الهوجة في حد ذاتها تطرح سؤالاً جوهرياً يكشف عن ما يسيطر على أذهاننا من مدركات مقيدة ومعجزة!!
والسؤال هو: أليس من المتوقع أن يقال وزير مهما بلغت سطوته ولماذا لا تعرف تقاليدنا السياسية الإقالة أو حتى الاستقالة؟ وهل يرتبط وزير معين بسبب معين لإقالته أم الأسباب مفتوحة؟ أليس للنظم وللحالات الانقلابية إفرازتها “اللئيمة”؟
إن هذا السؤال المركب يقع في خلفية الهوجة، وتعددت الإجابات عليه بوعي أو بدون وعي به في حد ذاته. وفي خضم هذه الهوجة “السريعة الشديدة” وجدتني أسجل ما يلي:
(1)
قل الزند فجأة ولم هوجة إقالة الزند أبلغ تعبير عن التوظيف الانقلابي للديني خدمة للسياسي. فلم يرفعوا غطاء الحماية عنه بسبب “الدين” ولكن بسبب السياسة الصراعية التي يمارسها الانقلابيون جميعا والتي تتلاعب بالدين وتوظفه ليس في مواجهة العوام فقط أو مواجهة مقاومي الانقلاب ولكن في مواجهة بعضهم البعض أي في مواجهة أعضاء التحالف الانقلابي بتعدد مستوياتهم وتعدد توجهاتهم…وإقالة لوزير ركين في التخطيط للانقلاب، وتتعدد الأدوات: أحكام بازدراء الدين ضد أفجاج العلمانيين،وممن وصفوا بالتدين وللأسف من بين زمرة القضاة السابقين، فالتحالف الانقلابي جمع الأضداد ولذا فهو ينهار.
لأن من طبيعة الانقلابيين أن يأكلوا بعضهم البعض. كما أن جميعهم وعلى رأسهم الزند تلاعبوا بالدين في “الصراع السياسي” والانقلاب على الثورة والشرعية. فذوقوا جميعا من نفس السم (التلاعب بالإسلام) الذي وظفتموه أنتم وتدعون أنكم فقط العالمين بالإسلام الصحيح، وأن غيركم يشوهونه ويتلاعبون به في السياسة… سبحان الله العظيم. يمكرون ويمكر الله وهو خير الماكرين.
(2)
الرسول الكريم (صلى هللا عليه وسلم) رسول العدل والحرية والرحمة، كان رسول الله، ليفرح لإقالة الزند ومحاكمته وعقابه على ما ارتكبه من تدليس ومن تشهير ومن ظلم ومن دعوات وممارسات إقصائية استئصالية وحض على الكراهية. كان رسول الله ليفرح لذلك أكثر مما كان ليفرح إلقالة الزند بذريعة تطاوله عليه أفضل الصلاة والسلام.ولكن رأس النظام الانقلابي، الذي أخلص الزند وتفانى معه في التمهيد للثورة المضادة والانقلاب على الشرعية والتأسيس لصورته “الزعيم الجديد”، يوافق على إقالته وبسرعة فائقة بذريعة التطاول على الرسول الكريم في برنامج تلفزيوني، وهو الذي سبق ونال في برامج أخرى- من كل القيم التي جاء محمد (صلى الله عليه وسلم) للدعوة إليها في كل أمور الدنيا، بما فيها “السياسة” للقيام على الأمر بما يصلحه وليس بما يفسده.
كان الزند يستحق الإقالة منذ زمن إهانته كل القيم الإسلامية والإنسانية والعالمية، وهو يدعي – للأسف- حماية الدولة والقانون والقضاء والمدنية…، كان الزند يستحق الإقالة لمسئوليته عن محنة القضاء، كما قال شيخ القضاة المستشار أحمد مكي وزير العدل الأسبق في وزارة د.هشام قنديل) وعارض الزند بقوة تعيينه واتهمه بالأخونة(. فليست محنة الزند الآن هي التي يجب أن تشغلنا– كما قال مكي- ولكن محنة القضاء. إن محنة العدالة في مصر ومحنة الشرعية، وهي محنة ستظل قائمة حتى بعد إقالة الزند، ألن النظام الانقلابي، لم يقل الزند، وهو الخادم المطيع الذي جيش من جيش من القضاة خدمة للثورة المضادة والانقلاب، لم يقله انتصارا للعدل أو انتصارا للدين. فكم أساء النظام الانقلابي ورئيسه للعدل وللدين، ولكنه أقاله لأسباب أخرى من طبيعة انقلابية.
(3)
وحيث إن إقالة الزند لابد أن تكون أصابت “الحلف الانقلابي” بالارتباك والمفاجأة والتخبط في إعلان المواقف إذن أيها الانقلابيون على اختلافكم اسمعوا الآتي:
لا يفرح المتدينون منكم لإقالة زعيمكم السيسي لأحد أذنابه انتصارا للدين اعتقادا منكم أن “السيسي كما أذاع ونشر هو حامي الدين، ومن ناحية أخرى لا يغضب بعضكم من إقالته على أساس أن ما وقع للزند هو زلة لسان تغتفر، وذلك جريا مع الفتوى الذي سارعت بها بعض العمائم الانقلابية دعما للزند ورفع الحرج عنه قبل إقالته، وذلك بإدعاء أنه رجل متدين وأن ما جاء منه زلة لسان، بادر الزند سريع بالاعتذار عنها أو تقديم العديد من المبررات. وذلك في نفس وقت فشل تعبئة نادي القضاة للضغطعلى الحكومة لعدم إجباره على الاستقالة.
وفي المقابل لابد أن علمانيي الانقلاب الأفجاج، الذين اعتقدوا أن الانقلاب فرصة جديدة لإنجاز ما تم الفشل فيه عبر عقود من نظام يوليو 52، أي علمنة مصر دولة ومجتمعا، لابد أنكم الآن منزعجين مرة أخرى من توظيف السيسي للدين في إقالة الزند. ولقد سبق لكم وزايدتم على تراخي الحكومة والدولة مع الأزهر وأدنتم أحكام القضاء ضد ما تسمونه “حرية رأي” وهي ليست إلا فوضى رأي بالحدود أو ضابط من قيم أو تقاليد أو ثقافة أو دين في مصر.
فعن أي تدين تتحدثون أيها الانقلابيين المتدينين أو العلمانيين أو العمائم الانقلابية”؟ إن الإسلام ليس طقوسا وعبادة لخالص فردي، ولكن الإسلام قيم ومبادئ في قلب الشريعة حماية للإنسان ورحمة به ولو كان خصما ومعارضا. ومفهوم الحرية في الإسلام ليس قيد للرأي أو حجبا للرأي والإبداع لكن حماية له ولدوره في خدمة الإنسان والمجتمع وتنميته وليس إهداره في السوء والفحش من القول والفعل باسم الحرية.
والسياسة في الإسلام هي سياسة ذات قيم وأخلاقروليست سياسة قذرة حزبية صراعية. فحتى الصراع أي التدافع بالمعنى الإسلامي، له قيمه وقواعده التي لم يراعيها أو يحترمها الانقلابيون وعلى رأسهم الزند، رئيسا لنادي القضاة أو وزيرا.
(4)
أيها المدافعون عن الحرية والعدالة والشرعية مقاومي الانقلاب افرحوا وتذكروا سنن الله ولكن احذروا وتدبروا…. افرحوا لإقالته على هذا النحو الذي يبين انطباق سنة الله عليه “عقاب الله للظالمين”، يكيدون ويكيد الله، يهدمون بيوتهم بأيديهم… افرحوا لأنه يتأكد بهذه الإقالة استمرار تصدع التحالف الانقلابي فهم يأكلون بعضهم بعض (والأمثلة السابقة عديدة سبق وسجلت دلالتها في حينه طوال عامين)، حتى أوشك التحالف على الانهيار على رأس زعيمه ومحركه بل ومؤسسه افرحوا لسقوط “الفرعون الأصغر” بعد أن ظن من فرط استعلائه بقوته، أنه فوق أية مساءلة فازداد استعلاءا على كل المتعارف عليه من سلوك “الوزراء” وخاصة وزراء العدل. هذا بفرض أن وزراء الانقلاب هم وزراء حقا، ولا أدل على عكس ذلك من ترهل أدائهم الاقتصادي مع النجاح في زيادة القمع والتنكيل.
ولكن احذروا فلم يعاقب الزند بالطبع لذلة لسان أو لتطاول على محمد (صلى هللا عليه وسلم) ولكنهم رفعوا غطاء الحماية عنه، مثلما فعلوا مع أذرع انقلابية أخرى، فإقالة الزند تحمل رسالة عامة. ولكن لماذا رفعوا الحماية الآن؟ هل سيفتحون ملفات الزند القديمة ولماذا؟ بعبارة أخرى، لا يجب أن يكفينا الفرح والحمد لله بأن الله أنزل عقابه عليه، ولو بأقل ما يستحق حتى الآن. فالإقالة غير كافية، فإن كانت إقالته، كما قال المستشار أحمد سليمان وزير العدل الأسبق في وزارة د.هشام قنديل –آية من آيات هللا. ولكن لابد أن ننتبه للجانب الآخر من الموضوع “الأسباب”، وخير من عبرت عن جانب منها وبوضوح شديد وبإيجاز–ليلة إقالته- لميس الحديدي فلقد ختمت الفقرة الإعلامية، وبلغة تأكيدية بما يلي:
· ليس السبب ازدراء النبي
· ولكن الصوت العالي وفائض القوة يسببون القلق
· تصريحات سابقة للزند جعلته عبئا على الإدارة السياسية
·إن الإقالة تفكيك لشبكة مصالح
(5)
لا تفرحوا ولا تشمتوا فقط ولكن احذروا وتدبروا في الأسباب الحقيقية لإلقالة على هذا النحو:
إن رأس النظام الانقلابي يحاول أن يبعد الأنظار عنه ويلقي بأحمال السوء كلها على خدمه السابقين الذين يحركهم أو يبدو أنهم بدأوا يتحركون بمفردهم بعيد هذا الرأس، في وقت يتزايد فيه أمران: من ناحية وضوح صراع أجهزة سيادية على بوصلة مصر، ولقد تعددت المؤشرات والأدلة مؤخر على هذا الصراع (اتهام الداخلية لحماس واستضافة قادة المخابرات لهم… مسرحية توفيق عكاشة، من حركه ومن عاقبه؟). ومن ناحية أخرى يزداد وضوح الضغوط الخارجية ضد انتهاكات النظام لحقوق اإلنسان وخاصة بعد حادثة الطالب الإيطالي.
ناهيك بالطبع من ناحية ثالثة عن إخفاقات وعود السيسي الاقتصادية للمصريين والتردي في الوضع الاقتصادي الشامل على نحو دفع بالكثيرين –من حلفاء 6/30- للدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرةوإيجاد حلول للأزمة السياسية المستفحلة في مصر.
بعبارة أخرى، ولتأكيد نفس التحذير والدعوة للتدبر: فإن تداعي مشاهد الجدالات العقيمة حول توفيق عكاشة والزند ومرتضى منصور وأحمد ناجي ومن قبلها الكثير من المشاهد المناظرة، إلى جانب مشاهد الأصوات المعارضة الناقدة للسيسي بلا مواربة ولا التواء، ليست إلا مشاهد تستنزف الطاقة بعيدا عن أصل وجوهر المشكلة من ناحية وتعطي انطباعا ولو واهيا من من ناحية أخرى أن هناك حياة سياسية وأن هناك معارضة. فهذه المشاهد الزائفة الممجوجة ليست إلا أنابيب لتنفيث الغضب المتنامي داخلًّيا ولتحسين الصورة الانقلابية في الخارج.
ففي حين تزداد الأقاويل والتوقعات حول ما يسمى “إعداد البديل للسيسي”، فإن السيسي وأذرعه الباقية –التي لم يأكل بعضها بعضا بعد– تعيد تموضعها وتتمحور مثلما تتمحور الفيروسات التي اكتسبت المناعة ضد الأدوية، لتعيد الهجوم على نحو أكثر شراسة وبشكل جديد. فلا يتخلى نظام انقلابي بسرعة وفجأة عن أحد أركانه مثل الزند إلا إذا كان المكسب في نظره أكبر من الخسارة، وحتى ولو تم الأمر بطريقة “غير دستورية” ومع وزير للعدل.
فلا أدل على ما أقول عاليا إلا أن إقالة وزير العدل، الذي لا تمت ممارساته -قبل وبعد تعيينه- للعدل والقانون والحرية والنزاهة بصلة…
أفرزت أطروحات عن “عدم دستورية إقالته وفق 147 ،146 من الدستور االنقالبي. والفقهاءالدستوريون الذين تصدوا لهذا رفقاء درب الزند في الانقلاب على ثورة 1/25 أو رفقائه في الانقلاب على الشرعية، تذكروا الآن الدستور. ويتحدثون عن ضرورة عرض إقالته على البرلمان ناهيك عن ضرورة صدورها ابتداء من رئيس الجمهورية وليس رئيس الحكومة. والعجيب أن حديثهم يقع في تناقض مزدوج مقيت لأن الغرض منه ليس إلا مساندة في قفاز ناعم لرفيق سابق في الانقلاب على الشرعية الرئاسية والدستورية السابقة. فمن ناحية كيف إلقالة وزير – سواء صدرت من رئيس دولة أو حكومة- تعرض على برلمان ولم يتم من قبل عرض تشكيل الحكومة القائمة عليه فور انعقاده؟!
ولم يطالب –في حينه- هؤالء الفقهاء بذلك بذريعة أن البرلمان كان يصدق على قوانين “السيسي”وكان يعد لائحة جديدة. أليس هذا في الأصل وضعا غير دستوري لم ينبه إليه أحد أوسكتوا عنه! واقالة الزند “غير الدستورية” ليست إلا فرعا من هذا الأصل (هل استمرار الحكومة منذ انعقاد البرلمان بدون موافقته عليها دستوري؟). ومن ناحية أخرى: يرفضون “تعديل الدستور” لأنه يجب أن يتم تطبيقه أولا لأنه غير مطبق حتى الآن ولأن للتعديل شروط ومتطلبات. إذن كيف تكون إقالة الزند غير دستورية والدستور أصلاً غير مطبق؟ ألم يكن من الأجدر بكم أيها الفقهاء – احتراما لانفسكم- أن تسابقوا من قبل برفض عدم تطبيق الدستور وانتهاكه، والذي كان الزند وراءه؟ فلماذا الآن تتذكرون “عدم الدستورية”!!
ولم تتذكروا ممارسات الزند ضد الحريات وضد مقاومي الانقلاب واكتفيتم بالتذكرة بأسلوبه الفج وآرائه التمييزية الاستعلائية كسبب لإقالته، فأين محنة القضاء والعدالة في مصر أيها الفقهاء الدستوريين، أم أنعواقبها لا تهمكم طالما أنها تطول غير الانقلابيين فقط؟!
خلاصة القول:
ألا نتدبر؟ ألا نكف عن مجرد رد الفعل؟ ألم نصل لرؤية استراتيجية جامعة عن كيفية إنقاذ وطن وليس مجرد فضح النظام الانقلابي الذي سرق الثورة والوطن والدولة ومازال يقاوم السقوط…!