وكلما فضّوا مسيرةً نبتت أخرى.. تلك هي المسألة: الثورة صارت الفعل، والأوغاد رد الفعل. أكتب لك هذه السطور، لحظة انتصاف نهار يوم مصري عظيم، صعدت الثورة على الأكتاف، لتهتف كما هتفت في أيام يناير 2011 “الشعب يريد”، من دون تصنيفاتٍ سياسيةٍ أو أيديولوجية.. عاد خطاب يناير، وعادت كيمياء يناير، حيث العطش والعرق وغاز القنابل المسعور، وطلقات الخرطوش، كل ذلك لا يفرّق بين إخواني واشتراكي ثوري، ولا يميز بين ليبرالي وسلفي.
تمردت الثورة على نزعات الإقصاء، ودعوات الإبادة التي استبقت فعاليات 25 أبريل، لم ترهبها “مياه النار الحارقة”، ولا التحريض على إراقة الدماء، من فضائيات الفاشيست، ولم تستسلم لمخدرات الأسبوع الفائت المعبأة في ورش السيناريوهات العسكرية، وغواية انتظار أن ينقلب الانقلاب على الانقلاب.
لم تتأثر الثورة بالدراما الهابطة التي استدعوا ابنة جمال عبد الناصر، عشية التظاهرات، لكي تؤديها، على طريقة مسلسلات الصابون، لتقدم فاصلًا من التمثيل الركيك، تنبش فيه قبر أبيها، وتستخرج ما يشبع نهم زبائن رواية سعودية الجزيرتين، تيران وصنافير، وتدّعي أنها، مصادفةً، وجدت حجة ملكية الجزيرتين في صندوق مقتنيات الوالد الراحل.
أتذكّر قبل ثورة يناير 2011، فعلت هدى عبد الناصر شيئًا مشابها، حينما ذهبت إلى “دار الشروق” بمذكرات والدتها، تحية كاظم، التي عثرت عليها بخط يدها، أيضا، كما قالت، ووضعتني الأقدار، لكي أتولى إعادة صياغة المذكرات، بما تطلبه ذلك الأمر من عقد جلسات عمل مع هدى عبد الناصر، انتهت بصدورها في كتاب، نشرت حلقات منه، كانت آخرها في اليوم السابق لاندلاع ثورة المصريين في العام 2011.
وعلى الرغم من إعجابي بالمذكرات، إلا أن شيئًا استوقفني وجعلني في حيرة، فالثابت أن زوجة عبد الناصر لم تكمل تعليمها، كما أنها ليست من أصولٍ مصرية عربية. وعلى الرغم من ذلك، جاءت الأوراق التي قدمتها هدى مكتوبة بلغة جيدة، غير أني لم أترك نفسي للظنون، وتعاملت مع الأمر بواقعية، وهذا موضوعٌ يمكن تفصيله لاحقًا.
ثار المصريون، أمس، ضد سلطة إجرامية، بالمعنى الحرفي للكلمة، بالنظر إلى قطعان المسلحين الذين احتلوا الشوارع والمباني واستعمروا النقابات، وانتشروا في وسائل المواصلات، ووسائل التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام، متسترين في زي مدني، يستخدمون كل أنواع أسلحة القمع والفتك بالمتظاهرين. وعلى الرغم من ذلك كله، كانت أشجار الغضب تثمر، كلما قطعوا واحدة منها، فتضيء “المطرية”، إذا أطفأ الأوغاد نور “ناهيا”، وتتألق شوارع حي الدقي بالهتاف، إذا انقض القتلة على مسيرات بولاق، وتنتفض أطراف المدينة، إذا حاصروا وسطها بالجيش والشرطة والبلطجية النظاميين.
هي واحدةٌ من معارك الثورة الباسلة، كرّ وفرّ، غير أن الأجمل فيها أن الثوار امتلكوا ناصية المبادرة والمبادأة والفعل، فيما بقيت السلطة الغبية في دائرة رد فعل رديء، لعل أقبح ما فيه أن يومًا أتى على مصر، باتت السلطة فيه تحرّض أتباعها على الرقص الماجن بأعلام دولةٍ أخرى، حصلت على جزيرتين استراتيجيتين، تنطق وثائق عديدة بأنها مملوكة للشعب المصري.
كان الثوار يتحدّون المهانة والمذلة، بينما الحناجر الناطقة باسم عبد الفتاح السيسي تصرخ: الجزر مصرية، لكننا لا نمانع في إهدائها لمن رعوا انقلاب الجنرال، ودعموه وأطعموه أرزا وحنانًا.. لم تقل تلك السيدة شيئًا مختلفًا عن منطوق سياسات عبد الفتاح السيسي وخطابه، فلا تمانع في حمل الأهرامات وتمثال أبو الهول، ونقلهما إلى من يكفلون سلطة الانقلاب.
أجمل ما في اليوم أنه أظهر أن الثورة أقوى من الانقلاب ورعاته، وأعلى من مصطفى بكري وجيش الأوغاد، ومن رفعت السعيد، ومن الماكينة الأمنية الغاشمة.
أثبت النبلاء الذين خرجوا في المدن والقرى، أمس، أن مقاومة سلطة السفاحين مسألة مبدأ، وأن سقوطهم مسألة وقت.
تلك هي الرسالة التي كتبتها مسيرات الأمس.
أعلنها الصامدون بحشدهم المتجاوز كل دعوات الفرقة: فلنجعل ثورتنا هي البوصلة، وسنصل حتما، طال الطريق أم قصر.