شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

عقيدة أوباما

عقيدة أوباما
كان يوم الجمعة ٣٠ أغسطس ٢٠١٣ هو اليوم الذي أعلن فيه الرئيس باراك أوباما النهاية المبكرة لعهد أميركا كقوة عظمى وحيدة في العام، أو بشكل آخر، اليوم الذي نظر به باراك أوباما الحكيم في هاوية الشرق الأوسط وتراجع من الفوضى المستهلكة

كان يوم الجمعة، ٣٠ أغسطس ٢٠١٣، هو اليوم الذي أعلن فيه الرئيس باراك أوباما النهاية المبكرة لعهد أميركا كقوة عظمى وحيدة في العام، أو بشكل آخر، اليوم الذي نظر به باراك أوباما الحكيم في هاوية الشرق الأوسط، وتراجع من الفوضى المستهلكة، بدأ بخطاب ناري ألقاه بالنيابة عن أوباما وزير خارجيته جون كيري، في العاصمة الأميركية واشنطن. وكان موضوع خطاب كيري، الشبيه بخطابات تشرشل، هو قصف المدنيين بالغازات الكيميائية على يد رئيس النظام السوري بشار الأسد.

أوباما، الذي يخدمه كيري بإخلاص مع بعض السخط أحيانا، مرتبط بخطاب متماسك ومرتفع، وإن لم يكن ذات الخطاب العسكري المرتبط بتشرشل، إذ أن أوباما يعتقد أن المانوية، أو العدائية الحادة المشكلة ببلاغة، والمرتبطة عادة بتشرشل، كانت بسبب صعود هتلر، وكانت أحيانا دفاعية أمام الاتحاد السوفييتي، لكنه يعتقد كذلك أن الخطاب يجب أن يكون مدعوما بسلاح الاعتدال، خصوصا في المجال الدولي المعقد والمبهم الذي نعيشه اليوم.

يعتقد الرئيس أن الخطاب التشرشلي، والأهم، التفكير التشرشلي، هو الذي أخذ سلفه الرئيس الأميركي جورج بوش نحو الحرب المدمرة في العراق، أما هو فدخل البيت الأبيض على أساس الخروج من العراق وأفغانستان، ولم يكن يبحث عن تنانين جديدة ليواجهها، وكان مهتما بانتصارات واعدة في صراعات اعتقد أنها غير قابلة للربح، إذ أخبرني “بين رودز”، نائب مستشار أوباما لشؤون الأمن القومي، وأمين سره للسياسة الخارجية: “إذا قلت، مثلا، أننا سنخلص أفغانستان من طالبان ونبني ديمقراطية مناسبة مكانها، فإن الرئيس واعٍ أن شخصا ما، بعد سبع سنوات، سيحاسبك على هذا الوعد”.

لكن ملاحظات كيري في ذلك اليوم من أغسطس 2013، والتي صاغ “رودز” جزءا من مسودتها، تخللها غضب محق ووعود كبيرة، بما فيها التهديد الصريح بالهجوم القريب.

كيري، مثل أوباما، كان خائفا من الخطايا التي يرتكبها النظام السوري ضمن محاولاته لإخماد الثورة التي كان عمرها عامين. في غوطة دمشق، قبل ذلك بتسعة أيام، قتل جيش الأسد أكثر من ١٤٠٠ شخص بغاز السارين. كان الرأي القوي داخل إدارة أوباما هو أن الأسد يستحق عقابا أليما. في اجتماعات “غرفة الأوضاع” التي كانت في أعقاب هجوم الغوطة، كان رئيس عمال البيت الأبيض “دينيس مكدونوج”، هو الوحيد الذي حذر علانية من تبعات التدخل، وحتى جون كيري نفسه دعا للتدخل.

قال كيري في خطابه “كما اجتمعت العواصف الماضية في التاريخ؛ عندما تحصل جرائم واضحة ضمن قدرتنا على تغييرها، فإننا تلقينا تحذيرات من إغراءات النظر لجهة أخرى”، مضيفا أن “التاريخ مليء بالزعماء الذين حذروا من عدم التصرف، واللامبالاة، وخصوصا من الصمت عندما يكون الأخطر”.

لقد اعتبر كيري الرئيس أوباما واحدا من هؤلاء الرؤساء، وبعد عام من ذلك الخطاب، عندما شكت الإدارة بأن نظام الأسد كان مستمرا باستخدام الأسلحة الكيماوية، أعلن أوباما: “نحن كنا واضحين مع نظام الأسد أن رؤيتنا لنقل أو استخدام الأسلحة الكيماوية خط أحمر بالنسبة لنا، قد يغير حساباتي، وقد يغير معادلتي”.

وبالرغم من هذا التهديد، فإن أوباما بدا لعديد من النقاد غير مبال بمعاناة السوريين الأبرياء، ففي وقت متأخر من صيف ٢٠١١، دعا أوباما لرحيل الأسد: “لأجل الشعب السوري، حان وقت تنحي الأسد”، دون أن يفعل شيئا ليقرب نهاية الأسد.

أوباما قاوم المطالب بالتحرك لأنه افترض، بناء على تحليلات المخابرات الأميركية، أن الأسد سيسقط دون مساعدته، فقد أخبرني، “دينيس روس”، مستشار الشرق الأوسط السابق لأوباما، أن أوباما “اعتقد أن الأسد سيرحل مثلما ذهب مبارك”، وذلك في إشارة إلى التنحي السريع للرئيس المصري حسني مبارك بداية ٢٠١١، في اللحظة التي مثلت ذروة الربيع العربي.

إلا أن تمسك الأسد بالسلطة لم يزد أوباما إلا رفضا للتدخل المباشر، وبعد عدة شهور من التشاور، أعطى أوباما المخابرات الأميركية الصلاحيات لتدريب وتمويل الثوار السوريين، لكنه تشارك مع توقعات وزير دفاع حكومته السابق “روبرت جيتس”، الذي كان يسأل بشكل دوري بالاجتماعات: “أليس علينا أن ننهي الحربين اللتان نخوضهما قبل أن نبحث عن أخرى؟”.

 سامنتا بارو: مشكلة من الجحيم:

تعتبر سفيرة الولايات المتحدة الحالية في الأمم المتحدة، “سامنتا باور”، ر الأكثر ميلا للتدخل من بين مستشاري أوباما الكبار، فقد طالبت مبكرا بتسليح الثوار السوريين، وكتبت أثناء عملها ضمن “فريق استشارات الأمن القومي” كتابا يهاجم الرؤساء الأميركيين لفشلهم بالتدخل لمنع المذبحة، بعنوان “مشكلة من الجحيم”، وصدر عام 2012، ووصل الرئيس أوباما عندما كان في مجلس الشيوخ الأميركي، رغم عدم التوافق الأيديولوجي الكبير بينه وبين باور، وهي معروفة بأنها مؤمنة بالعقيدة المعروفة بـ “مسؤولية الحماية”، التي تعتبر أن السيادة لا يجب أن تعد منتهكة عندما يذبح بلد ما شعبه، وضغطت على أوباما ليؤيد هذه العقيدة في الخطاب الذي ألقاه عندما استلم جائزة نوبل للسلام في ٢٠٠٩، لكنه أنكر ذلك.

أوباما، بشكل عام، لا يعتقد أن الرئيس يجب أن يعرض الجنود الأميركيين للخطر كي يمنع الكوارث الإنسانية، ما لم تكن هذه الكوارث تشكل خطرا مباشرا على الولايات المتحدة.

باور، وفي بعض الأحيان، جادلت أوباما أمام مسؤولي “مجلس الأمن القومي” إلى مرحلة لم يعد يستطيع إخفاء غضبه منها، قائلا في إحدى المرات: “سامنتا، يكفي. لقد قرأت كتابك”.

أوباما، بعكس التدخلين الليبراليين، يمثل أحد المؤمنين بواقعية السياسة الخارجية للرئيس جورج بوش الأب، وتحديدا مستشاره للأمن القومي برينت سكوكروفت (أوباما قال لي مرة: “أنا أحب هذا الرجل”). فكلاً من بوش وسكوكروفت أخرجا جيش صدام حسين من الكويت عام ١٩٩١، واستطاعا تفكيك الاتحاد السوفييتي، كما هاجم سكوكروفت، نيابة عن بوش، زعماء الصين بعد مجزرة ميدان تيانانمين. وبينما كان أوباما يكتب بيان حملته الانتخابية “جرأة الأمل” عام ٢٠٠٦، شعرت سوزان رايس، المستشارة غير الرسمية حينها، أنه من الضروري تذكيره بتضمين سطر واحد على الأقل احتفاء بالسياسة الخارجية للرئيس بيل كلينتون، لموازنة الاحتفاء الذي أظهره لبوش وسكوكروفت.

عند اندلاع الانتفاضة السورية، بداية ٢٠١١، جادلت باور أن الثوار، الذين خرجوا من صفوف الشعب السوري، يستحقون الدعم الأميركي الواضح، بينما أشار آخرون إلى أن الثوار كانوا مزارعين وأطباء ونجارين، مقارنين هؤلاء الثوار بالرجال الذين انتصروا بحرب استقلال أميركا.

أوباما قلب الفكرة برأسه، وقال لي مرة: “عندما يكون لك جيش محترف، مسلح جيدا ومدعوم من دولتين كبيرتين -إيران وروسيا -ولديهما رهانات كبيرة على ذلك، ويقاتلون ضد مزارع ونجار ومهندس بدؤوا كمتظاهرين، ثم رأوا أنفسهم في معمعة صراع أهلي. فإن المفهوم الذي سنحصل عليه -بطريقة نظيفة لا تلزم القوات المسلحة الأميركية -غيرت المعادلة على الأرض، لم تكن صحيحة إطلاقا”. الرسالة التي أوصلها أوباما في خطاباته ومقابلاته كانت واضحة: لن ينتهي مثل الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، الذي توسع بشكل مأساوي ومبالغ به في الشرق الأوسط، وملأت قراراته عنابر مستشفى “والتر ريد” العسكري بالجنود المصابين، وكان عاجزا عن إيقاف طمس سمعته، حتى عندما أعاد موازنة قراراته في فترة حكمه الثاني. أوباما سيقول بشكل خاص أن المهمة الأولى لأي رئيس أميركي في المجال الدولي بعد فترة بوش: “لا تكن أحمقا”.

 سوريا وتحفظات هيلاري كلينتون:

لقد أغضب تحفظ أوباما كل من سامنتا باور والآخرين في فريق الأمن القومي الخاص به، والذي كان يرجو التدخل. فمثلا هيلاري كلينتون، عندما كانت وزيرة خارجية أوباما، طالبت برد مبكر وحازم لعنف الأسد. في ٢٠١٤، وبعد أن تركت الحكومة، أخبرتني كلينتون أن “الفشل ببناء قوة مقاتلة موثوقة من الشعب الذين كانوا من أطلق المظاهرات ضد الأسد، ترك فراغا كبيرا ملأه المتطرفون الآن”.

وعندما نشرت “أتلانتيك” هذا التصريح، وتقييم كلينتون بأن “الأمم العظمة تحتاج مبادئ ناظمة، ليس من بينها لا تقم بأشياء غبية”، غضب أوباما بشكل جنوني، بحسب أحد مستشاريه الكبار. ولم يفهم الرئيس كيف يمكن أن تكون قاعدة “لا تكن أحمقا” شعارا جدليا.

هنا يتذكر “بين رودز” أن “الأسئلة التي كنا نسألها في البيت الأبيض كانت: من يقف تحديدا في خانة الحمقى؟ من الداعم للحمقى؟”. احتلال العراق، بحسب ما يعتقد أوباما، كان يجب أن يعلم دعاة التدخل من الديمقراطيين مثل كلينتون، الذين صوتوا بإجازة العملية، مخاطر الحمق. (كلينتون اعتذرت سريعا لأوباما عن تعليقاتها، وأعلن الناطق الرسمي باسم كلينتون أن كليهما تجاوزا الموضوع على شارع مارثا عندما تقاطعا هناك).

أوباما بين سوريا والعراق:

لقد مثلت سوريا، بالنسبة لأوباما، منحدرا خطيرا مثل منحدر العراق. في فترته الأولى، ووصل لقناعة أن عددا محدودا من التهديدات في الشرق الأوسط تتطلب تدخلا عسكريا أميركيا مباشرا، بما في ذلك تنظيم القاعدة، وتهديدات وجود إسرائيل (أخبرني مرة أنه سيكون سقوطا أخلاقيا بالنسبة لي كرئيس للولايات المتحدة أن لا أحمي إسرائيل)، وغير بعيد عن أمن إسرائيل: “تهديد إيران المسلحة نوويا”، أما خطر نظام الأسد على الولايات المتحدة لم يرق إلى هذه الدرجة.

بالنظر لرفض أوباما للتدخل، فإن الخط الأحمر الواضح الذي رسمه للأسد في صيف ٢٠١٢ كان صادما، حتى لمستشاريه، إذ قال لي وزير دفاعه، حينها، “ليون بنيتا”: “لم أكن أعلم أن هذا سيحصل”، كما تم إبلاغي أن نائب أوباما “جو بايدن” حذره مرارا من رسم خط أحمر على الأسلحة الكيماوية، خشية أن يأتي يوم يضطر به فرضه بالقوة.

كيري، في خطابه، في ٣٠ أغسطس ٢٠١٣، اقترح أن الأسد يجب أن يعاقب جزئيا لأن “مصداقية ومستقبل مصالح الولايات المتحدة وحلفائها كانت على المحك”، مضيفا أن “هذا مرتبط مباشرة بمصداقيتنا وتصديق الدول الأخرى للولايات المتحدة عندما تقول شيئا. هم يشاهدون ما إذا كانت سوريا ستنسحب من هذا، لأنهم ربما يستطيعون كذلك وضع العالم بخطر أكبر”.

بعد تسعين دقيقة من الخطاب، في البيت الأبيض، عزز أوباما رسالة كيري في بيان عام: “من المهم الاعتراف بأنه عندما يقتل ١٠٠٠ شخص، من بينهم مئات الأطفال البريئين، عبر استخدام السلاح الذي يقول ٩٨ أو ٩٩% من العالم أنه لا يجب استخدامه في الحرب، ولا يكون هناك رد، فنحن نرسل رسالة بأن السلام العالمي لا يعني شيئا، وهذا يمثل خطرا لأمننا القومي”.

بدا أن أوباما وصل لخلاصة مفادها أن تشويه مصداقية أميركا في منطقة ما من العالم سينحدر لغيرها، وأن مصداقية الولايات المتحدة المتماسكة كانت فعلا على المحك في سوريا. أما الأسد، فيبدو أنه نجح بدفع الرئيس إلى مساحة لم يعتقد أنه سيذهب لها. أوباما يعتقد بشكل عام أن مؤسسة السياسة الخارجية في واشنطن، التي يزدريها بشكل سري، تعبد “المصداقية”، وتحديدا المصداقية التي ترافقها القوة، وهذا ما أدى لفيتنام عبر حماية المصداقية، بحسب قوله. داخل البيت الأبيض، أوباما يناقش أن “إسقاط القنابل على شخص ما لأنك تريد إثبات أنك تريد إسقاط القنابل على شخص ما، هو أسوأ سبب لاستخدام القوة”.

مصداقية الأمن القومي الأميركية، كما تفهم في البنتاغون، ووزارة الخارجية، ومراكز الأبحاث الواقعة على مرمى حجر من البيت الأبيض، سلاح معنوي قوي، عندما يستخدم بشكل صحيح، يحافظ على شعور أصدقاء أميركا بالأمن، ويبقي النظام العالمي متماسكا.

في اجتماعات الأبيض في ذلك الأسبوع المفصلي، بايدن، الذي يشارك أوباما بشكل كبير بقلقة من التوسع الأميركي، ناقش بشدة أن “الدول الكبرى لا تخادع”. وأن أقرب حلفاء أميركا في أوروبا وعبر الشرق الأوسط اعتقدوا أن أوباما كان يهدد بالعمل العسكري، وحتى مستشاروه اعتقدوا ذلك. في مؤتمر مشترك مع أوباما في البيت الأبيض، في أيار/ مايو، الذي سبق ذلك الاجتماع، قال رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون إن “تاريخ سوريا يكتب بدماء شعبها، وهذا يحصل على مرأى منا”، في تصريح كان يهدف لتشجيع أوباما لأخذ إجراء أكثر حزما، بحسب أحد مستشاري كاميرون، الذي قال لي إن “رئيس الوزراء كان يشعر أن الرئيس أوباما يجب أن يفرض الخط الأحمر”.

سفير السعودية في واشنطن، في ذلك الحين، عادل الجبير، قال لأصدقائه ومسؤوليه في الرياض أن الرئيس كان مستعدا أخيرا ليضرب، قائلا إن “أوباما شعر بأهمية ذلك”، كما أكد الجبير، الذي أصبح الآن وزير خارجية السعودية، أن “أوباما سيضرب بلا شك”.

وبالفعل، أمر أوباما البنتاجون بإعداد قائمة أهداف، وكانت خمسة مدمرات أميركا من نوع “أرلي بورك” في البحر المتوسط مستعدة لإطلاق صواريخ عابرة للقارات على مواقع النظام السوري، كما كان الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، أكثر المتحمسين للتدخل من بين زعماء أوروبا، يستعد للضرب كذلك. وطوال الأسبوع، أظهر مسؤولو البيت الأبيض بشكل علني أن الأسد ارتكب جريمة ضد الإنسانية، ليمثل خطاب كيري ذروة هذه الحملة.

لكن الرئيس بدأ يشعر بالتوجس، فبعد الأيام التي تبعت قصف الغوطة بالكيماوي، سيقول لي أوباما لاحقا، إنه وجد نفسه يتراجع عن فكرة هجوم غير مدعوم بقرار دولي أو من الكونجرس. الشعب الأميركي بدا غير متعاطف مع التدخل في سوريا، وكذلك واحد من الزعماء القلة الذين يحترمهم أوباما، المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي أخبرته أن بلده لن تشارك في حملة سوريا. وبتطور مذهل، يوم الخميس، ٢٩ أغسطس 2013، نفى البرلمان البريطاني مباركته لأي هجوم، وأخبرني كيري عندما سمع ذلك: “بيني وبين نفسي، لقد أخطأنا”.

ارتبك أوباما كذلك من زيارة مفاجئة في وقت مبكر ذلك الأسبوع، قام بها “جيمس كلابر”، مدير المخابرات الوطنية، الذي قاطع الملخص اليومي للرئيس، حيث ينظر “تقرير التهديدات اليومي” الذي يستقبله أوباما كل صباح من محللي كلابر، ليوضح تماما أن المعلومات الاستخبارية حول استخدام سوريا لغاز السارين، مع كونها متماسكة، إلا أنها لم تكن “مؤكدة بشكل جازم”. لكن كلابر، رئيس مجتمع المخابرات المسكون بالفشل الذي سبق حرب العراق، لم يكن سيعطي وعودا، على شاكلة رئيس جهاز الاستخبارات المركزي جورج تينيت، الذي ضمن لجورج بوش “وضعاً مؤكداً” في العراق.

وبينما كان البنتاجون وأجهزة الأمن القومية في البيت الأبيض تتحرك نحو الحرب (جون كيري أخبرني أنه كان يتوقع ضربة في اليوم الذي سبق الخطاب)، وصل الرئيس لقناعة أنه كان يسير نحو فخ، أعده له حلفاؤه وخصومه، وبالتوقعات التقليدية تسآل: “لما يجب على أي رئيس أميركي القيام به؟”

إن العديد من مستشاري الرئيس لم يدركوا عمق شكوكه، وحكومته وحلفائه لم يكونوا على علم بها، لكنها كانت تتنامى. وفي مساء الجمعة 30 أغسطس 2013، أعلن أوباما أنه غير مستعد لتفويض ضربة، وطلب من “مكدونوج”، رئيس عمال البيت الأبيض، أن يسير معه على الجانب الجنوبي للبيت الأبيض.

لم يختر أوباما “مكدونوج” عبثا، فهو أكثر مساعدي أوباما عداء للتدخل العسكري الأميركي، وشخص، بكلمات أحد زملائه، “يفكر بطريقة الأفخاخ”. أوباما، الواثق بنفسه بشكل غير طبيعي عادة، كان يبحث عن تأكيد، ويحاول إيجاد طرق يفسر بها تغير رأيه، سواء لمساعديه أو للرأي العام.

ظل “مكدونوج وأوباما” خارجا لمدة ساعة، وأخبره أوباما أنه كان قلقا من أن يستخدم الأسد المدنيين كـ “دروع بشرية” حول الأهداف الواضحة، كما أشار إلى فجوة كامنة في الضربات المقترحة، منها أن الصواريخ الأميركية لن تطلق على المواقع الكيميائية، خشية أن تبعث غازات سامة في الجو، لكنها ستستهدف المواقع العسكرية التي استلمت هذه الأسلحة، لا الأسلحة نفسها.

أوباما شارك مع “مكدونوج” استياءً قديما لديه، مفاده أنه تعب من مشاهدة واشنطن تنجرف بشكل غير محسوب نحو البلدان المسلمة، فقبل أربع سنوات، اعتقد الرئيس أوباما أن البنتاجون قد “جره” نحو تعزيز الوجود العسكري في أفغانستان، وهو يشعر أنه يجر مجددا.

التراجع عن الضربة:

عندما عاد الرجلان للمكتب البيضاوي، أخبر الرئيس مساعديه أنه يخطط للتراجع، ولن يكون هناك هجوم في اليوم التالي، لأنه يريد الرجوع للكونجرس لإجراء تصويت. المساعدون في الغرفة كانوا مصدومين. سوزان رايس، مستشارة أوباما لشؤون الأمن القومي الآن، قالت إن الدمار الذي سيصيب مصداقية أميركا سيكون كبيرا وطويلا، فيما فهم الآخرون بصعوبة شديدة كيف يمكن أن يراجع الرئيس نفسه في اليوم الذي يسبق ضربة مخططة. أوباما كان هادئا تماما، إذ أخبرني رودز “إذا كنت قريبا منه، يمكن أن تعرف كيف يكون مترددا حول شيء ما، عندما تتقارب نسب الدعم له، لكنه كان مرتاحا تماما”.

قبل مدة ليست بالطويلة، طلبت من أوباما أن يصف شعوره في ذلك اليوم، فسرد لي المخاوف العملية التي انتابته:

العامل الأول: “كان هناك محققون من الأمم المتحدة على الأرض يكملون عملهم، ولم نستطع المخاطرة بإجراء ضربة وهم هناك”.

العامل الثاني، هو فشل كاميرون بالحصول على موافقة برلمانه”.

العامل الثالث، والأكثر أهمية، بحسب ما أخبرني هو أن “تقييمنا كان أننا بينما نستطيع تحقيق بعض الدمار للأسد، فإننا لن نتمكن عبر هجوم صاروخي، من إنهاء الأسلحة الكيميائية نفسها، وما سأواجهه حينها هو ظهور هروب الأسد من الضربة، وادعاؤه أنه هزم أميركا، وأن الولايات المتحدة تحركت بشكل غير قانوني بغياب تفويض أممي، وهذا سيقويه بدل أن يضعفه”.

العامل الرابع، كان له أهمية فلسفية أعمق: حيث قال أوباما: “هذا يأتي في سياق شيء كان يؤرقني من فترة، وهو أنني استلمت السلطة باعتقاد قوي أن مدى القوة التنفيذية في قضايا الأمن القومي كبير جدا، لكنه ليس بلا حد”.

أوباما كان يعلم أن قراره بعدم قصف سوريا سيغضب حلفاء أميركا، وقد فعل، إذ أخبرني رئيس وزراء فرنسا “مانويل فالس” أن حكومته كانت قلقة من تبعات عدم التدخل المبكر في سوريا عندما ظهرت كلمة “التنحي”، فقد أخبرني فالس: “عندما لم نتدخل مبكرا، خلقنا وحشا”، مضيفا: “كنا متأكدين أن إدارة الولايات المتحدة ستوافق، وقد وضعنا قائمة بالأهداف مع الأميركيين، وكانت هذه مفاجأة كبيرة. إذا قصفنا كما كان مخططا، فإن الأمور ستكون مختلفة اليوم”.

ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد آل نهيان، كان غاضباً من أوباما لتخليه عن حسني مبارك، الرئيس المصري المخلوع، وأظهر لزواره الأميركيين أن أميركا يقودها رئيس “غير جدير بالثقة”.

العاهل الأردني عبد الله الثاني، الذي يشعر بالفزع مما رآه من رغبة أوباما غير المنطقية بإبعاد أميركا عن حلفائها التقليديين السنة العرب في المنطقة، وإنشاء تحالف جديد مع إيران، داعمة الأسد الشيعية، اعترض بشكل خاص، قائلا: “أظن أنني أؤمن بالقوة الأميركية أكثر من أوباما نفسه”.

السعوديون كانوا غاضبين كذلك، فهم لم يثقوا يوما بأوباما، فهو وصفهم قبل أن يصبح رئيسا بكثير بأنهم “المدعوون بحلفاء الولايات المتحدة”، إذ أبلغ الجبير زعماؤه في الرياض بأن “إيران هي القوة العظمى الجديدة في الشرق الأوسط، والولايات المتحدة هي القديمة”.

قرار أوباما أحدث هزات في واشنطن كذلك. جون ماكين، وليندسي جراهام، أكبر الصقور في مجلس الشيوخ، التقيا أوباما في البيت الأبيض بوقت مبكر ذلك الأسبوع وتلقيا وعدا بالهجوم، وأغضبهما هذا التحول المفاجئ. ووصل الضرر حتى داخل الإدارة نفسها، فكل من وزير الدفاع حينها “تشاك هيجل”، ووزير الخارجية “جون كيري”، كانا في المكتب البيضاوي عندما أبلغ الرئيس فريقه بما يفكر، ولم يعرف كيري حتى وقت متأخر ذلك المساء، ليقول لصديق له: “لقد تلقيت صفعة”. (عندما سألت كيري مؤخرا عن تلك الليلة العصيبة، قال لي: “لم أكف عن التفكير، ووصلت إلى أن الرئيس كان لديه سبب للقيام بذلك، وصدقا، تفهمت ذلك”).

الأيام القليلة التالية كانت فوضوية، فقد طلب الرئيس من الكونجرس تفويضا باستخدام القوة، وعمل كيري الذي لا يمكنه حشد الأصوات على ذلك، وأصبح واضحا في البيت الأبيض سريعا أن الكونجرس له مصلحة قليلة في توجيه الضربة.

عندما تحدثت مع بايدن مؤخرا عن قرار الخط الأحمر، أشار لملاحظة خاصة: “يهم أن تملك الكونجرس إلى جانبك، بخصوص قدرتك على تحقيق ما تريد، وأوباما لم يذهب للكونجرس ليخرج نفسه من المسؤولية، فقد كان لديه شكوكه في تلك المرحلة، لكنه علم أنه إن أراد فعل أي شيء، فإن الأفضل أن يكون الشعب إلى جانبه، أو أن هذا لن يكون قرارا طويل الأمد”.

تناقض الكونجرس الواضح أقنع بايدن أن أوباما كان صادقا بخشيته من المنزلق، متسائلا: “ما الذي يحصل إذا أسقطت طائرة؟ ألن ندخل ونقوم بعمليات إنقاذ؟”، مؤكدا أن “أوباما كان بحاجة لدعم الشعب الأميركي”.

كتاب إرشادات واشنطن:

وسط هذه المعمعة، أتى منقذ لم يكن بالحسبان، كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. في قمة العشرين، التي عقدت في سان بطرسبرج، في الأسبوع التالي بعد التراجع عن القرار بشأن سوريا، سحب أوباما بوتين جانبا، بحسب ما قال لي، وقال له إنه “إذا استطاع إجبار الأسد على التخلص من السلاح الكيميائي، فإن هذا سيلغي الحاجة للقيام بعمل عسكري”. خلال أسابيع، كيري، بالعمل مع نظيره الروسي سيرجي لافروف، قاما بهندسة إزالة معظم ترسانة السلاح الكيميائي السوري، الذي لم يكن الأسد يقبل الاعتراف به قبل ذلك.

هذا الترتيب حصل على احتفاء خاص من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي كانت لديه علاقة طويلة مستمرة من التوتر مع أوباما، إذ مثلت إزالة السلاح الكيميائي للنظام السوري “شعاع ضوء في منطقة مظلمة جدا”، بحسب ما أخبرني نتنياهو، بعد إعلان الاتفاق بقليل.

لم يعد جون كيري اليوم يظهر تسامحا مع أولئك الذين يناقشون، كما فعل هو شخصيا، أن أوباما كان يجب أن يقصف نظام الأسد لتعزيز قدرات أميركا المتماسكة، قائلا: “ستكون قد أبقيت الأسلحة هناك، وستكون تقاتل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، وهذا غير منطقي، لكنني لا أستطيع إنكار أن فكرة تجاوز الخط الأحمر وعدم فعل أوباما لأي شيء مخطئة بالكامل”.

أوباما يفهم أن القرار الذي اتخذه بالتراجع عن الضربات الجوية، والسماح بانتهاك الخط الأحمر سيعامل بلا رحمة من المؤرخين، لكن هذه القرار يمثل لحظة رضا كبيرة بالنسبة له. فقد أخبرني أوباما: “أنا فخور جدا بهذه اللحظة، فالثقل الكبير للحكمة التقليدية وآلية جهاز أمننا القومي شطحت قليلا، خاصة مع إدراك أن مصداقيتي ومصداقية الولايات المتحدة كانت على المحك”. وأضاف: “بالنسبة لي، فقد علمت أن ضغط زر التوقف المؤقت في تلك اللحظة سيكلفني سياسيا. وحقيقة أنا كنت قادرا على الانسحاب من الضغوط المباشرة والتفكير بعقلي أنا بما هو بمصلحة أميركا، ليس فقط بمنظور سوريا، بل منظور ديمقراطيتنا، كان قرارا صعبا اتخذته، وأعتقد في النهاية أنه كان قرارا صحيحا”. كانت هذه اللحظة التي يعتقد الرئيس أنه كسر بها أخيرا بحزم ما يسميه “كتاب إرشادات واشنطن”.

قال أوباما: “أين كنت مثيرا للجدل؟ عندما يتعلق الأمر باستخدام القوة، وهذا هو مصدر إثارة الجدل. هناك كتاب إرشادات في واشنطن يجب على الرؤساء اتباعه، ويأتي من مؤسسة السياسة الخارجية، ويحدد كيفية الاستجابة للأحداث المختلفة، وعادة ما تكون عسكرية. عندما تهدد أميركا بشكل مباشر، يُفَّعل هذا الكتاب، لكنه قد يكون فخا يقود لقرارات خاطئة. وسط تحد دولي مثل سوريا، سيحكم عليه بشدة إذا لم تتبع كتاب الإرشادات، وحتى لو كان هناك أسباب جيدة لعدم تطبيقه”.

وصلت إلى قناعة، بأن يوم الـ ٣٠ من أغسطس ٢٠١٣، برأي أوباما، كان يوم تحرره، الذي لم يواجه به مؤسسة السياسة الخارجية وكتاب إرشاداتها ذي الصواريخ البالستية وحسب، بل حلفائها الغاضبين ذوي المطالب العالية في الشرق الأوسط، أي البلدان، التي يشتكي منها بشكل خاص للأصدقاء والمستشارين، التي تسعى لاستغلال “العضلات” الأميركية لأهدافها الضيقة والطائفية.

في أميركا .. أرض محتلة عربيا:

في ٢٠١٣، استاء أوباما كثيرا، خصوصا من القادة العسكريين الذين اعتقدوا أنهم يمكن أن يصلحوا أي مشكلة إذا أعطاهم القائد المسؤول ما يريدون، واستاء من مُجمع مراكز أبحاث السياسة الخارجية، وسط اعتقاد كبير داخل البيت الأبيض أن كثيرا من هذه المراكز البارزة في واشنطن تعمل لصالح مموليها العرب والداعمين لإسرائيل. سمعت مرة مسؤولا في الإدارة يشير لشارع ماساشوستس، الذي يضم العديد من هذه المراكز بأنه “أرض محتلة عربيا”.

في نظر الكثيرين من خبراء السياسة الخارجية، حتى داخل إدارة أوباما نافسها، فإن تراجع أوباما عن فرض الخط الأحمر كان لحظة محبطة أظهر بها ترددا وسذاجة، وأحدث ضررا كبيرا لسمعة أميركا في العالم، إذ قال لي “ليون بنيتا”، الذي عمل كمدير لجهاز الاستخبارات المركزية أميركيا ووزيرا للدفاع في إدارة أوباما الأولى، إنه “عندما يعطي الزعيم المسؤول خطا أحمر، فإنني أعتقد أن مصداقيته ومصداقية بلده تأتي على المحك إذا لم يحمه”، كما قالت هيلاري كلينتون بعد تراجع أوباما مباشرة: “إذا كنت تقول إنك ستضرب، فإن عليك أن تضرب. ليس هناك خيار”.

في تلك الفترة، “كتب شادي حميد”، الباحث في معهد بروكنجز، مقالا لـ “أتلانتيك”، قال فيه إن “الأسد حصل على جائزة كبيرة لاستخدامه السلاح الكيميائي، بدلاً من أن يعاقب كما كان مخططا، فقد استطاع إزالة التهديد الأميركي مقابل شيء قليل جدا”.

حتى المعلقين الذين كانوا متعاطفين مع سياسات أوباما رأوا أن تلك المرحلة فاجعة. فهذا “جايدن روز”، محرر مجلة “فورين أفيرز”، كتب مؤخرا أن معالجة أوباما لهذه الأزمة “أولا بإعلان التزام كبير علنا، ثم التردد بإمكانية القيام به، ثم إلقاء الكرة لملعب الكونجرس لحلها، يمثل دراسة حالة في كيفية الارتجال الهاوي والمسبب للإحراج”

المدافعون عن أوباما يقولون إنه لم يسبب ضررا لمصداقية الأمم المتحدة، مستشهدين بموافقة الأسد التالية على إزالة السلاح الكيماوي، إذ قال لي “تيم كاين”، السيناتور الديمقراطي عن فرجينيا، إن “تهديد القوة كان كافيا بالنسبة للأسد لتسليم سلاحه الكيماوي، فنحن هددنا بالعمل العسكري، وهم استجابوا، وهذه مصداقية كافية”.

نعم، قد يكتب التاريخ عن ٣٠ أغسطس ٢٠١٣، أنه اليوم الذي حمى الولايات المتحدة من دخول حرب أهلية كارثية في بلد مسلم، والبلد الذي أزال تهديد السلاح الكيماوي عن إسرائيل وتركيا والأردن، أو أنه سيذكر بأنه اليوم الذي ترك الشرق الأوسط ينزلق من قبضة أميركا نحو أيدي روسيا وإيران وتنظيم الدولة.

أوباما 2006:

كان أول حديثي مع أوباما حول السياسة الخارجية عندما كان عضوا بمجلس الشيوخ الأميركي عام 2006. اقتصر علمي حينها إلى حد بعيد على نص خطاب ألقاه قبل ذلك بأربع سنوات (2002) في اجتماع حاشد لمعارضي الحرب في شيكاغو، وكان مثيرا للعجب أن يلقى الخطاب أمام حشد معارض للحرب حيث لم يكن بالضبط ضد الحرب؛ بل كان أوباما – الذي كان حينها ما يزال عضوا بمجلس الشيوخ بولاية إلينوي – يعبر عن معارضته لحرب معينة، وحتى ذلك الحين، نظرية. “أنا لست مخدوعا بشأن صدام حسين. إنه رجل وحشي. رجل عديم الرحمة… لكني أيضا أعلم أن صدام لا يشكل خطرا وشيكا ومباشرا للولايات المتحدة أو لجيرانه”. وأضاف، “أنا أعلم أن اجتياح العراق دون أساس منطقي واضح ودون تأييد دولي قوي لن يؤدي إلا إلى زيادة نيران الشرق الأوسط اشتعالا، وإثارة نزعات العالم العربي الأسوأ، بدل الأفضل، وتقوية آلة التجنيد الخاصة بالقاعدة.”

أثار هذا الخطاب فضولي حول صاحبه، أردت أن أعرف كيف لسيناتور بمجلس شيوخ إلينوي، وأستاذ قانون غير متفرغ يمضي أيامه مسافرا بين شيكاغو وسبرِنغفيلد، أن يكون أشد فطنة بالمأزق المقبل من أكثر مفكري السياسة الخارجية في حزبه خبرةً، بما فيهم رموز مثل هيلاري كلينتون وجو بايدن وجون كيري؛ ناهيك بالطبع عن أغلب الجمهوريين والكثير من المحللين والكتاب في السياسة الخارجية، وأعد فيهم نفسي.

منذ ذلك اللقاء الأول في 2006، جمعتني بأوباما مقابلات شخصية دورية، دارت بالأساس حول قضايا ذات صلة بالشرق الأوسط. ولكن خلال الأشهر القليلة الماضية، أمضيت عدة ساعات أحدثه عن الخطوط الأعرض للعبته “بعيدة المدى” في السياسة الخارجية، بما فيها القضايا التي يتحمس أكثر لمناقشتها – تحديدا تلك التي لا تمت بصلة إلى الشرق الأوسط.

العالم من خلال عيون أوباما:

“داعش ليست تهديدا وجوديا للولايات المتحدة،” هكذا أخبرني في إحدى هذه الحوارات. “التغير المناخي تهديد وجودي محتمل للعالم بأسره إن لم نفعل شيئا حياله.” شرح لي أوباما أن التغير المناخي يقلقه بشكل خاص لأنه “مشكلة سياسية مصممة مثاليا لتنفير التدخل الحكومي. إنه يشمل كل الدول دون استثناء، وهو بالمقارنة بغيره حالة طوارئ بطيئة الحركة، لذلك هناك دوما ما يبدو أكثر استعجالا منه على جدول الأعمال.”

في اللحظة الراهنة بالطبع، الأكثر استعجالا بين القضايا التي “تبدو أكثر استعجالا” هي سوريا. ولكن في أية لحظة، يمكن أن تنقلب رئاسة أوباما بأكملها على إثر عدوان كوري شمالي، أو اعتداء روسي على عضو بالناتو، أو اعتداء منظم لداعش على الأراضي الأميركية. قليلون هم الرؤساء الذين واجهوا هذا التنوع الذي واجهه أوباما في الاختبارات على الساحة الدولية؛ والتحدي بالنسبة له، كما هو بالنسبة لكل الرؤساء، كان التفرقة بين محض المستعجَل، والمهم بحق؛ والتركيز على المهم.

كان هدفي في محادثاتنا الأخيرة أن أرى العالم من خلال عيني أوباما، وأن أفهم رؤيته للدور الذي على الولايات المتحدة أن تلعبه في العالم. تبني هذه المقالة على سلسلة محادثاتنا الأخيرة والتي عقدت في الغرفة البيضاوية؛ أو على الغداء في غرفة طعامه؛ أو على متن طائرته الرئاسية “إير فورس وَن”؛ وفي كوالالمبور أثناء زيارته الأخيرة لآسيا في نوفمبر 2015، وتبني كذلك على مقابلاتي السابقة معه وعلى خطاباته وتأملاته العلنية الكثيرة، وأيضا على حواراتي مع أقرب مستشاريه للسياسة الخارجية والأمن القومي، ومع القادة الأجانب وسفرائهم في واشنطن، ومع أصدقاء الرئيس وغيرهم ممن تحدثوا معه عن سياساته وقراراته، ومع خصومه ومنتقديه.

خلال محادثاتنا، ارتسمت في ذهني صورة أوباما كرئيس يميل أكثر فأكثر نحو رؤية قدرية لقدرة الولايات المتحدة على إدارة المجريات العالمية؛ حتى بعد أن جمع – نحو نهاية فترته – عددا من الإنجازات ربما تكون تاريخية في مجال السياسة الخارجية – ولو كانت بالطبع إنجازات مثيرة للجدل ومؤقتة، لكنها تظل إنجازات: الانفتاح على كوبا، اتفاق باريس للحد من التغير المناخي، اتفاقية الشراكة الأطلسية للتجارة، وبالطبع، الاتفاق النووي مع إيران. كل هذه الإنجازات حققها رغم شعوره المتزايد بأن قوى كبرى – كتيار القبلية الرجعي في عالم ينبغي أن يكون قد تخلى عن مبدأ الارتداد لسلوكيات أسلافه؛ وبقاء رجال صغار يقودون دولاً كبيرة بما يخالف مصالحها؛ وبقاء الخوف كشعور إنساني حاكم يتآمر باستمرار على نوايا أميركا الحسنة. لكنه أخبرني أنه أيضا تعلم أنه في غياب القيادة الأميركية في الشؤون الدولية، لا يتحقق سوى القليل.

شرح لي أوباما هذا التناقض الجلي، “أريد رئيسا قادر على فهم أنك لا تستطيع إصلاح كل شيء،” ولكن من ناحية أخرى، “إن لم نضع نحن جدول الأعمال، فإنه لا ينفذ.” وشرح لي ما يقصد، “الواقع، أنه ليس ثمة قمة واحدة حضرتها منذ أصبحت رئيسا لم نكن نحن الذين نضع الأجندة والمسؤولون عن أهم النتائج. هذا صحيح سواء كنا نتحدث عن الأمن النووي، أو عن إنقاذ النظام المالي العالمي، أو عن المناخ.”

بين التداخلية والانعزالية:

ذات يوم على الغداء في غرفة الطعام بالغرفة البيضاوية، سألت الرئيس كيف يظن المؤرخين سيفهمون سياسته الخارجية؟ شرح لي جدولا من أربعة خانات تمثل مدارس الفكر الرئيسية في السياسة الخارجية الأميركية. إحدى الخانات أسماها الانعزالية، التي استبعدها من فوره قائلا، “العالم في حالة انكماش مستمرة. الانسحاب غير ممكن وغير منطقي.” بقية الخانات عنونها الواقعية، التداخلية الليبرالية، والدولية. “أظن أن بإمكانك أن تسميني واقعيا لإيماني بأننا لا نستطيع، في أي لحظة معينة، تخليص العالم من كل معاناته. علينا أن نختار المجال الذي نستطيع أن نترك فيه أثرا حقيقيا.” نبه أيضا إلى أنه وبكل وضوح مؤمن بالدولية، لحرصه على تقوية المنظمات متعددة الأطراف والأعراف الدولية.

أخبرته بالانطباع الذي تكون لدي بأن صدمات السنوات السبع الماضية إن كانت قد أثرت عليه فإنها قد عززت التزامه بضبط النفس الذي بعثته عليه واقعيته. هل قادته فترتان رئاسيتان كاملتان في البيت الأبيض إلى أن يضيق ذرعا بالتداخلية؟

أجابني قائلأ، “بكل ما فينا من عيوب، يظل من الواضح أن الولايات المتحدة كانت وما تزال قوة خيرة في العالم. إن قارنتنا بمن سبقنا من القوى العظمى، ترانا نتحرك ليس بدافع المصلحة المجردة بقدر ما نتحرك لتأسيس أعراف مفيدة للجميع. إن كان ممكنا فعل الخير مقابل تكلفة محتملة، لإنقاذ الأرواح، فإننا سنفعل ذلك.”

يقول أوباما بأنه إن لم توافق أزمة أو كارثة إنسانية ما معياره الصارم لما يشكل تهديدا مباشرا للأمن القومي، فإنه لا يعتقد بأنه مجبر على الصمت. ويقول بأنه ليس واقعيا بالدرجة بحيث لا يطلق أحكامه على القادة الآخرين. يجادل بأنه، على الرغم من استبعاده حتى الآن استخدام القوة الأميركية المباشرة للتخلص من الأسد، فإنه لم يكن مخطئا لدعوته الأسد إلى الرحيل.

يقول: “عندما يأتيك منتقدو سياستنا في سوريا، أحد النقاط التي يشيرون إليها هي أنني قد دعوت الأسد للرحيل، لكنك لم تجبره على ذلك. لم تهاجمه”. والتصور هو أنك إن لم تكن ستسقط النظام، فكان يجب ألا تقول شيئا. أجد تلك الدعوى غريبة، هي تصور أننا إن لجأنا لسلطتنا الأخلاقية لنقول “هذا نظام غاشم، وليست هذه طريقة ليعامل بها القائد شعبه” فإننا فور أن نقول ذلك ملزمون باجتياح الدولة وتنصيب حكومة نفضلها.”

في حوار تالٍ أخبرني أوباما، “أنا بالتأكيد مؤمن بالدولية. وأنا كذلك مثالي بقدر ما أؤمن بأن علينا أن نروج للقيم، كالديمقراطية وحقوق الإنسان والأعراف والقيم، ليس فقط لأنه في صالحنا كلما تبنى الناس قيما مشتركة – كما هو في صالحنا، اقتصاديا، أن يتبنى الناس سيادة القانون وحقوق الملكية وغيرها – لكن أيضا لأن ذلك يجعل من العالم مكانا أفضل. وأنا على استعداد لقول ذلك بهذه الطريقة المبتذلة، والتي غالبا لن تسمعها من برنت سكوكروفت.”

الراكبون بالمجان:

أردف أوباما قائلا، “أضيف إلى قولي ذاك بأنني أيضا أؤمن أن العالم مكان شرس ومعقد وفوضوي ولئيم، ومليء بالصعوبات والمآسي. ولكي نحرز تقدما على صعيد مصالحنا الأمنية وأيضا على صعيد القيم والمثاليات التي نهتم بها، علينا بينما نحن طيبون ألا ننخدع بسهولة، وأن نتخير مواقعنا، وأن ندرك أنه ستكون هناك أوقات يكون أفضل ما بوسعنا هو أن نسلط الضوء على شيء بشع، دون أن نعتقد أننا سنتمكن تلقائيا من حله. ستكون هناك أوقات تتعارض فيها مصالحنا الأمنية مع مخاوفنا بشأن حقوق الإنسان. ستكون هناك أوقات سنتمكن فيها من التحرك بشأن الأبرياء الذين يتعرضون للقتل، لكن ستكون هناك أوقات أخرى لن نتمكن فيها من ذلك”.

إن ساور أوباما الشك في الماضي عما إذا كانت الولايات المتحدة حقا هي دولة العالم الوحيدة التي لا غنى عنها، فإنه لم يعد يفعل. لكنه ذلك الرئيس النادر الذي يبدو أحيانا حانقا على تلك اللزومية بدلا من أن يتقبلها. فقد أخبرني مرة بأن “الركاب المجانيون يثيرون غضبي.”

مؤخرا، حذر أوباما أن بريطانيا لن يعود بإمكانها ادعاء “علاقة خاصة” مع الولايات المتحدة إن لم تلتزم بإنفاق 2% على الأقل من إجمالي ناتجها المحلي على الدفاع. “عليك دفع حصتك العادلة،” كان هذا قول أوباما لديفيد كاميرون، الذي التزم بعتبة الـ 2% لاحقا.

شرح لي أوباما أن جزءا من رسالته كرئيس هو أن يحفز الدول الأخرى لأن تتحرك نيابة عن نفسها، بدلا من انتظار الولايات المتحدة لتقود. هو يعتقد أن حماية النظام العالمي الليبرالي ضد “الإرهاب الجهادي”، و”النزعة الروسية للمغامرة”، و”الضغوط الصينية”، تعتمد جزئيا على جاهزية بقية الدول لتشارك العبء مع الولايات المتحدة.

ولهذا أزعجه الجدل الدائر حول الادعاء بأن سياسته مبنية على “القيادة من الخلف”، والذي أدلى به أحد موظفي إدارته، لم يفصح عن اسمه إلى مجلة “ذا نيو يوركر” أثناء الأزمة الليبية عام 2011. قال لي أنه “ليس علينا أن نكون نحن دوما في المقدمة. أحيانا سنحصل على ما نريد تحديدا لأننا نتشارك في الأجندة. المفارقة أننا أخذنا قرارا بالإصرار على قيادة الأوروبيين والدول العربية أثناء الحملة لإزالة معمر القذافي من السلطة في ليبيا تحديدا لنمنعهم من حمل معاطفنا بينما نقوم نحن بالقتال كله. لقد كان ذلك جزءا من الحملة ضد “الراكب المجاني”.

مشاركة القيادة وفلسفة التقشف:

يرى الرئيس كذلك أن مشاركة القيادة مع دول أخرى هي وسيلة للحد من النزعات الأميركية الأكثر جموحا، وحسبما قال، “أحد أسباب اهتمامي الشديد بالتحرك في إطار متعدد الأطراف، حيث مصالحنا المباشرة ليست مهددة، إن تعدد الأطراف يضبط العجرفة.” ويستدعي الرئيس باستمرار ما يراها إخفاقات الولايات المتحدة بالخارج كوسيلة للحد من الاستعلاء الأخلاقي الأميركي. قال لي، “لدينا سوابق. لدينا سوابق في إيران؛ لدينا سوابق في إندونيسيا وأميركا الوسطى. فعلينا أن ننتبه إلى سوابقنا حين نبدأ الحديث عن التدخل، وأن نتفهم مصدر ارتياب الآخرين.”

في محاولاته لتحويل بعض مسؤوليات السياسة الخارجية التي تتحملها أميركا إلى حلفائها، يبدو أوباما نموذجا تقليديا للرئيس المتقشف على غرار دوايت أيزنهاور وريتشارد نيكسون. التقشف في هذا السياق، عرفه لي “ستيفن سستانوفيتش”، الخبير بالسياسة الخارجية الرئاسية بمجلس العلاقات الخارجية، بأنه “الانسحاب، وخفض الإنفاق، وتقليل المخاطر، وتحويل الأعباء إلى الحلفاء. لو كان جون ماكين هو الذي انتخب عام 2008، كنت سترى كذلك قدرا من التقشف. كان ذلك ما أرادته البلاد. إن اعتليت منصب الرئاسة في أثناء حرب لا تسير على ما يرام، فستقتنع بأن الشعب الأميركي قد عينك لتقلل من الفعل [على صعيد السياسة الخارجية].” لكن أحد الفروق بين أيزنهاور ونيكسون من ناحية، وأوباما من ناحية أخرى، حسب “سستانوفيتش”، هو أن أوباما “يبدو أنه كان لديه التزام أيديولوجي شخصي بفكرة أن السياسة الخارجية قد استنزفت الكثير من اهتمام وموارد البلاد.”

سألت أوباما عن التقشف، وكان رده بأن “كل القوى العظمى بالعالم تقريبا قد انقادت وراء” التوسع المفرط. “ما لا يبدو لي من الذكاء هو تصور أنه كلما وقعت مشكلة فإننا نرسل جيشنا لفرض النظام. ببساطة، نحن لا نستطيع فعل ذلك.”

ولكن حين يقرر أن تحديا معينا يمثل تهديدا مباشرا للأمن القومي، فقد أبدى استعدادا للتحرك منفردا. وهذه إحدى المفارقات الأكبر برئاسة أوباما: إنه باستمرار يشكك بفاعلية استخدام القوة، ولكنه أيضا أصبح أكثر متعقبي الإرهابيين نجاحا في تاريخ الرئاسة، وسيترك لخَلفه أدوات يحسده عليها القاتل المحترف. وكما يقول “بِن رودز، “هو يطبق معايير مختلفة على التهديدات المباشرة للولايات المتحدة. فمثلا، رغم ارتيابه حيال سوريا، فهو لم يتردد بشأن الطائرات المسيرة بدون طيار”.

يقول بعض خصومه بأنه كان عليه أن يتردد قليلا حيال ما يرونه إفراطا في استخدام الطائرات المسيرة. لكن “جون برينن”، مدير الاستخبارات في إدارة أوباما، أخبرني مؤخرا بأنه والرئيس “يتشاركان بعض الآراء. أحدها أن عليك أحيانا أن تنهي حياة إنسان لتنقذ حياة عدد أكبر من الناس. لدينا آراء متشابهة فيما يتعلق بنظرية “الحرب العادلة”. حيث يطلب الرئيس تأكيدات شبه قطعية بأنه لن يكون ثمة أضرار جانبية. لكن إن اعتقد أنه من الضروري التحرك، فإنه لا يتردد.”

 بين هوبز والجهاد:

يقول من يتحدثون مع أوباما عن الفكر الجهادي بأن لديه فهما لا تشوبه أوهام بالقوى المحركة للعنف المروع والفوضوي بين المسلمين الراديكاليين، ولكنه يتحفظ في التعبير عن ذلك علنا، خشية أن يذكي الرهاب من الأجانب الذي يصوب نحو المسلمين. لديه فهم واقعي ومأساوي بالخطأ والجبن والفساد، وتفهم “هوبزَوي” للكيفية التي يشكل بها الخوف السلوك الإنساني. ورغم ذلك فإنه على نحو ثابت، وبصدق جلي، يصرح بتفاؤله “بأن العالم يتجه نحو العدالة. إنه، نوعا ما، متفائل هوبزَوي”.

الأعداء والأصدقاء:

لا تنتهي التناقضات عند ذلك الحد. فرغم اشتهاره بالحكمة، إلا أنه دوما على استعداد للنظر في بعض الفرضيات الراسخة التي يقوم عليها الفكر الأميركي في السياسة الخارجية. هو مستعد إلى حد كبير أن يتساءل لماذا تعد الولايات المتحدة أعداءها أعداء وأصدقاءها أصدقاء. انقلب على إجماع بين الحزبين امتد لنصف قرن ليعيد العلاقات مع كوبا. تساءل لماذا على الولايات المتحدة تجنب إرسال قواتها إلى باكستان لقتل قيادات القاعدة، كما يتساءل سرا لماذا يجب أن تعد باكستان، التي يعتقد بأنها دولة مختلة وظيفيا إلى حد كارثي، حليفةً للولايات المتحدة على الإطلاق.

بحسب ليون بانيتا، فقد تساءل عن السبب الذي يلزم الولايات المتحدة بالحفاظ على ما يسمى “التفوق العسكري النوعي لإسرائيل”، الذي يضمن لها الحصول على أنظمة أسلحة أكثر تطورا عما يحصل عليه حلفاء أميركا العرب؛ لكنه كذلك يتساءل، وبقسوة في أحيان كثيرة، عن الدور الذي يلعبه حلفاء أميركا العرب السنة في إذكاء الإرهاب الموجه ضد أميركا.

هو منزعج بوضوح لكون المعتقدات التقليدية المتعلقة بالسياسة الخارجية تجبره على معاملة المملكة العربية السعودية كحليف. وبالطبع، فقد قرر مبكرا، في مواجهة انتقادات شديدة، أنه يريد مد يده إلى عدو الولايات المتحدة الأكثر حماسا في الشرق الأوسط، إيران. فالاتفاق النووي الذي توصل إليه مع إيران، ولو لم يثبت شيئا آخر، فهو خير دليل على أن أوباما لا يحجم عن المخاطر. لقد راهن الأمن العالمي وإرثه ذاته على أن تلتزم إحدى أكبر الدول الراعية للإرهاب في العالم باتفاقية تحد من برنامجها النووي.  

الشرق الأوسط:

توجد فرضية، على الأقل بين ناقديه، أن أوباما سعى وراء الاتفاق الإيراني لأن لديه رؤية لتقارب أميركي-فارسي تاريخي. لكن رغبته في الاتفاق النووي انطلقت من نظرة تشاؤمية بقدر ما نبعت من تفاؤل. فقد أخبرتني سوزان رايس أن “الاتفاق الإيراني لم يكن أبدا في أصله محاولة لبدء عهد جديد من العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران. لقد كان أكثر برجماتية وأقل طموحا من ذلك بكثير. كان الهدف بمنتهى البساطة جعل دولة خطيرة أقل خطورة بدرجة كبيرة. لم يتوقع أحد أن إيران ستغدو فاعلا أكثر اعتدالا.”

في إحدى المرات ذكرت لأوباما مشهدا من فيلم العراب: الجزء الثالث، يشكو فيه مايكل كورليون بغضب من عدم قدرته على التحرر من قبضة الجريمة المنظمة. أخبرت أوباما أن الشرق الأوسط كان بالنسبة لرئاسته كالمافيا بالنسبة لكورليون، وبدأت باقتباس مقولة آل باتشينو: “لحظة ظننت أني خرجت–” “تسحبك داخلها ثانية،” قال أوباما، مكملا الفكرة.

تسير قصة التقاء أوباما بالشرق الأوسط في منحنى من الخيبة، ففي أول خروج ممتد له إلى الأضواء، كمرشح رئاسي في 2008، تحدث أوباما عادة عن المنطقة بتفاؤل. في صيف ذلك العام في برلين، قال في خطاب أمام مائتي ألف ألماني مؤيدين له، “هذا هو الوقت لنساعد في الاستجابة للنداء للفجر الجديد في الشرق الأوسط.”

في العام التالي، 2009، ألقى أوباما، وهو رئيس، خطابا في القاهرة كان القصد منه إعادة ترتيب علاقات الولايات المتحدة مع مسلمي العالم. تحدث عن المسلمين في عائلته، وعن سنوات طفولته في إندونيسيا، واعترف بخطايا الولايات المتحدة حتى وهو ينتقد من يشيطنون الولايات المتحدة في العالم الإسلامي. إلا أن أكثر ما أثار الانتباه كان وعده بمعالجة الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، الذي اعتُبر حينها القضية المركزية المحركة للمسلمين العرب. أثر تعاطفه مع الفلسطينيين في الجمهور، لكن أزّم علاقاته مع بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي – خاصة وأن أوباما قرر أيضا تجاوز القدس في زيارته الرئاسية الأولى إلى الشرق الأوسط.

حين سألت أوباما مؤخرا عما كان يأمل في تحقيقه بخطاب إعادة ترتيب الأوراق في القاهرة، قال إنه كان يحاول – واعترف بفشل محاولاته – أن يقنع المسلمين بالبحث بشكل أدق عن أصول تعاستهم. وأخبرني أن “طرحي كان كالتالي: “لنتوقف جميعا عن التظاهر بأن السبب وراء مشاكل الشرق الأوسط هي إسرائيل. نريد أن نساعد في الوصول إلى الاعتراف بالدولة وإلى الكرامة للفلسطينيين، لكني كنت أتمنى أن يثير خطابي نقاشا، أن يخلق مساحة للمسلمين للتطرق إلى المشاكل الحقيقية التي يواجهونها – مشاكل الحكم، وحقيقة أن بعض التيارات المنتمية إلى الإسلام لم تمر بإصلاح يساعد الناس على تكييف معتقداتهم الدينية مع الحداثة. كنت أرى أني سأوصل لهم أن الولايات المتحدة لن تقف في طريق هذا التقدم، أننا سنساعد بأي شكل ممكن، في التقدم نحو أهداف أجندة عربية ناجحة وعملية توفر حياة أفضل للناس العادية.”

استمر تفاؤل أوباما في حديثه عن مستقبل الشرق الأوسط خلال الموجة الأولى من الربيع العربي في 2011، حتى كاد يعتنق ما سميت بأجندة الحرية التي وضعها جورج بوش، والتي امتازت جزئيا بقناعة أنه من الممكن تطبيق القيم الديمقراطية في الشرق الأوسط. وساوى أوباما بين المحتجين في تونس وميدان التحرير بروزا باركس و”رجال بوسطن الوطنيين.”

كما قال في خطاب في تلك الفترة، “بعد عقود من تقبل العالم كما هو في المنطقة، لدينا فرصة لنسعي وراء العالم كما يجب أن يكون. تدعم الولايات المتحدة عددا من الحقوق العالمية، وتتضمن هذه الحقوق حرية التعبير وحرية التجمع السلمي والحرية الدينية، والمساواة القانونية بين الرجال والنساء، وحق الناس في اختيار حكامهم…دعمنا لهذه المبادئ ليس مصلحة ثانوية.”

لكن، على مدار السنوات الثلاث التالية بدأ الخذلان يتسرب إلى الرئيس حين تلاشت البشارات الأولى للربيع العربي، وسادت الوحشية والفشل الشرق الأوسط. وبعض إحباطاته الأكبر تتعلق بقادة الشرق الأوسط أنفسهم. بنيامين نتنياهو يقع في فئة خاصة به: لطالما اعتقد أوباما بأن نتنياهو قادر على تحقيق حل للدولتين يحمي وضعية إسرائيل كديمقراطية ذات أغلبية يهودية، لكن يمنعه من ذلك خوفه الشديد والقيود السياسية عليه.

أوباما وزعماء الشرق:

لا يبدي أوباما كذلك كثيرا من سعة الصدر مع نتنياهو وغيره من قادة الشرق الأوسط الذين يشككون في فهمه للمنطقة. في أحد اجتماعات نتنياهو مع الرئيس، انخرط رئيس الوزراء الإسرائيلي فيما يشبه المحاضرة حول أخطار المنطقة الوحشية التي يعيش فيها؛ وشعر أوباما أنه كان يتصرف بأَنَفَة ويحاول تجنب الموضوع قيد النقاش: مفاوضات السلام. أخيرا قاطع الرئيس رئيس الوزراء قائلا: “بيبي، عليك أن تفهم شيئا. أنا الابن الأفريقي الأميركي لأم عزباء، وأعيش هنا في هذا البيت. أعيش في البيت الأبيض. نجحت في أن أنتخب رئيسا للولايات المتحدة. أنت تظن أنني لا أفهم ما تتحدث عنه، لكنني أفهمه.”

يسبب له القادة الآخرون كذلك إحباطا شديدا. في وقت مبكر، نظر أوباما إلى رجب طيب أردوغان، الرئيس التركي، بصفته القائد المسلم المعتدل الذي سيجسر الفجوة بين الشرق والغرب – لكن يعتبره أوباما الآن فاشلا وسلطويا، يرفض استخدام جيشه الضخم لجلب الاستقرار إلى سوريا.

وعلى هامش قمة للناتو في ويلز عام 2014، أخذ أوباما الملك الأردني عبد الله الثاني جانبا وأخبره أنه قد بلغه أن عبد الله قد اشتكى قيادة أوباما لأصدقاء له في الكونجرس الأميركي. أخبر أوباما الملك بأن عليه، إن كانت لديه شكاوى، أن يرفعها إليه مباشرة. وأنكر الملك أن يكون قد ذكره بسوء.

في الأيام الأخيرة، اعتاد الرئيس سرا على أن يقول مازحا، “كل ما أحتاجه في الشرق الأوسط هو بضعة مستبدين أذكياء.” لطالما كان أوباما مولعا بالتكنوقراط العمليين منضبطي العواطف، وكثيرا ما يقول لمساعديه، “فقط لو كان الجميع مثل الاسكندنافيين سيكون كل هذا سهلا.”

أثر انحلال الربيع العربي سلبا على رؤية الرئيس لما يمكن للولايات المتحدة أن تحققه في الشرق الأوسط، وقاده إلى إدراك الدرجة التي تلهي بها الفوضى هناك عن أولويات أخرى. أخبرني مؤخرا جون برينن، الذي كان كبير مستشاري أوباما لمحاربة الإرهاب في فترته الأولى، أن “الرئيس أدرك خلال مسار الربيع العربي أن الشرق الأوسط كان يستنزفنا.”

أوباما وليبيا:

الذي حسم رؤية أوباما القدرية كان فشل التدخل الذي قامت به إدارته في ليبيا في 2011. كان مقررا لذلك التدخل أن يمنع معمر القذافي، ديكتاتور البلاد آنذاك، من تنفيذ تهديداته بارتكاب مذبحة بحق أهالي بنغازي. لم يرد أوباما الانخراط في تلك المعركة؛ وأشار عليه جو بايدن ووزير دفاعه أثناء فترته الأولى روبرت جيتس، وغيرهم، أن يظل بعيدا. لكن تيارا قويا داخل فريق الأمن القومي – وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون وسوزان رايس، التي كانت حينها السفيرة لدى الأمم المتحدة، وكذلك سمانثا باور، وبن رودز، وأنتوني بلينكن، الذي كان حينها مستشار الأمن القومي لبايدن – ضغطوا بقوة لحماية بنغازي ونجحوا. (سرّا صرح بايدن، الذي كان ناقدا لاذعا لحكم كلينتون على السياسة الخارجية، بأن “هيلاري فقط تريد أن تصبح جولدا مائير.) أطلقت القنابل الأميركية، وأُنقذ أهالي بنغازي مما يحتمل أن يكون مذبحة أو غير ذلك، وألقي القبض على القذافي وقُتل.

لكن اليوم، يقول أوباما عن التدخل بأنه “لم ينجح.” هو يعتقد بأن الولايات المتحدة خططت عملية ليبيا بدقة – وعلى الرغم من ذلك فأوضاع البلاد لا تزال كارثية.

لماذا، في ضوء ما يبدو تحفظا تلقائيا من الرئيس تجاه التورط عسكريا حيث لا يقع الأمن القومي الأميركي تحت تهديد مباشر، وافق على توصيات مستشاريه الأكثر نزوعا للحركة بالتدخل؟ يشرح أوباما تفكيره آنذاك فيقول، “النظام الاجتماعي في ليبيا قد انهار. ترى احتجاجات واسعة ضد القذافي. لديك جماعات قبلية داخل ليبيا. بنغازي أحد مراكز المعارضة ضد النظام. والقذافي يتحرك بجيشه نحو بنغازي وقد قال “سنقتلهم كالجرذان”.

“الآن، الخيار الأول سيكون ألا تفعل شيئا؛ وكان هناك البعض داخل إدارتي الذي قالوا، رغم مأساوية الوضع الليبي، إلا أنها ليست مشكلتنا. رؤيتي للمسألة كانت أنها ستكون مشكلتنا إن سقطت ليبيا بالفعل في فوضى مطلقة وحرب أهلية. لكن هذا ليس من صميم المصالح الأميركية بحيث يكون منطقيا لنا أن نتحرك منفردين لضرب نظام القذافي. في تلك المرحلة، كان هناك أوروبا وعدد من دول الخليج يكرهون القذافي، أو قلقون من منطلق إنساني، يدعون للتحرك. لكن جرت العادة في هذه الظروف خلال العقود الأخيرة أن يحثنا الناس للتحرك ثم يحجموا عن مشاركة المخاطر.”

“ركاب مجانيون؟”

رد، “ركاب مجانيون،” وأكمل حديثه. “كان ما قلته حينها أن علينا أن نتحرك كجزء من تحالف دولي. ولكن لأن هذا ليس من صميم مصالحنا، نحتاج إلى تفويض من الأمم المتحدة؛ نحتاج من الأوروبيين ودول الخليج أن يشاركوا بفاعلية في هذا التحالف؛ سنشارك بالإمكانيات العسكرية التي ننفرد بها، لكن نتوقع من الآخرين أن يتحملوا أعباءهم. وعملنا مع فرق الدفاع لنضمن تنفيذ استراتيجية من دون إنزال جنود على الأرض ودون التزام عسكري بعيد المدى في ليبيا.

“وبالفعل نفذنا الخطة بدقة بقدر ما توقعت: حصلنا على تفويض من الأمم المتحدة، بنينا تحالفا، كلفنا مليار دولار – وهو ثمن ضئيل حين نتحدث عن العمليات العسكرية. تلافينا الخسائر البشرية الكبيرة، منعنا ما كان غالبا سيكون حربا أهلية مطولة ودموية. ورغم كل ذلك، ليبيا لا تزال معمعة.”

“معمعة” هو تعبير الرئيس الدبلوماسي؛ سرّا، يصف أوباما ليبيا بـ “العرض المروع”، جزئيا لأنها لاحقا صارت مرتعا لداعش – مرتعا قصفه أوباما بضرابته الجوية بالفعل. تحولت ليبيا إلى عرض مروع، في نظر أوباما، لأسباب لا تتعلق بالعجز الأميركي بقدر ما تتعلق بسلبية حلفاء أميركا وبسلطان القبلية العنيد.

قال أوباما “حين أعود وأسأل نفسي عما سار بشكل خاطئ، هناك مجال للانتقاد، لأنني عقدت أملا كبيرا على استثمار الأوروبيين في توابع العملية، في ظل مجاورتهم لليبيا.” ألمح الرئيس إلى أن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، فقد منصبه في العام التالي. وقال إن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون سرعان ما توقف عن الاهتمام، “لانشغاله بعدد من المسائل الأخرى.” عن فرنسا، يقول إن “ساركوزي أراد التباهي بطلعاته في الحملة الجوية، رغم أننا كنا قد أيدنا كل الدفاعات الجوية وبنينا في الواقع كامل البنية التحتية” اللازمة للتدخل.

يقول أوباما بأن هذا النوع من الاستعراض كان مقبولا، لأنه سمح للولايات المتحدة أن “تشتري مشاركة فرنسا بشكل جعلها أقل تكلفة وخطرا بالنسبة لنا.” بعبارة أخرى، كانت نسبة المزيد من الفضل لفرنسا مقابل خطر وتكلفة أقل للولايات المتحدة مقايضة مفيدة – باستثناء أنه “من وجهة نظر الكثيرين داخل مؤسسة السياسة الخارجية، كان ذلك بشعا. إن كنا سنفعل شيئا، فبالطبع يجب أن نكون في الواجهة، ولن يشاركنا الأضواء أحد آخر.”

وضع أوباما اللوم كذلك على التفاعلات الداخلية الليبية. “كانت درجة الانقسام القَبلي في ليبيا أكبر مما توقع محللونا. وانهارت سريعا قدرتنا على الحفاظ على أي بنية هناك يكون بإمكاننا التفاعل معها والبدء بالتدريب وتوفير الموارد.” وأثبتت له ليبيا أنه من الأفضل أن يتم تجنب الشرق الأوسط. قال مؤخرا لزميل قديم من مجلس الشيوخ أنه “من المستحيل أن نلتزم بحكم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. سيكون ذلك خطأ جذريا وجوهريا.”

لم يكن الرئيس أوباما حين اعتلى منصبه مشغولا بالشرق الأوسط. إنه أول ابن للمحيط الهادي يصل إلى الرئاسة – ولد في هاواي وتربى هناك، وفي إندونيسيا لأربعة سنوات – وهو مصمم على تحويل اهتمام أميركا نحو آسيا. آسيا تمثل المستقبل لأوباما. في نظره، تستحق أفريقيا وأميركا اللاتينية اهتماما أميركيا أكبر بكثير مما تحصلان عليه. أوروبا، التي لا يتحمس لها، هي مصدر استقرار عالمي يتطلب من أميركا أن تأخذ بيدها، وإن ضاق أوباما ذرعا بذلك بين الحين والآخر. والشرق الأوسط هو منطقة يجب تجنبها – والتي، بفضل ثورة الطاقة في أميركا، ستغدو سريعا ذات أهمية ضئيلة للاقتصاد الأميركي.

أوباما وداعش:

ما يشكل فهم أوباما لمسؤولياته في الشرق الأوسط ليس البترول ولكن إحدى الصادرات الأخرى للمنطقة – الإرهاب. في أوائل عام 2014، قال مستشارو الاستخبارات لأوباما أن داعش ذات أهمية ثانوية. بحسب موظفي الإدارة، فقد أخبر الجنرال لويد أوستن، وكان حينها قائد القيادة المركزية التي تتابع العمليات العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط، الرئيس بأن صعود الدولة الإسلامية كان “فلتة عابرة.” هذا التحليل قاد أوباما، في مقابلة مع مجلة ذا نيو يوركر، إلى وصف كوكبة الجماعات الجهادية في العراق وسوريا بـ “فريق بدلاء” الإرهاب. (أخبرني متحدث رسمي لأوستين بأنه “لم يحدث يوما أن اعتبر الجنرال أوستن داعش “فلتة عابرة.”)

لكن في أواخر ربيع 2014، بعد سيطرة داعش على مدينة الموصل شمالي العراق، أدرك أوباما أن الاستخبارات الأميركية فشلت في تقدير حدة التهديد وقصور الجيش العراقي، وتغير رأيه. بعد قيام داعش بذبح ثلاثة مدنيين أميركيين في سوريا، اتضح لأوباما أن هزيمة الجماعة ضرورة أكثر إلحاحا للولايات المتحدة من إسقاط بشار الأسد.

ويذكر المستشارون أن أوباما كان يشير إلى نقطة محورية في فارس الظلام، فيلم باتمان الصادر عام 2008، لتساعده في شرح فهمه ليس فقط لدور داعش، ولكن أيضا للبيئة الأوسع التي ترعرعت فيها. كان الرئيس يقول “هناك مشهد في البداية حيث يجتمع كل رؤساء عصابات جوثام. كانت المدينة مقسمة بين هؤلاء الرجال. كانوا’ بلطجية، ‘لكن كان هناك نظام من نوع ما. كان لكل منهم مجاله المحتَرَم. ثم يأتي الجوكر ويضرم النيران في المدينة كلها. داعش هي الجوكر. لديها القدرة على إضرام النيران بالمنطقة بأكملها. لهذا علينا أن نحاربها.”

صعود الدولة الإسلامية هو ما عمّق قناعة أوباما بأن الشرق الأوسط لا يمكن إصلاحه – لا في فترته ولا لجيل قادم. ففي يوم أربعاء ممطر في منتصف شهر نوفمبر 2015، ظهر الرئيس أوباما على المنصة في قمة التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ (أبيك) في مانيلا برفقة “جاك ما”، مؤسس شركة التجارة الإلكترونية الصينية “علي بابا”، والمخترعة الفلبينية “آيسا ميهِنو” البالغة من العمر واحدا وثلاثين عاما. وكانت القاعة مزدحمة بمدراء تنفيذيين آسيويين، وكبار رجال الأعمال الأميركيين، ومسؤولين حكوميين من مختلف أنحاء المنطقة. أوباما، الذي قوبل بالترحيب، بدأ بإلقاء بعض الملاحظات من خلف المنصة، دارت أغلبها حول التغير المناخي.

لم يتعرض أوباما للموضوع الذي شغل العالم كله حينها – اعتداءات داعش في باريس التي وقعت قبل خمسة أيام، وقتلت مائة وثلاثين شخصا. كان أوباما قد وصل في اليوم السابق إلى مانيلا من قمة مجموعة العشرين في أنطاليا، تركيا. اعتداءات باريس كانت موضوعا رئيسيا في المحادثات في أنطاليا، وتعرض لها أوباما في مؤتمر صحفي مثير للجدل.

كانت أسئلة مجموعة صحفيي البيت الأبيض المرافقين صارمة: سأل أحد المراسلين، “ألم يحن الوقت لتغير استراتيجيتك؟” وتبعه سؤال “هل بإمكاني أن أطلب منك الرد على منتقديك الذين يقولون بأن ترددك عن الدخول في حرب أخرى في الشرق الأوسط، وتفضيلك الدبلوماسية على استخدام الجيش، يجعل الولايات المتحدة أضعف ويقوي من أعدائنا؟” ثم جاء هذا السؤال الخالد، من مراسل “سي إن إن”: “غض الطرف عن أسلوبي – لماذا ليس بإمكاننا القضاء على هؤلاء الأوغاد؟” وتبعه سؤال “هل تظن أنك حقا تفهم هذا العدو بما فيه الكفاية لتهزمهم وتحمي الوطن؟”

اشتد انزعاج أوباما مع تزايد الأسئلة. قام بإعطاء وصف مطول لاستراتيجيته الخاصة بداعش؛ لكن لم يحل محل شعوره بالأنفة شعور آخر إلا حين تطرق إلى الجدل الثائر حديثا حول السياسة الأميركية تجاه اللاجئين. كان المحافظون والمرشحون الرئاسيون من الحزب الجمهوري قد أخذوا يطالبون فجأة بأن تمنع الولايات المتحدة اللاجئين السوريين من الدخول إليها. اقترح تيد كروز أن يُقبل فقط السوريون المسيحيون. أما كريس كريستي فقال بأن كل اللاجئين، بما فيهم “الأيتام تحت سن الخامسة،” يجب أن يمنعوا من الدخول لحين وضع إجراءات للفحص الدقيق.

بدا أوباما شديد الضيق بهذا الخطاب. وقال للصحفيين المجتمعين، “عندما أسمعهم يقولون، حسنا، ربما علينا فقط استقبال المسيحيين وليس المسلمين؛ عندما أسمع القادة السياسيين يقترحون امتحان الهاربين من بلاد أدماها الحرب لتحديد من منهم سنستقبله؛ ليس هذا أميركيا. نحن لسنا كذلك. نحن لا نخضع تعاطفنا لامتحانات دينية.”

غادرت’ إير فورس ون‘أنطاليا ووصلت بعد عشر ساعات إلى مانيلا. في ذلك الوقت كان مستشارو الرئيس قد أدركوا، حسب أحد المسؤولين، أن “الجميع في بلادنا قد فقدوا عقولهم.” قالت سوزان رايس لمن كانوا معها على الرحلة أنها بحثت، في محاولة لفهم القلق المتصاعد، في التلفاز بفندقها عن السي إن إن، لتجد فقط قناتي بي بي سي وفوكس نيوز وتتنقل بين القناتين محاوِلة التوصل إلى المتوسط بينهما.

لاحقا، يقول الرئيس بأنه لم يوفق في تقدير حجم الخوف الذي شعر به الأميركيون من احتمالية اعتداء في الولايات المتحدة على غرار اعتداءات باريس. بعد المسافات، وجدول الأعمال العاصف، والضبابية التي تسود رحلات الرئاسة الممتدة عبر العالم نتيجة اضطراب التوقيت كانت كلها في غير صالحه. لكنه لم يعتقد أبدا أن التهديد الذي يمثله الإرهاب للولايات المتحدة يكافئ حجم الخوف الذي يتولد عنه. حتى في الفترة من عام 2014 حين كانت داعش تعدم أسراها الأميركان في سوريا، كانت انفعالاته تحت السيطرة.

أخبرته فاليري جاريت، أقرب مستشاريه إليه، أنها تخشى أن تنتقل داعش بحملات الذبح إلى الولايات المتحدة. فطمأنها أوباما “أنهم لن يأتوا إلى هنا ويقوموا بفصل رؤوسنا عن أجسادنا.” يذكر أوباما موظفيه باستمرار بأن الإرهاب يحصد في أميركا أرواحا أقل بكثير من تلك التي تحصدها المسدسات وحوادث السيارات والسقوط داخل أحواض الاستحمام. عبر لي قبل بضعة سنوات عن إعجابه بـ “ثبات” الإسرائيليين في مواجهة إرهاب دائم؛ ومن الواضح أنه يود رؤية الثبات يحل محل الذعر داخل المجتمع الأميركي. ومع ذلك، فمستشاروه يخوضون دوما معركة بائسة لمنعه من وضع الإرهاب فيما يعتبره هو سياقه “السليم،” مندفعين في ذلك من قلق بأن يبدو الرئيس غير مكترث بمخاوف الشعب الأميركي.

ينتقل ضيق مستشاري أوباما إلى البنتاجون ووزارة الخارجية. فجون كيري مثلا، يبدو أكثر قلقا بشأن داعش من الرئيس. حينما سألت وزير الخارجية مؤخرا سؤالا عاما – هل ما يزال الشرق الأوسط مهما للولايات المتحدة؟ – أجابني بالحديث حصريا عن داعش. قال “هذا تهديد للعالم بكل من فيه.” جماعة “ملتزمة علنا بتدمير الناس في الغرب وفي الشرق الأوسط. تخيل ما قد يحدث إن لم نبقَ ونقاتلهم، إن لم نقد تحالفا – وهو ما نفعله، بالمناسبة. إن لم نفعل ذلك، قد ترى حلفاءنا وأصدقاءنا يسقطون. قد ترى هجرة هائلة إلى أوروبا تدمر أوروبا، تؤدي إلى الدمار التام في أوروبا، تقضي على المشروع الأوروبي، والجميع يهرعون بحثا عن الحماية وستجد نفسك في ثلاثينيات القرن الماضي ثانية، وترى اندلاع القومية والفاشية وغيرهما. بالطبع لدينا مصلحة هنا، مصلحة ضخمة هنا.”

عندما ألمحت لكيري أن خطاب الرئيس لا يعكس خطابه، قال إن “الرئيس أوباما يرى كل هذا لكنه لا يضخمه لهذا النوع من – هو يظن أننا على المسار الصحيح. لقد زاد من جهوده، لكنه لا يحاول أن يخلق هيستريا… أظن أن الرئيس دوما يميل لإبقاء الأشياء في حالة توازن سليم. أنا أحترم ذلك.”

يخفض أوباما من حدة مناقشته للإرهاب لعدد من الأسباب: هو بطبيعته ينتمي لمدرسة بنجامين سبوك. ويؤمن بأنه بإمكان كلمة تخرج في غير محلها، أو نظرة مذعورة، أو إطناب غير مدروس أن يهوي بالبلاد إلى حالة

من الذعر. وهو يشعر بالقلق بشكل خاص حيال ذلك الذعر الذي يعبر عن نفسه في حالة من الزينوفوبيا توجه ضد المسلمين أو في هجوم على الانفتاح الأميركي والنظام الدستوري.

التحول نحو آسيا:

يحبط الرئيس كذلك الطغيان الدائم للإرهاب على أجندته الأوسع، وخاصة فيما يتعلق بإعادة التوازن لأولويات أميركا العالمية. لسنوات كان “التحول نحو آسيا” إحدى ضروراته القصوى. إنه يؤمن بأن مستقبل أميركا الاقتصادي هو في آسيا، وبأن التحدي المتمثل في صعود الصين يتطلب اهتماما دائما. منذ أيامه الأولى في الرئاسة وأوباما حريص على ترميم علاقات الولايات المتحدة – البالية أحيانا – بالدول التي تجمعها بها اتفاقيات، وهو يبحث بلا انقطاع عن فرص لجذب دول آسيوية أخرى إلى مدار الولايات المتحدة. مَثّل انفتاحه اللافت للنظر على بورما إحدى تلك الفرص، وغيرها فيتنام وكوكبة دول جنوب شرق آسيا التي تخشى الهيمنة الصينية.

كانت هذه هي الأجندة التي أراد أوباما تركيز النقاش عليها في قمة الأبيك في مانيلا، وليس على ما رآه تحدي داعش القابل للاحتواء. أخبرني وزير دفاع أوباما، آشتون كارتر، في وقت ليس ببعيد أن أوباما حافظ على تركيزه على آسيا حتى في ظل انفجار الأوضاع في سوريا وغيرها من الصراعات الشرق أوسطية. قال كارتر بأن أوباما يؤمن بأن آسيا هي “الجزء الأهم في العالم بالنسبة للمستقبل الأميركي، وأنه ما من رئيس يستطيع غض طرفه عن هذا.” وأضاف، “إنه يسأل باستمرار، حتى في خضم كل ما يحدث،’ إلامَ وصلنا في إعادة التوازن الآسيوي-الباسيفيكي؟ أين نحن من حيث الموارد؟ ‘اهتمامه بهذا الشأن ثابت ومطرد، حتى في أثناء التوتر في الشرق الأوسط.”

بعد أن أنهى أوباما كلمته عن التغير المناخي، انضم إلى’ ما‘و’ ميهِنو‘الذين جلسا على كرسيين مجاورين، حيث كان أوباما يعد لإجراء مقابلة معهما على طريقة مذيعي البرامج الحوارية اليومية – طريقة عكست المراكز وسببت دوارا للجمهور غير المعتاد على مثل هذا السلوك من قِبل رؤسائه. بدأ أوباما بتوجيه سؤال عن التغير المناخي إلى’ ما، ‘الذي وافقه بالطبع في أنها مسألة بالغة الأهمية. ثم اتجه أوباما إلى’ مهينو. ‘لم يكن بوسع مختبر في خبايا الجناح الغربي أن يخلق شخصا أكثر استمالة لاهتمامات أوباما الدقيقة من’ مهينو‘– المهندسة اليافعة التي اخترعت، مع شقيقها، مصباحا يعمل بالمياه المالحة. سألها أوباما، “لنستوضح منك يا أيسا. بالقليل من المياه المالحة إذا، يمكن للجهاز الذي اخترعتِه أن يوفر ثمانية ساعات من الإضاءة؟ هل هذا صحيح؟”

أجابت، “ثمانية ساعات من الإضاءة.” أوباما: “وتكلفة المصباح عشرون دولارا –”. “مهينو”: “حوالي عشرون دولارا.” “أعتقد أن’ أيسا‘مثال رائع على ما نراه في كثير من البلدان – رواد أعمال صغار يستحدثون تقنيات وثابة، مثلما حدث في مناطق كثيرة من آسيا وإفريقيا لم تدخلها أبدا الهواتف الأرضية القديمة،” لأن تلك المناطق اتجهت مباشرة للهواتف المحمولة. شجع أوباما ’جاك ما‘ على تمويل عملها. وقال، وسط ضحك الحاضرين، “لقد فازت بالكثير من الجوائز ولفتت الكثير من الاهتمام بالمناسبة. فهذا ليس كتلك الإعلانات التعريفية لأشياء لا تتمكن من تشغيلها بعد شرائها.”

في اليوم التالي، على متن’ إير فورس ون‘في الطريق إلى كوالا لامبور، ذكرت لأوباما أنه بدا سعيدا حقا لوجوده على المنصة برفقة’ ما‘ومهينو، ‘ثم تحولت عن آسيا لأسأله إن كان أي شيء متصل بالشرق الأوسط يشعره بالسعادة.

أجابني قائلا، “حاليا، لا أظن أن أحدا يمكنه الشعور بالرضا عن الوضع في الشرق الأوسط. ترى دولا تفشل في تحقيق الازدهار وتوفير الفرص لشعوبها. ترى أيديولوجيا، أو أيديولوجيات، عنيفة متطرفة تشحن توربينيا خلال شبكات التواصل الاجتماعي. ترى دولا لا تتمتع سوى بالقليل من التقاليد المدنية، فإن بدأ الضعف يعتري نظمها الاستبدادية، لا تجد مبادئ حاكمة سوى المبادئ الطائفية.”

وتابع كلامه، “قارن ذلك بجنوب شرق آسيا، الذي لا يزال يعاني من مشاكل كبيرة – فقر هائل وفساد – لكنه مليء بأناس طموحة ومجتهدة تكافح يوميا لبناء الشركات والحصول على تعليم وإيجاد وظائف وبناء البنى التحتية. الفروق صارخة.” ويقول بأنه يرى في آسيا، كما في أميركا اللاتينية وأفريقيا، شبابا يتطلعون نحو تقويم الذات، والحداثة، والتعليم، والرغد المادي. “إنهم لا يفكرون في كيفية قتل الأميركيين. ما يفكرون به هو’ كيف أحصل على تعليم أفضل؟ كيف أنتج شيئا ذا قيمة؟”

صراع الحضارات والإسلام الراديكالي

قال أوباما بعد ذلك جملة أدركت أنها ممثلة عن أكثر تصوراته بؤسا وتلقائية عن الشرق الأوسط اليوم – وهو ليس التصور الذي كان سيروجه بيت أبيض ميال إلى قضايا الأمل والتغيير. يقول عن الشباب في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، “إن لم نتحدث إليهم، لأن كل ما نفعله هو البحث عن وسيلة لتدمير أكثر أقسام الإنسانية شرا وعدمية وعنفا، أو تطويقها أو السيطرة عليها، نكون قد فوتنا الفرصة.”

يرى خصوم أوباما أنه لا ينجح في حصار عدميي الإسلام المتطرف لأنه لا يدرك طبيعة التهديد. وهو بالفعل يقاوم قراءة الإسلام الراديكالي في إطار “صراع الحضارات” الذي روج له أستاذ العلوم السياسية الراحل صمويل هانتينجتون. لكن يحتج هو ومستشاروه أن السبب في ذلك أنه لا يريد أن تتسع صفوف العدو. وقد قال جون برينن مدير الاستخبارات المركزية الأميركية، أن “الهدف هو ألا نفرض قالبا هانتينجتونيا لهذا الصراع.”

فرنسوا أولاند وديفيد كاميرون كلاهما تحدث عن خطر الإسلام الراديكالي بتعبيرات أكثر هانتينجتونية، وقد سمعت أن كلاهما يود لو يواجه أوباما هذا الخطر بتعبيرات أكثر صراحةً. حين ذكرت ذلك لأوباما، قال لي، “أولاند وكاميرون استخدما عبارات، كعبارة الإسلام الراديكالي، لا نلجأ لها نحن في العادة في استهدافنا للإرهاب. لكنني لم أدخل معهما أبدا في حوار قالا فيه “لماذا لا تستخدم هذه العبارة كما تسمع الجمهوريين يستخدمونها؟” يقول أوباما بأنه قد طالب القادة المسلمين ببذل المزيد للتخلص من خطر الأصولية العنيفة. وأخبرني “ما أعنيه واضح تماما. وهو أن هناك طائفة ضمن المجتمع المسلم – طائفة صغيرة – مسؤولة عن تفسير عدمي متعصب وراديكالي وعنيف للإسلام. هذه الطائفة هي عدونا ويجب أن تهزم.”

ثم قدم نقدا بدا أكثر اتساقا مع خطاب كاميرون وأولاند. “هناك أيضا حاجة للإسلام ككل أن يواجه تفسير تلك الطائفة، وأن يعزله، وأن يدخل المسلمون داخل مجتمعهم في نقاش حيوي حول موقع الإسلام داخل مجتمع حديث ومسالم.” ولكنه أضاف، “أنا لا أقنع المسلمين المسالمين المتسامحين بالدخول في ذلك النقاش إن لم أراعِ مخاوفهم من التعميم في تصنيفهم كإرهابيين.”

السعودية والخليج ونشر الإرهاب:

في لقاءاته الخاصة مع قادة الدول الكبرى الآخرين، قال أوباما باستحالة وجود حل شامل للإرهاب الإسلامي حتى يتصالح الإسلام مع الحداثة ويمر ببعض الإصلاحات التي مرت بها المسيحية. رغم قوله المثير للجدل بأن صراعات الشرق الأوسط “تعود لآلاف السنين،” إلا أنه أيضا يؤمن بأن غضب المسلمين المتزايد في السنوات الأخيرة قد شجعته دول تعدّ صديقة للولايات المتحدة. في اجتماع أثناء قمة الأبيك مع رئيس الوزراء الأسترالي الجديد مالكولم تيرنبول، وصف له أوباما كيف شاهد إندونيسيا تنتقل تدريجيا من إسلام توافقي مطْمَئن، إلى تفسير أقل تسامحا وأكثر أصولية؛ ولمح إلى الأعداد الكبيرة من نساء إندونيسيا اللاتي يقمن بارتداء الحجاب، غطاء الرأس الإسلامي.

سأل تيرنبول عن السبب وراء ذلك. أجابه أوباما بأن السبب هو أن السعوديين وغيرهم من عرب الخليج قد حولوا أموالا وأعدادا كبيرة من الأئمة والمعلمين إلى إندونيسيا. في التسعينات، مول السعوديون وبكثافة المدارس الوهابية، معاهد لاهوتية تدرس صيغة الإسلام الأصولية المفضلة لدى الأسرة الحاكمة السعودية. وأخبره أن الإسلام اليوم في إندونيسيا أكثر عربية في توجهه عما كان عليه عندما عاش هناك.

سأله تيرنبول “أليس السعوديون أصدقاءك؟” ابتسم أوباما وقال إنه “أمر معقد.”

أوباما والسعودية:

لطالما كان صبر أوباما على المملكة العربية السعودية محدودا. في أول تعليق ذي أهمية له على السياسة الخارجية، ذلك الخطاب الذي ألقاه عام 2002 أمام الجمهور المعارض للحرب في شيكاغو، قال “أتريد حربا أيها الرئيس بوش؟ لنحارب لضمان أن يكف من يسمون بحلفائنا في الشرق الأوسط – السعوديون والمصريون – عن ظلم شعوبهم، وقمع المعارضة، والتسامح مع الفساد وغياب المساواة.” بين الحين والآخر هذه الأيام، يسمع المرء في البيت الأبيض مسؤولي مجلس الأمن القومي يعمدون إلى لفت أنظار الزوار إلى أن غالبية مختطفي طائرة الحادي عشر من سبتمبر لم يكونوا إيرانيين، بل سعوديين – وأوباما ذاته يشجب إقرار الدولة السعودية للتمييز ضد النساء، قائلا في السر بأنه “لا يمكن لدولة تقمع نصف سكانها بأن تعمل بشكل سليم في العالم الحديث.” وفي اجتماعاته مع القادة الأجانب، قال أوباما بأن “بإمكانك قياس نجاح مجتمع ما اعتمادا على معاملته لنسائه.”

يساهم انزعاجه من السعوديين في تحليله لسياسات القوى الشرق أوسطية. ذات مرة ذكرت له أنه أقل ميلا من الرؤساء قبله إلى الاصطفاف مع السعودية من حيث المبدأ في خلافها مع منافستها إيران. ولم يعارض كلامي.

قال لي الرئيس أن “إيران، منذ 1979، عدوة للولايات المتحدة، وقد تورطت في رعاية الإرهاب، وهي تهديد حقيقي لإسرائيل وللكثير من حلفائنا، ومتورطة في كل أشكال السلوك الهدام. ولم تكن رؤيتي أبدا أن علينا تنحية حلفائنا التقليديين – السعوديين – جانبا لصالح إيران.”

لكنه استكمل حديثه فقال إن السعوديين عليهم أن “يتشاركوا” الشرق الأوسط مع أعدائهم الإيرانيين. “تتطلب منا المنافسة بين السعوديين والإيرانيين – والتي ساهمت في تغذية حروب بالوكالة وفوضى في سوريا والعراق واليمن – أن نقول لأصدقائنا وللإيرانيين على السواء أن عليهم أن يجدوا طريقة فعالة ليتشاركوا الجوار ويقيموا سلاما باردا من نوع ما. التوجه الذي يقول لأصدقائنا أنتم على حق، إيران هي مصدر كل المشاكل، وسنساعدكم في التعامل معها، سيعني في صميمه أنه، بينما تستمر هذه الصراعات الطائفية في الاشتعال، ويقف شركاؤنا الخليجيون – أصدقاؤنا التقليديون – عاجزين عن إخماد النيران أو تحقيق نصر أكيد بأنفسهم، سيكون علينا أن نتدخل ونستخدم قوتنا العسكرية لتصفية الحسابات. وهذا لن يكون في مصلحة الولايات المتحدة أو الشرق الأوسط.”

القبلية والدول الفاشلة:

إحدى أشد القوى تدميرا في الشرق الأوسط، في اعتقاد أوباما، هي القبلية – وهو قوة لا يستطيع أي رئيس أن يحيدها. القبلية، التي تتجلى في ارتداد مواطني الدول الفاشلة اليائسين إلى الطائفة، والمذهب، والعشيرة، والقرية، هي مصدر الكثير من مشاكل الشرق الأوسط؛ وهي مصدر آخر لنظرته القدَرية للمنطقة. يقدر أوباما بشدة الثبات المدمر الذي تتمتع به القبلية – جزء من مذكراته، أحلام من أبي، متعلق بالكيفية التي ساهمت بها القبلية في كينيا مابعد-الكولونيالية في تدمير حياة والده – وهو ما يفسر بدرجة كبيرة تدقيقه في تجنب التورط في صراعات قبلية.

أخبرني “أن الارتياب بشأن القبلية داخل تكويني الجيني حرفيا. أنا أفهم الدافع القبَلي، وأعترف بقوة التقسيمات القبلية. طوال حياتي وأنا أجوب التقسيمات القبلية؛ إنها في النهاية مصدر الكثير من الأفعال المدمرة.” أثناء الرحلة إلى كوالا لامبور برفقة الرئيس، استدعيت ما قاله لي ذات مرة عن الرأي الهوبزَوي في الحكومة القوية بصفتها الترياق لحالة الطبيعة القاسية. عندما ينظر أوباما إلى مساحات من الشرق الأوسط، فإن ما يراه هو “حرب الجميع ضد الجميع” التي أشار إليها هوبز. وكان قد قال، “أنا أدرك أن لعبنا لدور اللفياثان يضيق الخناق على بعض هذه النزعات ويروضها.” فحاولت إعادة فتح هذا الحوار بسؤال مطول عن عدة أشياء من بينها “الفكرة الهوبزوية القائلة بأن الناس ينظمون أنفسهم في جماعات لاتقاء أكبر مخاوفهم، وهي الموت.”

لم يستطع بن رودز والمتحدث الرسمي للبيت الأبيض جوشوا إرنست، الذين جلسا على أريكة إلى جوار مكتب أوباما على متن ’إير فورس ون،‘ إخفاء استمتاعهما باستطراداتي المنطقية. سكتت للحظة ثم قلت، “أظن أنني إن سألت ذلك السؤال في مؤتمر صحفي فسيطردني زملائي من القاعة.”

قال أوباما، “أنا سأود ذلك، لكن الباقين سيديرون أعينهم ضيقا بك.” تدخل رودز سائلا: “لماذا لا يمكننا القضاء على الأوغاد؟” كان ذلك السؤال الذي وجهه صحفي السي إن إن إلى الرئيس في المؤتمر الصحفي في تركيا قد صار مادة للتهكم أثناء الرحلة. واجهت الرئيس: “نعم، أيضا لماذا لا يمكننا القضاء على الأوغاد؟”

تناول هو السؤال الأول. “أنا لست من أولئك الذين يرون البشر أشرارا بالأصل. أؤمن أن في البشرية خيرا أكثر من الشر. وإن نظرتَ إلى مسار التاريخ، فأنا متفائل.” “أؤمن البشرية بشكل عام قد صارت أقل عنفا، وأكثر تسامحا، وأفضل صحة، وأفضل تغذية، وأكثر تعاطفا، وأكثر قدرة على إدارة الاختلاف. لكن هناك تفاوت كبير. وما اتضح خلال القرنين العشرين والواحد والعشرين هو أن التقدم الذي نحققه على صعيد النظام الاجتماعي وترويض نزعاتنا الأسوأ وتهدئة مخاوفنا يمكن أن يُنقض بسرعة كبيرة. إن وُضع الناس تحت ضغوط عظيمة فإن النظام الاجتماعي يبدأ بالتهاوي، ثم تغدو القبيلة الحالة الطبيعية – نحن في مقابل الآخر، والعداء تجاه غير المألوف أو المعروف.”

وأكمل، “حاليا في شتى أنحاء العالم، ترى مناطق تتعرض لضغط كبير بفعل العولمة، وبفعل اصطدام الثقافات الناتج عن الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، وبفعل أشكال الندرة المختلفة – التي سيعزى بعضها إلى التغير المناخي على مدار العقود القليلة القادمة – وبفعل الزيادة السكانية. وفي تلك المناطق، والشرق الأوسط مثالنا الأقرب، الخيار الطبيعي للكثير من الناس هو الانتظام المُحكم في القبيلة ودفع أولئك المختلفين أو مهاجمتهم.

“جماعة مثل داعش هي مستخلَص لأسوأ تلك النزعات. فالفكرة القائلة بأننا جماعة صغيرة، نعرف أنفسنا بشكل رئيسي بمدى قدرتنا على قتل الآخرين المختلفين عنا، ونسعى لفرض معتقد جامد لا ينتج شيئا ولا يحتفي بشيء وفي حقيقته مخالف لكل تقدم إنساني – توضح مدى قدرة تلك العقلية على التجذر وكسب الأنصار في القرن الحادي والعشرين.”

سألته إن كان تقديره لقوة القبلية هو ما يدفعه للبقاء بعيدا إذا؟ “بعبارة أخرى، في حين يسألك الناس’ لماذا لا تذهب وتقضي على الأوغاد؟ ‘فأنت تتراجع؟”. قال لي بأن “علينا أن نجد الطرق الأفضل للحد من وجهات النظر تلك. للأسف سيتعين علينا في بعض الأوقات، إما لأنه ليس تهديدا مباشرا لنا أو ببساطة لأننا لا نملك الأدوات في صندوق أدواتنا لنحدث أثرا كبيرا، أن نمتنع عن توريط أنفسنا بشكل كامل.”

بين رواندا وسوريا:

سألت أوباما عما إذا كان سيرسل قوات المارينز الأميركية إلى رواندا في 1994 أثناء المجازر لإيقافها إن كان الرئيس حينها. كان رده بأنه “نظرا للسرعة التي حدثت بها المجازر، وطول الوقت الذي تأخذه الحكومة الأميركية لحسم المسائل، فإني أتفهم لماذا لم نتحرك بالسرعة اللازمة. والآن علينا أن نتعلم من ذلك. أنا بالفعل أظن أن رواندا حالة مثيرة للاهتمام لأنه من المحتمل – وإن لم يكن مضمونا، ولكن محتملا – أن الاستخدام السريع للقوة في تلك الحالة ربما كان كافيا.”

ثم ربط ذلك بسوريا: “المفارقة أنه من الأسهل القول بأن إرسال قوة صغيرة نسبيا ومدعومة من المجتمع الدولي إلى رواندا ربما كان يمنع الإبادة الجماعية [بنجاح في رواندا] أكثر منه في سوريا حاليا، التي تتطلب التزاما عسكريا أكبر بكثير نظرا لحجم التسلح الذي تتمتع به الجماعات المختلفة، وحجم الدعم الخارجي الذي يقدمه فاعلون خارجيون غزيرو الموارد للمقاتلين المحترفين بالداخل.”

يقول المسؤولون في إدارة أوباما أن لديه نهجا معقولا لمحاربة الإرهاب: قوات من الطائرات المسيرة بدون طيار، وغارات للقوات الخاصة، وجيش سري من عشرة آلاف من الثوار يحاربون في سوريا مدعومين من وكالة الاستخبارات الأميركية. لماذا إذا يتخبط أوباما حين يشرح للشعب الأميركي أنه هو أيضا يهتم بالإرهاب؟ أخبرته أن المؤتمر الصحفي في تركيا “كان الوقت لتقول، بصفتك سياسيا،’ نعم، أنا أكره الأوغاد أيضا؛ وأنا بالمناسبة أعمل على القضاء عليهم بالفعل. ‘“كان من السهل أن يطمئن الأميركيين بعبارات تلقائية أنه سيقتل أولئك الذين يريدون قتلهم. هل يخشى رد فعل غير محسوب في اتجاه اعتداء آخر على الشرق الأوسط؟ أم أن التزامه بمبادئ بنجامين سبوك لا يتبدل أبدا؟

أجابني بأن “لكل رئيس نقاط قوة ونقاط ضعف. ولا شك أنه كانت هناك أحيان لم أنتبه بما فيه الكفاية للمشاعر والسياسة في نقل ما نفعل وكيف نفعله.” وأكمل أنه على الرغم من ذلك، فإن أرادت الولايات المتحدة قيادة العالم بنجاح، “فأنا أؤمن أن علينا تجنب التبسيط المفرط. علينا أن نوطن أنفسنا على الثبات ونضمن أن جدالاتنا السياسية منطلقة من الواقع. ليس الأمر أنني لا أقدر قيمة الأداء المسرحي في التواصل السياسي؛ المسألة أن ما اعتدنا – نحن الإعلام والسياسيون – عليه، وطريقتنا في الحديث عن هذه القضايا، في أغلب الأحيان شديدة الانفصال عما يجب أن نقوم بفعله؛ وإن عملت على إرضاء ضوضاء القنوات الإخبارية فإن ذلك سيقودنا إلى اتخاذ قرارات أسوأ وأسوأ بمرور الوقت.”

ذكر لي الرئيس بينما بدأت ’ إير فورس ون‘ بالهبوط إلى كوالا لامبور الجهود الناجحة التي تقودها الولايات المتحدة لاحتواء وباء إيبولا في أفريقيا الغربية كمثال إيجابي للإدارة الهادئة وغير الهستيرية لأزمة مروعة.

يقول أوباما بأنه “في الشهرين الذين فزع خلالهما الجميع من أن إيبولا سيدمر العالم واستمرت وغطى الإعلام أخباره على مدار اليوم، إن كنت قد غذيت هذا الذعر أو حدت بأي شكل عن’ ها هي الحقائق، هذا ما يجب فعله؛ هذا ما نفعله للتعامل مع المسألة؛ احتمالية إصابتكم بإيبولا ضئيلة جدا؛ وهذا ما يجب أن نفعله محليا وخارجيا لنقضي على هذا الوباء”. إذن “لربما قال الناس بأن’ أوباما يأخذ هذه المسألة بجدية كما يجب”. ولكن تغذية الذعر بالمبالغة في رد الفعل ربما كانت ستوقف التنقلات من وإلى ثلاث دول أفريقية شديدة الفقر بالفعل، وربما أدى ذلك إلى انهيار اقتصاداتها – الذي كان سيعني، ضمن أشياء أخرى، عودة إيبولا إلى الظهور. وأضاف أوباما، “كان ذلك سيعني أيضا أننا كنا سنهدر الكثير من موارد نظامنا الصحي العام والتي يجب أن تخصص للتطعيمات ضد الإنفلونزا وغيرها من الأشياء التي تقتل الناس بالفعل” بأعداد كبيرة في أميركا.

جنوب شرق آسيا:

هبطت الطائرة ولم يبدو أن الرئيس، وهو مضطجع في كرسي مكتبه وسترته بجانبه وربطة عنقه مائلة، قد لاحظ ذلك. خارج الطائرة على المدرج، رأيت ما بدا لي جزءا كبيرا من القوات المسلحة الماليزية قد اجتمعوا للترحيب به. بدأت أقلق حين استمر في الكلام أن حرارة الجو ستشتد على الجنود والمسؤولين رفيعي المستوى المنتظرين. قلت إني “أعتقد أننا في ماليزيا. يبدو أنها خارج هذه الطائرة.”

أقر بصحة ذلك، لكنه بدا غير مستعجل، فعدت أسأله عن رد فعله العلني على الإرهاب: إن أبدى المزيد من المشاعر، ألن يهدئ ذلك الناس بدلا من إغضابهم؟

أخبرني، “أبناء بعض أصدقائي في باريس حاليا. وأنا وأنت وعدد كبير من الناس الذين يكتبون عما حدث في باريس قد تجولنا في الشوارع ذاتها التي أطلق فيها الرصاص على الناس. ومن السليم أن نشعر بالخوف. ومن المهم بالنسبة لنا ألا نصير غير مبالين.” ثم شرع يصف لي فارقا آخر – بين اتخاذ قرارات مدروسة واتخاذ قرارات متسرعة انفعالية. “ما يعنيه ذلك في الواقع أنك تهتم بشدة إلى درجة أنك تريد أن تصيب فيما تفعل، وأنك لن تطلق العنان لا لردود الفعل الانفعالية ولا، في بعض الحالات، المصطنعة التي تصلح مقاطع صوتية جيدة ولكن لا تفضي إلى نتائج. المخاطر أكبر من أن ننخرط في تلك الألعاب.”

عندها وقف أوباما وقال، “حسنا. على الذهاب.” تحرك خارج مكتبه ونزل السلالم إلى السجادة الحمراء وإلى حرس الشرف وحشد المسؤولين الماليزيين الذين ينتظرون الترحيب به، ثم إلى سيارته المصفحة – التي نقلت جوا إلى كوالا لامبور قبل وصوله. (في بداية فترته الأولى وقبل اعتياده على العملية العسكرية الضخمة التي يتطلبها نقل الرئيس من مكان لآخر، ألمح إلى مساعديه بحزن، “أنا صاحب أكبر بصمة كربونية في العالم.”)

محطة الرئيس الأولى كانت مناسبة أخرى صممت لتسلط الضوء على تحوله نحو آسيا؛ هذه كانت لقاء مفتوحا مع طلاب ورواد أعمال مشاركين في مبادرة القادة الشباب لدول جنوب شرق آسيا التي أطلقتها الإدارة. دخل أوباما قاعة المحاضرات بجامعة تايلور وسط تصفيق حاد. افتتح ببعض الملاحظات، ثم فتن الحضور في سلسلة سؤال وجواب ممتدة.

لكن شغلتنا نحن المشاهدون من قسم الصحافة الأخبار الواردة عبر هواتفنا عن اعتداء جهادي جديد، هذه المرة في مالي. ولم يكن لدى أوباما الذي كان مشغولا باستمالة رواد الأعمال الآسيويين المولعين به، أدنى فكرة عن ذلك. ولم يعلم بالأخبار إلا عندما ركب سيارته مع سوزان رايس.

زرت الرئيس لاحقا ذاك المساء في جناحه بفندق ريتز-كارلتون في وسط كوالا لامبور. كانت الشوارع حول الفندق قد أغلقت. أحاطت السيارات المصفحة بالمبنى؛ وامتلأ البهو بقوات التدخل السريع. استقللت المصعد إلى طابق مزدحم بعناصر من الخدمة السرية، الذين وجهوني إلى الدرج حيث أوقف المصعد المؤدي إلى طابق أوباما لدواعٍ أمنية. صعدت طابقين إلى رواق به المزيد من القوات. انتظرت لحظة ثم فتح أوباما الباب. كان جناحه ذو الطابقين غريبا: ستائر شبيهة بالأزياء المدرسية، وأرائك كثيفة الحشو. كان ضخما ومنعزلا وخانقا في الوقت ذاته.

علقت بأنه “يشبه قلعة هيرست.” رد بأنه “أفضل كثيرا من فندق هامبتون إن بـ ’ دي موين. ‘سمعت قناة’ إي إس بي إن‘في الخلفية. حين جلسنا، أشرت إلى تحدٍ رئيسي يواجه تحول الرئيس نحو آسيا. أثناء ذلك اليوم، وبينما كان يحاول إلهام مجموعة متحمسة من رائدات الأعمال الإندونيسيات والمبتكرات البورميات، اللواتي كن يرتدين الحجاب، كان الاعتداء الإرهابي الإسلامي الأخير قد حول الأنظار إليه. كان لديه اقتراح، بصفته مؤلفا في صميمه: أشار إلى هذه المقالة قائلا، “ربما هي الطريقة الأسهل لتبدأ قصتك.” ربما، لكنها حيلة رخيصة. قال، “هي رخيصة، لكنها تنجح. نتحدث نحن إلى هؤلاء الأطفال، ثم يحدث هذا الاعتداء.”

قادتنا أحداث اليوم المتزامنة إلى مناقشة اجتماعين كان الرئيس قد عقدهما مؤخرا، أحدهما أثار جدلا دوليا واحتل أبرز العناوين، في حين لم يفعل الآخر. ارتأيت أن الذي جذب ذلك الانتباه ستظهر الأيام أنه كان أقل أهمية. ذاك كان القمة الخليجية في كامب ديفيد في مايو 2015؛ التي كان الهدف من ورائها طمأنة جمهرة من الشيوخ والأمراء المتخوفين من الاتفاق الوشيك مع إيران. انعقد الاجتماع الآخر بعد شهرين في الغرفة البيضاوية بين أوباما والأمين العام للحزب الشيوعي الفيتنامي، “نغوين فو ترونج” لم يحدث هذا الاجتماع سوى لأن جون كيري ضغط على البيت الأبيض ليخالف المراسم المعتادة، حيث أن الأمين العام لم يكن رئيسا للدولة.

لكن رجحت كفة الأهداف على الذوقيات: أراد أوباما أن يضغط على الفيتناميين فيما يتعلق باتفاقية الشراكة عبر الأطلسية – وتمكن مفاوضوه سريعا من الحصول على تعهد من الفيتناميين بتقنين النقابات العمالية المستقلة – كما أراد أن يعمق التعاون في المسائل الاستراتيجية. وقد لمح لي مسؤولون بالإدارة مرارا بأن فيتنام قد تستضيف في المستقبل القريب وجودا عسكريا دائما، للحد من طموحات أشد الدول إخافة لها حاليا – الصين. عودة البحرية الأميركية إلى خليج كامران كانت أكثر تطورات التاريخ الأميركي القريب بعدا للاحتمال. “لتونا دفعنا الحزب الشيوعي الفيتنامي إلى إقرار حقوق العمال؛ ولم يكن ذلك ليتسنى لنا بالضغط عليهم أو إخافتهم،” كان تعليق أوباما الذي عد هذا انتصارا رئيسيا في حملته لإحلال الإقناع الدبلوماسي محل التلويح بالعصا.

أشرت إلى أن قرابة المائتين من شباب جنوب شرق آسيا الحاضرين في القاعة قبل ساعات – بمن فيهم مواطنون من دول تحت أنظمة شيوعية – بدا أنهم يحبون أميركا. رد أوباما بأنهم “يحبونها. حاليا، تحصد أميركا 80% في استطلاعات الرأي.”

قال إن الشعبية الأميركية التي تعاود الظهور في شتى أنحاء جنوب شرق آسيا تعني “أن بإمكاننا فعل أشياء هامة وعظيمة – تنعكس بعد ذلك، بالمناسبة، في نتائج عامة وشاملة. لأنه حين تنضم ماليزيا إلى الحملة على داعش، فإن ذلك يمكننا من توظيف الموارد والمصداقية في حربنا على الإرهاب. حين نتمتع بعلاقات قوية مع إندونيسيا، فإن ذلك يساعدنا عندما نتجه إلى باريس ونحاول التفاوض حول اتفاقية للمناخ، حين تكون بغية روسيا أو إحدى تلك الدول الأخرى هي أن تحرف مسار الاتفاقية بطريقة غير متعاونة.”

أوباما وأميركا اللاتينية:

استدل أوباما بعد ذلك بنفوذ أميركا المتزايد في أميركا اللاتينية – الذي قال إنه تزايد جزئيا بسبب تخلصه من أكبر عقبات المنطقة بإعادة العلاقات مع كوبا – على نجاح منهج علاقاته الخارجية المدروس وغير التهديدي

والمرتكز على الدبلوماسية. وقد فقدت حركة الـ ’ ألبا‘– مجموعة الحكومات الأميركية اللاتينية ذات التوجه المعادي للأميركوية – الكثير من قوتها أثناء وجوده في الرئاسة. قال لي، “عندما جئت إلى منصبي، في أول قمة حضرتها للأميركتين، كان هوغو تشافيز” – الديكتاتور الفنزويلي الراحل المعادي لأميركا – “ما يزال الشخصية الأبرز في الحوار. اتخذنا مبكرا قرارا استراتيجيا بأننا، بدلا من تضخيمه كعدو عملاق، سنعطي المشكلة حجمها المناسب ونقول،’ نحن لسنا راضين عما يحدث في فنزويلا، لكنه لا يهدد الولايات المتحدة.”.

قال أوباما أنه لتحقيق إعادة التوازن هذه، كان على الولايات المتحدة استيعاب الخطب اللاذعة والسباب الصادر عن العُجُز المخفقين أتباع كاسترو. استذكر أوباما، “عندما رأيت تشافيز، صافحته وأسمعني نقدا ماركسيا للعلاقة بين الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية. وكان على أن أجلس هناك وأستمع ساعة كاملة إلى أورتيجا” – دانيل أورتيجا، الرئيس اليساري الراديكالي لنيكاراجوا – “يلقي حديثا صاخبا يهاجم فيه الولايات المتحدة. لكن وجودنا هناك دون أخذ كل تلك الأشياء على محمل الجد – لأنها بالفعل لم تمثل تهديدا لنا” – ساعد على تحييد عداء المنطقة لأميركا.

أخبرت الرئيس أن إحجامه عن الرد على سخرية أعداء أميركا قد لا يكون مرضيا للمشاعر، وأخبرته أنني أود بين الحين والآخر لو يلوح لفلاديمير بوتين بإشارة بذيئة. وأضفت، لمعرفتي بمن يستمع إلي، أنه ارتداد عن التحضر. رد الرئيس بهدوء، “هو كذلك. وهذا ما يتمنونه.”

أوباما وبوتين:

وصف لي أوباما علاقة مع بوتين لا تنسجم مع التصورات السائدة. كان لدي انطباع بأن أوباما يعتبر بوتين سيئ الطبع ووحشيا وقصيرا. لكن أوباما أخبرني بأن بوتين ليس سيئ الطبع بالدرجة. “الحقيقة هي أن بوتين، في كل اجتماعاتنا، يحرص على أن يكون لطيفا وصريحا للغاية. اجتماعاتنا عملية جدا. وهو لا يدعني أنتظر ساعتين كما يفعل مع أولئك الآخرين.” وأضاف أوباما أن بوتين يرى أن علاقته بالولايات المتحدة أكثر أهمية مما يظنه الأميركيون. “هو مهتم باستمرار على أن يظهر بمظهر زميلنا وبمظهر المتعاون معنا، لأنه ليس غبيا تماما. هو يعلم أن الموقف العام لروسيا في العالم قد ضعف كثيرا. واعتداؤه على القرم أو محاولته لدعم الأسد لا تحوله فجأة إلى لاعب. أنت لا تراه هنا في أي من هذه الاجتماعات يساعد في صياغة أجندتها. وبهذا الشأن، فلا توجد قمة واحد لمجموعة العشرين ساهم الروس في تحديد أجندتها بخصوص أي من المسائل المهمة.”

يشير خصوم أوباما إلى مداهمة روسيا للقرم في مستهل عام 2014، وقرارها باستخدام القوة لدعم حكم تابعها بشار الأسد، كأدلة على أن عالم ما بعد الخط الأحمر لم يعد يخشى أميركا. لذلك ذكرت مسألة موثوقية الردع ثانية عندما تحدثت إلى الرئيس في الغرفة البيضاوية في أواخر يناير. قلت له، “هناك وجهة النظر تقول بأن فلاديمير بوتين شاهدك في سوريا وقال في نفسه، إنه منطقي جدا، إنه عقلاني جدا، ويفضل التقشف كثيرا. سأضيق عليه أكثر قليلا في أوكرانيا.”

لم يرق له عرضي للسؤال كثيرا. “اسمع، هذه النظرية سهلة النقض لدرجة أنني دائما أندهش كيف يحتج الناس بها. أنا لا أظن أن أحدا اعتبر جورج بوش عقلانيا أو حذرا بشكل مبالغ فيه في استخدامه للقوة العسكرية. وحسبما أتذكر، لأنه يبدو أن لا أحد في هذه المدينة يتذكر، فإن بوتين دخل جورجيا أثناء وجود بوش في السلطة، بالضبط بينما كنا نحن نرسل أكثر من مائة ألف جندي إلى العراق.” كان أوباما يشير إلى اعتداء بوتين عام 2008 على جورجيا – إحدى الجمهوريات السوفييتية السابقة – والذي قام به غالبا لذات الأسباب التي دفعته للاعتداء على أوكرانيا – لإبقاء جمهورية سوفييتية سابقة داخل مجال التأثير الروسي.

وقال إن “تصرف بوتين في أوكرانيا كان رد فعل على دولة تابعة كادت تفلت من قبضته. وقد ارتجل نوعا ما ليحافظ على سيطرته هناك. وقد فعل الشيء نفسه في سوريا، مقابل تكلفة كبيرة لمصلحة بلاده. وتصوُر أن روسيا الآن في موقف أقوى، في سوريا أو في أوكرانيا، عما كانت عليه قبل الهجوم على أوكرانيا أو قبل إرسال قوات عسكرية إلى سوريا، يمثل خطأ جوهريا في فهم طبيعة القوة في الشؤون الخارجية وفي العالم بشكل عام. القوة الحقيقية تعني قدرتك على الحصول على ما تريد دون اللجوء إلى العنف. روسيا كانت أقوى بكثير حين ظهرت أوكرانيا بمظهر الدولة مستقلة وكان الفساد في الوقت ذاته يمكنه من التأثير والحصول على ما يريد.”

نظرية أوباما بهذا الشأن بسيطة: أوكرانيا تقع في قلب المصالح الروسية، وهي ليست كذلك بالنسبة لأميركا؛ لذلك ستحظى روسيا دوما بقدرة تصعيدية أكبر هناك. “الواقع هو أن أوكرانيا، التي ليست عضوا في الناتو، ستكون عرضة للهيمنة العسكرية الروسية في كل الأحوال رغما عنا.”

سألت أوباما إن كان موقفه حيال أوكرانيا واقعيا أم قدريا؟ قال “أنه واقعي. ولكن هذا مثال على حالة توجب علينا أن نحدد مصالحنا الجوهرية بوضوح شديد، ونحدد ما نحن مستعدون للدخول في حرب لأجله. وفي النهاية، سيكون هناك دوما بعض الغموض.” ثم ذكر انتقادا يوجه إليه، ليقوم بعد ذلك بتفكيكه. “أعتقد أن أفضل ما يمكن أن يقال من قِبل من ينتقدون سياستي الخارجية هو أن الرئيس لا يستغل الغموض بما فيه الكفاية. ربما لا يظهر ردود فعل تدفع الناس ليقولوا حسنا، ربما يعتري هذا الرجل القليل من الجنون.” قلت له، “نهج نيكسون المجنون”:” أربِك وروِع أعداءك بجعلهم يظنون أن بإمكانك الإتيان بتصرفات غير عقلانية.

قال، “ولكن دعنا ندقق بنظرية نيكسون. أنزلنا عتادا في كامبوديا ولاوس أكثر منه في أوروبا في الحرب العالمية الثانية؛ ومع ذلك، انسحب نيكسون في النهاية وذهب كسينجر إلى باريس، ولم نخلف سوى الفوضى والإبادة والحكومات السلطوية التي خرجت، بمرور الوقت، من ذلك الجحيم أخيرا. حين أذهب لأزور تلك الدول، سأحاول التفكير في الكيفية التي نستطيع بها، اليوم، مساعدتهم في انتزاع القنابل التي ما زالت تنفجر تحت أقدام الأطفال الصغار. كيف ساعدت تلك الاستراتيجية على رعاية مصالحنا؟”

ولكن ماذا لو هدد بوتين بالتحرك ضد مولدوفا مثلا – وهي دولة سوفييتية سابقة ضعيفة كذلك؟ ألن يكون مفيدا أن يظن بوتين أن أوباما قد يغضب ويتصرف بطيش حيال ذلك؟

“ليست هناك أدلة في السياسة الخارجية الأميركية الحديثة على أن الناس يردون بهذا الشكل. الناس يردون حسب أولوياتهم، وإذا كانت المسألة بالغة الأهمية بالنسبة لأحدهم، وهي ليست مهما بالنسبة لنا، وهم يعلمون ذلك، ونحن نعلم ذلك. هناك وسائل للردع، لكن يتطلب ذلك أن تكون واضحا من البداية حول ما يستحق دخولك في حرب وما لا يستحق. والآن إن كان أحدهم في هذه المدينة يدّعي بأننا قد ندخل في حرب مع روسيا بسبب القرم وشرق أوكرانيا، فعليه أن يعلن ذلك بوضوح. تصور أن الكلام الخشن، أو أن التحرك العسكري غير وثيق الصلة بتلك المنطقة، سيؤثر بشكل ما على القرار الروسي أو الصيني هو تصور مغاير لكل الوقائع التي رأيناها في الخمسين سنة الأخيرة.”

ثم عاد أوباما ليقول بأن الإيمان بإمكانيات الصرامة المختَلَقة نابع من “خرافات” متعلقة بسياسة رونالد ريجان الخارجية. “مثلا إن نظرت إلى أزمة الرهائن في إيران، فهناك سرد يروجه بعض المرشحين الجمهوريين اليوم بأن الإيرانيين قرروا يوم انتخاب ريجان، لأنه بدا صارما، أنه’ من الأفضل لنا رد هؤلاء الرهائن. ‘ما حدث بالفعل هو أن مفاوضات مطولة عقدت مع الإيرانيين، ولأنهم أبغضوا كارتر بشدة – رغم أن المفاوضات كانت قد اكتملت – فإنهم أبقوا على الرهائن إلى يوم انتخاب ريجان. ولم يكن لوضعية جسد ريجان أو خطابه أو غير ذلك علاقة بإطلاق سراحهم. إن نظرت إلى تحركات ريجان العسكرية، لديك جرينادا – والتي يصعب القول بأنها عززت قدرتنا على التأثير في المجريات العالمية، رغم أنها كانت سياسة مفيدة له في الداخل الأميركي. لديك فضيحة إيران-كونترا، حين دعمنا مجموعات يمينية شبه مسلحة ولم نفعل شيئا لتحسين صورتنا في أميركا الوسطى، ولم تكن ناجحة أبدا.” وذكرني بأن عدو ريجان اللدود، دانييل أورتيجا، هو اليوم رئيس نيكاراجوا ولم يغير من آرائه.

أشار أوباما كذلك إلى قرار ريجان بسحب القوات الأميركية بشكل شبه فوري من لبنان بعد مقتل مائتين وواحد وأربعين جنديا في اعتداء حزب الله في 1983. وقال بتهكم، “يبدو أن كل هذه الأشياء ساعدتنا على بناء مصداقيتنا لدى الروس والصينيين،” لأن “هذا هو السرد الذي نسمعه. وأنا بالفعل أظن أن رونالد ريجان حقق نجاحا كبيرا في السياسة الخارجية، وهو تمييز الفرصة التي مثلها جورباتشوف والانخراط في دبلوماسية مكثفة – انتقدها بشدة بعض أولئك الذين يستخدمون رونالد ريجان الآن للترويج لفكرة أن علينا التحرك وإطلاق القنابل على الناس.”

تهديدات العشرية القادمة:

طلبت من الرئيس في حوار دار بيننا في أواخر يناير 2016، أن يصف لي أكثر التهديدات التي تقلقه وهو يُعِد، في الأشهر المقبلة، لتسليم السلطة لخلفه. قال إنه “حين أستطلع العشرين سنة القادمة، فإن التغير المناخي يقلقني بشدة بسبب تأثيره على كل المشاكل الأخرى التي نواجهها. إن بدأت ترى المزيد من الجفاف الحاد؛ والمزيد من المجاعات الشديدة؛ والمزيد من النزوح من شبه القارة الهندية والمناطق الساحلية بأفريقيا وآسيا؛ ومشاكل الندرة واللاجئين والفقر والمرض المستمرة – فإن هذا يزيد من سوء كل المشاكل الأخرى التي نواجهها. وهذا أكبر من مجرد المسائل الوجودية المتعلقة بكوكب يدخل في حالة من التغذية الراجعة السلبية.”

قال أيضا بأن الإرهاب مشكلة بعيدة المدى “حين تضاف إلى مشكلة الدول الفاشلة.”

أي الدول يعتقد بأنها تمثل التحدي الأكبر للولايات المتحدة في العقود القادمة؟ أجابني بأنه “من حيث العلاقات التقليدية بين الدول الكبرى، فإني أؤمن بأن علاقة الولايات المتحدة بالصين ستكون الأخطر. إن تفهمنا ذلك واستمرت الصين في صعود سلمي، سيكون لدينا شريك متنامي القدرات يشاركنا أعباء ومسؤوليات الحفاظ على نظام دولي. إن فشلت الصين؛ إن لم تستطع الحفاظ على مسار يرضي شعبها ولجأت للقومية كمبدأ حاكم؛ إن شعرت بالاستنزاف بحيث تتوقف عن تحمل أعباء دولة بحجمها في الحفاظ على النظام الدولي؛ إن نظرت للعالم فقط بصفته مجالات تأثير إقليمية – فلن نرى فقط احتمالية للصراع مع الصين، لكن سنواجه صعوبات أكبر في التعامل مع تلك التحديات الأخرى التي ستجد.”

ألمحت إلى أن الكثيرين يريدون من الرئيس أن يكون أكثر شدة في مواجهة الصينيين، خاصة في بحر الصين الجنوبي. رُوي عن هيلاري كلينتون مثلا قولها في الاجتماعات الخاصة، “لا أريد لأحفادي أن يعيشوا في عالم يهيمن عليه الصينيون.”

رد أوباما، “كنت دوما أقول بوضوح أن لدينا المزيد لنخشاه من صين مهددة وضعيفة عما إذا كانت الصين ناجحة وصاعدة. أعتقد أن علينا أن نكون حازمين حين تضر تصرفات الصين بالمصالح الدولية؛ وإن عاينت إدارتنا لمسألة بحر الصين الجنوبي، فإننا تمكنّا من تعبئة أغلب دول آسيا لعزل الصين بطرق فاجئت الصين، صراحة، وخدمت مصلحتنا في تقوية تحالفاتنا.”

قال بأن روسيا ضعيفة ومنفلتة تشكل خطرا كذلك، وإن لم يكن خطرا من الدرجة الأولى. “بخلاف الصين، فإنهم يعانون من مشاكل ديموغرافية وبنيوية اقتصادية تحتاج، ليس فقط إلى رؤية، ولكن لجيل آخر كي يتغلبوا عليها. والمسار الذي يتخذه بوتين لن يساعدهم في التغلب على تلك التحديات. ولكن في بيئة كتلك، فإن إبراز القوة العسكرية لإظهار العظمة يكون مغريا بشدة، وهذا ما ينزع إليه بوتين. لذلك فأنا لا أستخف بالمخاطر هناك.”

عاد أوباما إلى نقطة كررها على مرارا، ويتمنى لو تستوعبها البلاد، والرئيس القادم: “أتعلم. ينظر الجميع إلى فكرة أن الدبلوماسية والتكنوقراط والبيروقراطيين يساهمون بشكل ما في الحفاظ على أمن وأمان الولايات المتحدة ويقولون لا، هذا هراء. لكنه صحيح. وهو بالمناسبة، الجانب من القوة الأميركية الذي يقدره الآخرون في العالم بالإجماع. عندما نرسل قوات عسكرية، فدائما ما يكون هناك شعور لدى الدول الأخرى بأن ثمة انتهاك للسيادة، ولو كان ضروريا.”

سوريا مرة أخرى:

خلال السنة الماضية، تردد جون كيري بانتظام على البيت الأبيض ليطلب من أوباما انتهاك السيادة السورية. عدة مرات طلب كيري من أوباما قصف أهداف نظامية محددة في جنح الظلام “ليبعث برسالة” إلى النظام. قال كيري بأن الهدف لن يكون إسقاط الأسد ولكن تشجيعه، وإيران وروسيا، على التفاوض حول السلام. عندما كانت لتحالف الأسد الغلبة في على أرض المعركة، كما هو الوضع في هذه الأشهر الأخيرة، فإنه لم يبد استعدادا ليأخذ على محمل الجد مناشدات كيري للتفاوض بحسن نية. ورجح كيري أن بضعة صواريخ كروز قد تزيد من تركيز الأسد وداعميه. وقد أخبرني أحد المسؤولين الكبار في الإدارة أن “كيري يبدو كالمغفل مع الروس، لأنه لا يملك ما يمكنه من الضغط والتأثير.” وأخبر كيري أوباما بأن الولايات المتحدة ليس عليها تبني الاعتداءات – لكن الأسد سيعلم يقينا مصدرها.

عاند أوباما بإصرار مطالبات كيري، ويبدو أنه قد ضاق ذرعا بالضغوط التي يمارسها عليه. عندما أعطاه كيري مؤخرا ملخصا بخطوات جديدة للضغط على الأسد، قال أوباما، “مقترح آخر؟” أخبرني المسؤولون بالإدارة أن بايدن نائب الرئيس قد ضاق ذرعا كذلك بمطالبات كيري بالتحرك. وقد قال له سرا، “جون، أتذكر فيتنام؟ أتذكر كيف بدأت؟” في اجتماع لمجلس الأمن القومي في البنتاجون في ديسمبر، أعلن أوباما أن وزير الدفاع هو الوحيد المخول بتقديم مقترحات للتحرك العسكري إليه. فهم المسؤولون بالبنتاجون أن إعلان أوباما كان موجها بشكل غير مباشر إلى كيري.

في أحد أيام يناير، في مكتب كيري بوزارة الخارجية، ذكرت له الواقع الجلي: إنه أكثر ميلا من أوباما إلى التحرك. اعترف كيري، “أنا كذلك، ربما. اسمع، الكلمة الأخيرة في هذه الأمور له… أنا أظن أننا نتعايش في علاقة تعاونية، أو تآزرية، أو أيا ما تسميها، وهي تعمل بفعالية كبيرة. لأنني أدخل إليها بالميل نحو’ لنحاول فعل هذا، لنحاول فعل ذلك، لننجز هذا.

أثار حذر أوباما حيال سوريا استياء أولئك في الإدارة الذين رأوا خلال السنوات الأربع الماضية فرصا مختلفة لقلب الموازين ضد الأسد. ظن البعض أن قرار بوتين بالقتال نيابة عن الأسد سيبعث أوباما على تكثيف الجهود الأميركية لمساعدة الثوار المعارضين للنظام. لكن أوباما، على الأقل حتى كتابة هذا المقال، لم يكن ليغير من رأيه، جزئيا لأنه لا يرى أن من شأنه منع روسيا من ارتكاب ما رآه خطأ جسيما. وقد أخبرني أنهم “مرهقون وينزفون. وقد انكمش اقتصادهم بشدة لثلاث سنوات متتالية.”

مؤخرا في اجتماعات مجلس الأمن القومي، وُصفت استراتيجية أوباما أحيانا بـ “طريقة توم سوير.” رأى أوباما أن بوتين إن أراد استنفاد موارد نظامه في طلاء الجدار في سوريا، فعلى الولايات المتحدة أن تفسح له المجال. ولكن في أواخر الشتاء، حين بدى أن روسيا كانت تحرز تقدما في حملتها لترسيخ حكم الأسد، بدأ البيت الأبيض يناقش طرق زيادة الدعم للثوار، رغم أن مشاعر الرئيس المختلطة حيال التدخل الأوسع بقيت على حالها. في حواراتي مع المسؤولين بمجلس الأمن القومي خلال الشهرين الماضيين، لمست توجسا من أن حادثا ما – اعتداء آخر على غرار سان برناردينو على سبيل المثال – سيدفع الولايات المتحدة إلى تحرك جديد ومباشر في سوريا. بالنسبة لأوباما، سيكون ذلك كابوسا.

أخبرني أوباما بأنه لو لم يكن هناك عراق ولا أفغانستان ولا ليبيا، فربما يكون أكثر ميلا للمخاطرة في سوريا. “الرئيس لا يتخذ قراراته في فراغ. لا يملك بين يديه صفحة بيضاء. أعتقد أن أي رئيس متبصر سيدرك أنه بعد أكثر من عقد من الحرب، والتزامات تتطلب حتى يومنا هذا موارد وتركيزا كبيرين في أفغانستان، ومع تجربتنا في العراق، ومع الضغوط التي فرضتها على جيشنا – أي رئيس متبصر سيتردد بشأن التزام جديد داخل ذات المنطقة من العالم وفي وجود ذات الأنماط والقوى المحركة وذات الاحتمالية بنتيجة غير مرضية.”

سألته إن كان شديد الحذر؟ أجابني قائلا، “لا. هل أظن أننا إن لم نكن قد هاجمنا العراق وإن لم نكن ما نزال متورطين في إرسال مليارات الدولارات وعدد من المدربين والمستشارين العسكريين إلى أفغانستان، هل يحتمل أني كنت حينها سأفكر في تحمل مخاطر إضافية في محاولة التأثير على الوضع السوري؟ لا أعلم.” لكن ما أثار استغرابي هو أنه على الرغم من أن وزير خارجيته يحذر من نهاية أوروبية مروعة تتسبب بها سوريا، فإن أوباما لم يرفع الحرب الأهلية في البلاد إلى مستوى التهديد الأمني من الدرجة الأولى.

يقدم خصوم أوباما تردده في الانضمام إلى المعركة من أجل سوريا دليلا على شدة سذاجته. ويقدمون قراره في 2013 بعدم إطلاق الصواريخ دليلا على أنه مخادع. يزعج هذا النقد الرئيس. يقول إن “أحدا لم يعد يتذكر بن لادن. لا أحد يتحدث عن إرسالي لثلاثين ألف جندي إضافي إلى أفغانستان.” يقول إن أزمة الخط الأحمر “هي رأس الهرم المقلوب التي تبنى عليها كل النظريات الأخرى.”

ظهيرة يوم في أواخر يناير، ذكرت للرئيس وأنا أغادر الغرفة البيضاوية جزءا من مقابلة في 2012 أخبرني فيها أنه لن يسمح لإيران بتملك سلاح نووي. “قلت لي،’ أنا رئيس الولايات المتحدة. أنا لا أحتال”. قال لي: “لا أفعل ذلك.” بعد فترة وجيزة من تلك المقابلة قبل أربع سنوات، سألني إيهود باراك – الذي كان حينها وزير الدفاع الإسرائيلي – إن كنت أظن وعد أوباما بعدم التحايل محايلة في ذاته. أجبته بأنه يصعب على تخيل قائد الولايات المتحدة يتحايل بشأن شيء بتلك الأهمية. لكن سؤال باراك لازمني. فسألت الرئيس ونحن واقفان في مدخل الغرفة: “هل كانت محايلة؟” أخبرته أن القليلين الآن من يصدقون أنه كان سيهاجم إيران بالفعل لمنعها من الحصول على سلاح نووي.

قال على نحو غامض، “هذا مثير للاهتمام.” بدأت بالحديث: “هل–”. فقاطعني قائلا، “كنت بالفعل سأفعل،” بمعنى أنه كان سيضرب المنشآت النووية الإيرانية. “إن رأيتهم يندفعون.” وأضاف، “الآن، الجدل الذي لا يمكن حسمه، لأنه موقعيّ تماما، كان حول ما يعنيه حصولهم” على القنبلة. “كان هذا الجدال الدائر بيني وبين بيبي نتنياهو.” أراد نتنياهو من أوباما أن يمنع إيران من تحصيل القدرة على بناء قنبلة، وليس فقط من امتلاك قنبلة.

قال الرئيس، “كنتَ على حق حين صدقت ما قلت.” ثم عبر عن وجهة نظره الأهم. “هذا كان مصنفا كمصلحة أميركية.” ذكرني ذلك حينها بشيء قاله لي ديريك شوليت، المسؤول السابق في مجلس الأمن القومي: “أوباما مقامر وليس مخادعا.” وقد راهن الرئيس على الكثير. في مايو الماضي حين كان يحاول تمرير الاتفاق النووي الإيراني خلال الكونجرس، أخبرته أن الاتفاق يشعرني بالتوتر. كان رده معبرا. “انظر، سأكون هنا بعد عشرين سنة، بإذن الله. إن حصلت إيران على سلاح نووي، فإن اسمي سيكون على ذلك. أظن من العدل أن أقول بأنه، إضافة إلى مصالح أمننا القومي العميقة، فإن لدي مصلحة شخصية في إغلاق هذا الباب.”

في شأن النظام السوري وداعميه الإيرانيين والروسيين، فإن أوباما قد راهن، ويبدو على استعداد ليراهن المزيد، على أن تكلفة تدخل أميركي مباشر ستكون أكبر من تكلفة عدم التدخل. وهو مطمئن بما فيه الكفاية للتعايش مع مواطن الغموض الخطرة المحيطة بقراراته. ورغم أنه في خطاب فوزه بجائزة نوبل للسلام في 2009 قد قال، “القعود عن العمل يمزق ضمائرنا وقد يؤدي لتدخل أكثر تكلفة فيما بعد،” فإنه اليوم لا تحركه آراء التدخلين الإنسانيين – على الأقل ليس في العلن. هو بلا شك يعلم أن سامانثا باور أخرى في الجيل القادم ستكتب بشكل انتقادي عن رفضه لفعل المزيد لمنع المجازر المستمرة في سوريا. (وحتى سامانثا باور ذاتها ستواجه انتقاد سامانثا باور القادمة.) يؤمن أوباما وهو يدنو من نهاية رئاسته أنه قد أسدى معروفا كبيرا لبلاده بإبقائها خارج الدوامة – وأعتقد أنه يؤمن بأن المؤرخين سيحكمون عليه يوما ما بالحكمة لفعل ذلك.

يقول المسؤولون داخل الجناح الغربي أن أوباما، كرئيس ورث عن سلفه أزمة مالية وحربين نشطتين، حريص على أن “يعقد النهايات السائبة” قبل تسليمها لمن يخلفه. لهذا السبب، فالحرب ضد داعش – الجماعة التي يعتبرها تهديدها مباشرا، وإن لم يكن وجوديا، للولايات المتحدة – هي أولويته الملحّة في الفترة المتبقية من رئاسته؛ وقتل خليفة الدولة الإسلامية المزعوم، أبو بكر البغدادي، هو أحد الأهداف الرئيسية لجهاز الأمن القومي الأميركي في السنة الأخيرة لأوباما.

داعش بالطبع خرجت إلى الوجود، ولو جزئيا، تحت رعاية نظام الأسد. ومع ذلك فبحسب معايير أوباما الصارمة، لا يرقى استمرار حكم الأسد حتى الآن إلى مستوى التهديد المباشر للأمن القومي الأميركي. هذا أكثر الجوانب إثارة للجدل في نهج الرئيس، وسيكون مثيرا للجدل لسنوات قادمة – المعيار الذي استخدمه لتحديد ما يشكل بالضبط تهديدا مباشرا.

لقد توصل أوباما إلى عدد من الاستنتاجات المترابطة عن العالم وعن دور الولايات المتحدة فيه. الاستنتاج الأول هو أن الشرق الأوسط لم يعد بالغ الأهمية بالنسبة للمصالح الأميركية. الثاني هو أن الشرق الأوسط وإن

كان أكثر أهمية من غيره، فلن يكون أمام أي رئيس أميركي الكثير ليفعله ليحيله مكانا أفضل. الثالث هو أن النزعة الأميركية الفطرية لإصلاح المشاكل التي تظهر أشد ما تظهر في الشرق الأوسط تؤدي ولا بد إلى الحروب، ومقتل الجنود الأميركان، وللاستنزاف اللاحق لمصداقية الولايات المتحدة وقوتها. الاستنتاج الرابع هو أن العالم لا يحتمل رؤية القوة الأميركية تتضاءل. فكما وجد قادة بعض حلفاء أميركا قيادة أوباما قاصرة عن الوفاء بمسؤولياته، فهو ذاته قد وجد القيادة العالمية غير كفؤ: شركاء عالميون يفتقدون غالبا للرؤية والاستعداد لبذل رأس المال السياسي لتحقيق أهداف شاملة وتقدمية؛ وخصوم ليسوا – في نظره – بدرجة عقلانيته. يؤمن أوباما بأن هناك جوانب للتاريخ، وأن خصوم الولايات المتحدة – وبعض حلفائها المفترضين – قد وقفوا في الجانب الخطأ، حيث لا تزال القبلية والأصولية والطائفية والنزعات العسكرية مزدهرة. وما لا يفهمونه هو أن التاريخ ينعطف في اتجاهه هو.

خلاصة عقيدة أوباما:

أخبرني بن رودز بأن “المقولة الأساسية هي أن الرئيس، بمنعه الولايات المتحدة من إقحام نفسها في أزمات الشرق الأوسط، يعجل بنهايتنا. هذا ما تؤمن به مؤسسة السياسة الخارجية. لكن الرئيس يؤمن بالرأي المقابل، وهو أن إرهاق أنفسنا في الشرق الأوسط سيؤدي في النهاية إلى تأذي اقتصادنا، وتأذي قدرتنا على البحث عن فرص أخرى والتعامل مع تحديات أخرى، والأهم من ذلك تعريض حياة الجنود الأميركان للخطر لأسباب ليست من صميم مصلحة الأمن القومي الأميركي.”

إن كنت من مؤيدي الرئيس، فإن استراتيجيته تبدو وجيهة: عظِم مخاطرتك في تلك الأجزاء من العالم حيث النجاح ممكن، وقلل من تعرض الولايات المتحدة لبقية المخاطر. ولكن خصومه يرون أن المشاكل كتلك الموجودة بالشرق الأوسط لا تحل نفسها – وأنها، دون التدخل الأميركي، تكبر وتنتشر.

في هذه اللحظة، تشكل سوريا – حيث يبدو أن التاريخ ينعطف نحو المزيد من الفوضى – التحدي الأكبر لرؤية الرئيس للعالم.

جورج بوش كان هو الآخر مقامرا وليس مخادعا. سيذكره التاريخ بقسوة بسبب ما فعله في الشرق الأوسط. باراك أوباما يقامر أن التاريخ سيحكم عليه حكما حسنا بسبب ما لم يفعله.

 

ترجمة: المعهد المصري للدراسات



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023