرب الأولي؛ نظرا لوجود نكبات عربية أخرى خلقت واقعا جديدا في سوريا والعراق واليمن وليبيا”.
وكان إحياء ذكرى النكبة في القاهرة أكثر صخبا في أعوام سابقة، ففي عام 2011 أضرم مصريون النيران في العلم الإسرائيلي خلال مظاهرة احتجاجية أمام السفارة الإسرائيلية، وفي عام 2012، انطلقت من القاهرة دعوات لتدشين مظاهرات إلكترونية ضخمة تستهدف أشهر الصفحات الإسرائيلية على فيس بوك للتنديد بذكرى النكبة وتدهور أحوال السجناء الأسرى الفلسطينيين بالسجون الإسرائيلية، لكن هذا العام اقتصرت أنشطة إحياء الذكرى على دعوة إلى وقفة مساء أمس الأحد أمام نقابة الصحفيين، وحملة أطلقتها الحملة الشعبية المصرية لمقاطعة “الكيان الصهيوني” خلال مؤتمر صحفي عقدته مساء السبت الماضي بمقر نقابة الأطباء.
ورغم تأكيد الموقف المصري الرسمي على إعطاء أولوية للقضية الفلسطينية، إلا أن عبد الفتاح السيسي يسير على خيط مشدود في تعامله مع السلطة الفلسطينية وإسرائيل، وهو ما أكدته مجلة فورين أفيرز الأميركية هذا الأسبوع بالقول: إن مصر وإسرائيل تبدوان الآن على شفا تحالف استراتيجي جديد، ولكن لم يتضح بعد أن كان الشعب المصري سوف يدعم مثل هذه الخطوة.
وذكرت المجلة أنه مع تركيز السيسي اهتمام القاهرة حاليا على الحرب ضد الإسلام السياسي، فهناك سبب للاعتقاد بأن إسرائيل سيكون لها شريك في مصر في المستقبل القريب، لكن وضع العلاقات المصرية الإسرائيلية ما زال في مرحلة التشكل في مجال الرأي العام ولا يخلو تحليل في صحيفة حكومية عربية شهدت انقلابا علي الربيع العربي، ولا صحيفة صهيونية من نشر مزاعم أنه بينما العالم العربي منهمك بثوراته المشتعلة، شهدت نشاطات ذكرى النكبة في الأراضي الفلسطينية تراخيا ملحوظا وعدم اهتمام.
ولكن الصحيح هو من أن أضاع الذكرى ليس الثورات العربية التي رفعت أعلام فلسطين في الميادين العربية، ولكنها الحكومات التي جاءت عقب الثورات المضادة، والحكومات التي كانت قبل الربيع العربي، تقوم عمليات تطبيع غير عادية، فضلاً عن التطبيع الخليجي مع الدولة الصهيونية وتزايدت اللقاءات بين مسؤولين من البلدين، والذي بات مفاجأة للفلسطينيين قبل العرب.
أيضا أضاع التنسيق الأمني بين سلطة عباس في رام الله والاحتلال، الذي حول الشرطة الفلسطينية لمخبر على شعبها، حتى وصل الأمر لتفتيش المدارس لمنع حمل الطلاب سكاكين يستخدمونها في انتفاضة القدس، وتنازل السلطة خطوة تلو الأخرى، كل معنيّ للعودة للأرض المحتلة وهو التنسيق والتطبيع الذي بدأ منذ توقيع اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في عام 1993، فضلا عن الانقسام الفلسطيني في الضفة وغزة؛ ما جعل شعارات المسؤولين الفلسطينيين وعودهم للجماهير الفلسطينية غير المكترثة بهم، بأن “حق العودة لن يضيع”، غير ذات معني.
ومع هذا ظلت تنتشر فعاليات الحركة الاسلامية في فلسطين المحتلة وحماس في الضفة تحتفل بالذكرى لتذكر العالم بالمجازر الصهيونية، وعدم شرعية هذه الدولة المسماة “إسرائيل”، كما استمرت الضفة في مسيراتهم الشعبية لإحياء الحدث التاريخي ورفع العلم الفلسطيني ومفاتيح منازلهم في القرى المهجرة، في إشارة إلى التمسك بحق العودة رغم استحالة الأمر.
ولا تتحدث حركة حماس فقط عن حق العودة، إنما تواصل التمسك بخطاب تحرير فلسطين من البحر إلى النهر.
يقول الكاتب والمحلل الفلسطيني عبد القادر ياسين -في تصريحات خاصة لـ”رصد”- إن الربيع العربي جاء ليزيد الأمل لدى الفلسطينيين في إمكانية التحر ر أو على الأقل الدعم الكبير وعلق الجميع آمالا كبيرة في هذا الاتجاه، ولكن جاءت الثورات المضادة لتنهي هذا الأمل، وهذا الحلم الذي بدأت أول خيوطه بموقف شباب الثورة المصرية من السفارة الإسرائيلية بالقاهرة، ولكن كانت الثورة المضادة أسرع في كبح جماح الشباب وإعادة الأمور إلى سابق عهدها بمؤامرة دولية إقليمية؛ مفادها توفير الأمن للكيان الصهيوني على حساب الشعوب العربية والقضية الفلسطينية.
وأضاف ياسين أن ما جرى في غزة في عهد الرئيس محمد مرسي وزيارة رئيس الوزراء المصري وتبعته وفود عربية رسمية بعدها كان بمثابة رسالة التحذير والهلع الصهيوني، وهنا بدأت الدوائر العالمية والإقليمية في الإعداد لوأد ثورات الربيع العربي وإنهاء هذا الحلم بل الأكثر من ذلك التحامل علي الفلسطينيين ومعاداة حركات المقاومة كما جرى من جانب مصر ضد حماس وكأنه عقاب لها علي موقفها من الكيان الصهيوني مقابل تزلف وتودد غير مسبوق للكيان الصهيوني من جانب نظام السيسي والثورة المضادة.
ويعلق د. مصطفى كامل السيد، أستاذ الاقتصاد السياسي بجامعة القاهرة، في تصريحات صحفية: غياب القضية الفلسطينية عن الشارع المصري والعربي يعود إلى وجود مشكلات داخلية جذبت اهتمام المواطن، كما أن المواطن العربي والمصري أصابته حالة يأس من الوصول لحل للقضية، مشيرًا إلى وجود حالة من الانقسام بين الدول العربية حول القضية الفلسطينية، مشددا على أن الدعاية المضاد لحركة حماس في مصر جعلت المواطن يظن أن حماس هي السبب في المشكلات التي تعانيها مصر مع الإرهاب وهو ما أبعد جزءا كبيرا من المواطنين عن القضية الفلسطينية.