في مقال سابق بنفس العنوان تحدثت فيه بشكل مختصر عن أهم ثغرات التأسيس الأول والثاني للإخوان المسلمين، والتي تسببت لاحقا في قدر كبير من الارتباك في لحظات مفصلية عندما انتقلت الجماعة بإرادتها أو رغما عنها إلى ما تسميه أدبيات الإمام المؤسس:”مرحلة التنفيذ”. ففي المرتين تشابهت محنة الجماعة، وتشابهت الملامح الرئيسة لأزمتها، سواء أزمتها مع الدولة أو أزمتها الداخلية.
في التأسيس الأول تجمد مشروع الإمام البنا عمليا بعد سنوات من استشهاده، وبعد تجربة مريرة خاضتها الجماعة في غيابه، وتفككت البنية التنظيمية الضخمة التي أسسها، فلم يبق منها سوى ذكرى تتردد في صدور مئات قليلة من الأسرى المنسيين في أقبية السجون آنذاك. عدم وضع الإمام رحمه الله لخارطة طريق واضحة تجيب على أسئلة مرحلة التنفيذ في مشروعه تسبب بالقدر الأكبر في حالة التشتت بعد استشهاده كما أشرت في المقال السابق، باعتبار تلك كانت الثغرة الرئيسة في مشروع الإمام رحمه الله، إلا إنها بالتأكيد لم تكن الوحيدة، فمثلا اختيار الإمام البنا الفقهي في مسألة اعتبار الشورى مُعلمة للإمام وليست مُلزمة له، ترك أثرا في بنية الجماعة التي تمحورت بقدر كبير حول الشخصية الفذة والملهمة للإمام الشهيد. في بناء نظريته السياسية أيضا كان يرى منح “الإمام” حق التصرف في الأمة وإلزامها باجتهاده، ليس فقط فيما لم يرد فيه نص من القرآن والسنة، بل أيضا إلزامها باجتهاده فيما وردت فيه النصوص غير قطعية الدلالة وتحتمل وجوها عدة للتأويل والتفسير، وفي ذلك غالبية القضايا الدنيوية والشرعية!، حسبما ذكره في الأصل الخامس من الأصول العشرين: “ورأى الإمام ونائبه معمول به فيما لا نص فيه، وفيما يحتمل وجوها عدة، وفي المصالح المرسلة”!، وبالتأكيد فالجدل الفقهي كبير حول هذه القضية، وهذا الرأي محل نقد واسع لأن فيه تغليب للإمام على الأمة على عكس ما يجب أن يكون.
وما يعنينا في سياق المقال هو الإشارة فقط لانعكاس هذا الخيار الفقهي على تصرف الإمام الشهيد في الجماعة نفسها، وهو ما جعل بعضا من تصرفاته وخططه لم تكن معروفة لمن حوله بشكل مؤسسي، فضلا عن أحدا ممن حوله لم يكن يحظى بذات المكانة عند عموم الجماعة، مما أدى لاختلالات جمة في بنيتها التنظيمية عقب استشهاده.
ثم في التأسيس الثاني لم يكن ثم خطة مشروع مكتملة بالمعنى الحقيقي لكلمة مشروع، غير أن هؤلاء الخارجين من محنة السجون قد وجدوا مجتمعا جديدا عليهم، جرَفت ثقافته وتدينه سنوات التغريب في غياب الدعوة، وأصابته هزيمة النكسة بمزيد من التخبط والحيرة، فقرروا العمل لاستعادة أجواء الدعوة المفقودة وترميم تدين المجتمع، وقد نجحوا في ذلك إلى حد مبهر في الحقيقة.
لكنّ الشعور بالغربة عن المجتمع الجديد ترك أيضا آثارا سلبية في بنية الجماعة الجديدة، كما أن هذا الحنين الممزوج بالألم من إخفاق التجربة الأولى كان له أبلغ الأثر في انخفاض سقف الطموح العملي للتجربة الثانية، وتعاملها الحذر مع الدولة، غير أن الثورة هى التي حملتها حملا إلى سدة الحكم وإلى مساحات جديدة من العمل لم تكن قد تهيأت لها الجماعة. المتفحص في عقل الجماعة قبل الثورة يمكنه الجزم بأنها لم تكن لديها الجرأة مطلقا على المبادرة باتخاذ تلك الخطوات ولم تكن في جدول أعمالها لعقود قادمة، إن كان هناك جدول أعمال محدد أصلا!.
أورثت إخفاقات التجربة الأولى أيضا شيوخ التأسيس الثاني قناعة ما بأن الشعوب لا تصلح للمراهنة عليها، ولم تفكر إن كانت الشعوب لا تصلح حقا للمراهنة عليها أم أن الجماعة هي التي لم تستطع قيادة الشعوب بحقها. ستؤثر تلك القناعة وذلك التوجس لاحقا على تضييع الجماعة لفرص عدة في مسيرتها، سيؤثر أيضا على تأخير قرارها باللحاق بالثورة، وسيؤثر على علاقتها الحذرة بالثورة وتخوفها الباطن منها وترددها بين الثورة ومنهجية الإصلاح التدريجي لمؤسسات الدولة.
في سياق إقليمي مضطرب وحالة شديدة السيولة والارتباك تقف الجماعة الآن أمام تحديات شديدة الصعوبة، أظهرت فيها مدى قدرتها على الصمود والتمسك بمشروعها، وعجزها في المقابل عن إنجاز المشروع و إحرازها نصرا ما في معاركه الرئيسة.
فقدانها الكثير من الأدوات اللازمة لإدارة معاركها الجديدة وعيا وعملا، عدم قدرة آلياتها التنظيمية على إدارة طاقاتها وتململ أبنائها وبحثهم عن بدائل، و آخرا الانقسام الهيكلي الحاد والمرشح للتطور، كل ذلك يدفع للقول بأن حزمة من التغييرات البنيوية للجماعة قد أوجبتها اللحظة الحالية، تتعدى كونها تغييرات سطحية طفيفة مثل تغيير قيادة أو تعديل لوائح، إلى إعادة التأسيس من جديد.
فنحن نذهب إلى أن أغلب مشكلات الجماعة الحالية هي من قبيل ما يمكن تسميته “مشكلات بنيوية” -حسب تعبير كان يستخدمه الدكتور عبدالوهاب المسيري رحمه الله في تحليلات أخرى-، أي أنها مشكلات مرتبطة ببنية الجماعة، ولصيقة بها.
والبنية السطحية للشئ تختلف عن بنيته العميقة، فالبنية السطحية هي هيكل الشئ المادي وتركيبه الظاهر(هياكل أو لوائح أو حتى أفكار معلنة)، أما البنية العميقة فهي كامنة في صميم الشئ وهى التي تمنح الظاهرة هويتها وخصوصيتها (مجمل تحيزات العقل الجمعي الباطن للجماعة والتي تراكمت عبر عقود وتحدد قراراتها وتوجهاتها). وإدراك البنية السطحية أمر متيسر، أما إدراك البنية العميقة للظاهرة فهو أمر أكثر صعوبة ويتطلب قدرا من إعمال العقل والحدس والبصيرة.
وقبل الشروع في محاولة فك وتجريد بنية الجماعة واقتراح الأولويات الرئيسة لإعادة تأسيسها، لابد من إشارة سريعة تحتاج لدراسات مفصلة فيما بعد حول فهم التحولات التي تحدث الآن في الأمة:
أولا: توافرت في اللحظة الحالية من عمر الأمة شروط “لحظات التحول التاريخي الكبرى” ، فالموجة الأولى للثورات العربية ليست حدثا عارضا أو انتفاضة شعبية مؤقتة، أو نقطة على نفس الخط التاريخي، بل كانت شرارة البدء لمرحلة تاريخية جديدة لم يبق شئ في المنطقة بعدها مثلما كان قبلها، فأحدثت هزة كبرى في الدول والأنظمة والشعوب والتجمعات البشرية بل والأنساق الفكرية لم تنته آثارها بعد، ولئن أُحسنت إدارة هذه السنوات فقد تكون بداية لتحرر الأمة ولبعثها الجديد.
ثانيا: في تاريخ الثورات يمكن للثورة أن تتقدم ثم تتراجع أمام الثورة المضادة، لكنها إن تمكنت من العودة في المرة الثانية فلن تتراجع مرة أخرى، لأن الثورة المضادة لا يمكنها أن تتقدم مرتين وإذا سقطت لا تقوم، لأنها بنيت على كذب وزيف، والكذب لا يمكن إعادة إنتاجه. أما الثورة فحقيقة، والحقيقة يمكن إعادة تقديمها للناس.
ثالثا: دخلت جماعة الإخوان طوعا أو كرها في معركة الثورة وأصبحت طرفا فيها، ومعارك الثورات لا يُمكن الانسحاب منها في المنتصف، قد يُمكن فيها الهدنة والتسويات المرحلية المؤقتة، لكن لا يُمكن فيها الخروج الآمن كليا لأي من أطرافها حتى تنتهي. لذا فقد ارتبط مصير الإخوان بمصير الثورة إلى حد كبير جدا.
رابعا: بداية مسار الربيع العربي كمطالب إصلاحية لا ينفي تشكل الحالة الثورية، الثورة الفرنسية مثلا بدأت بمطالب إصلاح دستوري في ظل النظام الملكي وتطورت عقب الثورة المضادة إلى مسار ثوري جذري، فالثورة والوعى بها حالة تتراكم وتتشكل بالتدريج
فما هي إذن أولويات ومعالم التأسيس الثالث للإخوان المسلمين، في إطار فهم طبيعة الظاهرة الثورية وطبيعة معركة الجماعة الجديدة؟
أولا: أولويات تخص بناء الأفكار والرؤية:
تطوير وإنضاج رؤية جديدة للجماعة، في ضوء ثوابت الرؤية الإسلامية العامة والمشروع الوسطي للجماعة. رؤية تتجاوب مع الحالة العامة لثورة الأمة ولا تنخفض عنها، وتتميز بالملامح الرئيسة التالية:
أولا:
- رؤية تنهي بوضوح الجدل حول مسألة إصلاح منظومات الحكم القائمة في بلادنا إصلاحا تدريجيا من داخلها، وتتعامل معها باعتبارها امتدادا لعقود الاحتلال الأجنبي المباشر. فبنية هذه الدول لم تصمم فعليا إلا لتكون أداة وظيفية تسيطر عليها أقلية طائفية أو عسكرية أو عائلية، تمثل بدورها امتدادا موضوعيا للمحتل الأجنبي. ولا قيمة للحفاظ على مؤسسات لا تؤدي وظائفها لصالح الأمة، بل على العكس قامت على استنزاف قدراتها وإمكاناتها وتفكيك أوصالها، والوسائل إذا فقدت مقصودها سقط اعتبارها كما تقول القاعدة الأصولية.
ثانيا:
- الجهاد أداة ضرورية لمعارك التحرر وللثورات، ويجب أن ننهي إشكالية ارتباط التيار الإسلامي الوسطي بالعمل السياسي الإصلاحي، والتيار المتطرف بالعمل المقاوم الجهادي، هذه الثنائية التي تكرست لعقود سابقة حتى أوجدت حساسية من العمل الجهادي باعتباره دلالة على الغلو والتكفير.!
- يجب أن تدعم الجماعة العمل الجهادي وترشده في إطار الاجتهاد الفقهي التاريخي لثورات أهل السنة والجماعة، مع حاجته إلى التجديد. جهاد واعٍ يحمل رؤية بنائية وليست رؤية للهدم فقط، ويتكامل مع كافة مسارات العمل السلمي التي تستوعب طاقات أخرى في الأمة ولا يقلل منها أو يستعلي عليها أو يكون بديلا لها، جهاد يدفع عن الأمة الاعتداء ولايفرض عليها “خليفة” مزعوما لتبايعه وهى صاحبة الحق الأصيل في اختيار حاكمها وليس فئة من شواذ العقول والنفوس.!
- الجهاد هنا يتجاوز فكرة “حق الدفاع الشرعي عن النفس” والتي يتخذها البعض غطاءا أو مهربا في بعض الأوقات، فالمسألة ليست في مجرد الدفاع عن النفس، بل في “حق الدفاع الشرعي العام”، الدفاع عن الأمة ورد الاعتداء عليها المتمثل في وجود منظومة الاستبداد ذاتها، يعني ذلك أن يكون الجهاد جزءا من خطة المواجهة والثورة، وليس فقط حقا دفاعيا للأفراد.
- ولا يعني هذا أن يمارس التنظيم المدني للجماعة العمل الجهادي بشكل مباشر، أو أن تُضمّن المقاومة داخل هيكل التنظيم المدني الهرمي، فنتيجة ذلك ستصبح شديدة الخطورة لأسباب عدة.(عند الحديث عن الهياكل سيتضح المقصود بعض الشئ).
- ما من شك أن تفصيلات كثيرة في المسألة تحتاج لضوابط فقهية واجتهاد جماعي مركز، فمن أعظم الكبائر قتل النفس بغير حق، ” لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَاماً” رواه البخاري. ثُم الموازنة بين المفاسد والمضار في كل خطوة أمر ضروري، وكذلك معرفة مدى تقبل حاضنة الثورة الرئيسية واستعدادها لأي تصعيد، وعدم التقدم عليه أو التأخر عنه.
- ذلك البناء الرؤيوي يجب أن ينتج مفردات خطاب للجماعة تشكل جزءا من هويتها الجديدة: “الثورة، الأمة، الجهاد،…إلخ” في مقابل “الإصلاح الدستوري، استقرار الدولة، نبذ العنف،…إلخ”.
- سيتخوف البعض من تبني خطاب من هذا النوع باعتباره سيكون إعلان حرب على الإقليم والعالم كله، والحقيقة أن حركات المقاومة والحركات الثورية المسلحة في منطقتنا تحظى بمستوى تعامل دبلوماسي لا تحظى به الحركات السلمية حتى الآن، والمسألة هي كيف ننجح في التسويق لعدالة قضيتنا ولحق شعوبنا في الثورة وفي النضال و الجهاد، وليس الانكفاء داخل أي أطر لا تتناسب مع الواقع ولا مقتضى الواجب!.
ثالثا:
- رؤية ترفع سقف مواجهتها للمنظومة الحضارية المهيمنة على العالم، باعتبارها المنشئ والراعي التاريخي لشبكات الفساد والاستبداد والتبعية في بلادنا، ولا يمنع ذلك من فهم تناقضات المنظومة الدولية والعمل على الاستفادة من تلك التناقضات، وبناء تحالفات داخلها، أو التواصل الإيجابي مع أجزاء منها، في إطار فهم طبيعة الإنسان الغربي العلماني(إنسان المادة والاستهلاك والإرث النفسي العنصري الاستعماري)، الذي لايمكن الدخول إليه من مدخل القيم ولا حقوق الإنسان غير الغربي.
- سيتخوف البعض أيضا من أبناء التنظيمات الإسلامية الدعوية العاملة في الغرب من انعكاس هذا التصادم عليها وعلى المساحات التي تعمل فيها هناك، ومن احتمالية التضييق عليها، وهنا يجب فتح حوار معمق مع هذه التنظيمات حول جدوى الاستمرار في الارتباط العضوي بينها وبين التنظيمات التي تخوض معركة الثورات في دولنا، مما يحملها بتبعة خيارات الثورة، ويحمل الثورة بتبعة مستقبل هذه التنظيمات الذي يجب فهمه والحرص عليه بلا شك.
رابعا:
- إحياء خط الاتصال التاريخي بين ثورات أهل السنة والجماعة بعد الخلافة الراشدة ضد توريث السلطة واغتصاب أمر الأمة وتحول الخلافة إلى الملك الوراثي العضوض، وبين ثورة العرب السنة اليوم وتعميق هذا الوعي في نفوس طليعة الثوار. هذا الوعي سيكون كاف لمد الثورة بطاقة هائلة من الصمود وطول النفس حين تتضح طبيعة معركة التحرر وجوهرها الرئيسي، فالإنتماء لهوية تاريخية منفصلة تماما عن هوية الخصم هو الذي يمكن من خوض معارك طويلة المدى وقابلة للتجدد حتى وإن تعرضت لانقطاع. فثم خط تاريخي مثلا يربط بين مذبحة رابعة العدوية ومذبحة الحَرّة!، مقتلة الصحابة والتابعين الذين رفضوا بيعة يزيد بن معاوية فحاصرهم في مدينة رسول الله حتى استباحها وقتل من بقى فيها من الأنصار ومن شيوخ التابعين، وجالت الخيل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وراثت وبالت في الروضة بين القبر والمنبر، ولم تُصلّ جماعة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا كان فيه أحد، كما ذكر بن حزم في جوامع السيرة، وقال بن كثير:”قُتل يوم الحرة سبعمائة من حفظة القرآن”.
- يقتضي تبني ذلك الخط التاريخي مراجعة رصينة وجريئة لتراث الفتاوى السياسية منذ القرون الأولى التي تلت هذه الأحداث الدامية، التي يلجأ إليها البعض الآن لتبرير دعاوى التراجع والتنازل بدعوى دفع المفاسد، رغم أن مراجعة مآلات هذه الفتاوى يكشف أن المفاسد التي قد ترتبت فعليا على الانحراف السياسي عن جادة الحكم الرشيد بعد عصر النبوة والخلافة إلى يومنا هذا لا يمكن قياسه بأية مفاسد أخرى في وقتها، بل إن ما قد كان يحتمل سفكه من دماء في مواجهة الظلم لا يقاس بما سفك فعليا في عشرات السنين والعقود من استقرار الاستبداد وتمكنه ، فضلا عن ما أدى إليه من خراب العمران وضياع الدين.
- بناء هوية الصراع على هذا النمط الحضاري لا ينفي تضمنه لرايات عدة تتعلق بالعدالة الاجتماعية والمطالب المعيشية مثلا، لكن يجب فهمها في إطارين: كونها المُحصلة الطبيعية للاستبداد وعلاجها يجب أن يمر بداية عبر التحرر، وكون عامة الناس من حقهم الخروج بحثا عن حقوقهم ومطالبهم وإن لم يدركوا هذا العمق التاريخي والحضاري للصراع.
ثانيا: أولويات تخص الهياكل والأوعية التنظيمية:
لم يعد خلافا أن التنظيمات الهرمية التقليدية وخاصة التنظيمات الكثيفة منها لم تعد فعالة في زمن يشهد كثيرا من المتغيرات في أنماط التواصل والتفاعل بين البشر، ومساحات التأثير وآفاقه التي لم تكن متاحة من قبل، في ظل هذه التطورات أصبحت التنظيمات الهرمية من أقل أشكال التنظيم فاعلية وأبطئها وأضعفها تأثيرا، وخاصة في سياقات حرجة كالتي نتحدث عنها في الصراع الذي تخوضه الأمة.
وفي العلوم الإدارية أصبح الحديث الآن كبيرا عن هياكل مابعد البيروقراطية، والتي أبدعت أنماطا أخرى من التنظيم تتفوق على الهياكل البيروقراطية التقليدية كالهياكل الهرمية( تنظيم الإخوان أحد أشكال الهرميات الكثيفة:7مستويات إدارية رأسية).
لا يمكن للجماعة أن تتمكن من تفعيل طاقاتها في عمل ثوري يتسم بالحركية والمرونة، فضلا عن قيادة طاقات الأمة طالما تمسكت بالشكل التنظيمي الحالي في الإدارة والتنظيم.
فما المقترح إذن بشكل محدد لهذه الحالة ؟
في تحليل الدكتور عبدالوهاب المسيري لنموذج الانتفاضة الفلسطينية، صاغ رحمه الله مصطلح “التكامل غير العضوي الفضفاض”، للتعبير عن النموذج الانتفاضي في القيادة وتعبئة الجماهير، معتبرا هذا النموذج استلهم روح الحضارة والشخصية الإسلامية في مقابل الأنماط الأخرى للتنظيم والتي تستبطن في بنائها الثقافة الغربية وشخصيتها. وأن هذا النموذج وحده هو القادر على تعبئة الطاقات الثورية للشعوب العربية كافة.
لفهم هذا النموذج يمكن وضعه بين نموذجين آخرين:
- «نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي»: هو نموذج يسمح بوجود ثغرات بين الكل والجزء ، وبين الجزء والجزء الآخر. فأجزاؤه ليست متلاحمة مع بعضها البعض. ورغم استقلال الأجزاء عن الكل وعن بعضها البعض إلا أنها ليست مفتتة ذرياً، بل في علاقة تكاملية بحيث يمكنها أن تنسق فيما بينها وأن تتفاعل. ولذا فهو نموذج يعرف الاتساق والاستمرار والتكامل، ومع هذا يبقى لكل جزء من أجزائه استقلاله وكينونته وشخصيته وهويته. فالأجزاء مترابطة دون أن تكون متلاحمة عضوياً(كما هو الحال في التنظيمات الهرمية، وفي طريقة عملها)، والكل يجمع الأجزاء دون أن يبتلعها، ودون أن تذوب هي فيه.
- بينما في نموذج التلاحم العضوي تتسم عناصره بأنها جميعاً متماسكة متلاحمة بحيث لا يستطيع عنصر أن يستقل عن الكل ولا يتمتع بمساحة يتحرك فيها بشيء من الاستقلال (وهذا هو النموذج السائد في بنية الدول المركزية القومية الحديثة وفي منظومة الحداثة الغربية كلها). أما نموذج التفتت الذري فتتسم عناصره بأنها مستقلة تماماً بعضها عن البعض، فيعمل كل عنصر بمفرده (وهذا بطبيعة الحال لا يصلح أن يكون نموذجاً ثورياً، ولا حتى نموذجاً لإدارة دفة الحكم).
والتراث الإسـلامي العربي تراث قد تَرد فيه نماذج التلاحم العضوي ونماذج التفتت الذري(وهي لابد أن ترد داخل أي تشكيل حضاري)، إلا أنها لا تتمتع بأية مركزية في التراث الإسلامي إذ يشغل المركز نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي. وفي الحديث الشريف: “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً” [متفق عليه] ثم شبَّك الرسول صلى الله عليه وسلم بين أصابعه. فالصورة المجازية هنا في مضمونها غير عضوية وتُعبِّر عن تكامل وترابط، ولكنه ترابط البناء غير العضوي الذي تتخلله الثغرات، تماماً مثل أصابع اليد المتشابكة.
- ويتطلب نموذج “التلاحم العضوي” حدًا أقصى من التنظيم والترشيد الكامل في إطار قانون عام وتطبيق صارم له. فيتم التنسيق الكامل بين الأجزاء المختلفة. ولذا لا بد أن تكون كل العناصر متجانسة، ولا بد أن تذعن للقانون العام والسلطة المركزية.
أما في حالة نموذج “التكامل الفضفاض” فإن الترشيد الكامل والحسابات الدقيقة قد لا تكون ضرورية، بل قد تكون -على العكس- ضارة؛ إذ إن الترشيد يعني تطبيق قانون واحد على الجميع، أو مجموعة من القواعد المختلفة ينظمها قانون واحد، وهذا يتعارض مع تنوع الأجزاء وتفاوت السرعات والقدرات الإمكانات. ونموذج التكامل غير العضوي قد لا يعمل بنفس المستوى من الكفاءة ولا على نفس القدرة من السرعة التي يعمل بها نموذج التلاحم العضوي، ولكنه قادر على أن يعمل بسرعات متفاوتة في الوقت نفسه بسبب عدم وجود تنسيق صارم بين الأجزاء المختلفة (إذ يحتفظ كل بشخصيته إلى حد ما). وهو بسبب مرونته يتمتع بإمكانية الحركة إلى الأمام أو إلى الخلف أو إلى اليمين أو إلى اليسار. بل ويمكن أن تتحرك بعض أجزائه إلى الأمام وتتحرك بعض أجزائه الأخرى إلى الخلف حسب الظروف. ويمكن أن تتحرك بعض أجزائه بينما تتوقف الأجزاء الأخرى، ولذا فمقدرته على تعبئة الجماهير رغم عدم تجانسها عالية.
(وهذا ما فعلته الانتفاضة من خلال تجنيدها للمجموعات من كل الأعمار والطبقات والانتماءات الإثنية والدينية في الأراضي المحتلة وتحريكها جميعًا بتجانس في وقت واحد، وفي فترات مختلفة، وحسب مقدرة كل قطاع داخل هذه الكتلة على الحركة. ولم تكن الحركة دائمة متطابقة، وإنما كانت رخوة ومرنة، غير ميكانيكية، لذا تمتعت بدرجة عالية من الفاعلية والتأثير، وهو نموذج فريد دفع المراقب الغربي لاستخدام لفظ “الانتفاضة” في تحليلاته ولم يجد لها ترجمة أجنبية؛ لأنه أدرك أنه بإزاء ظاهرة لا ينطبق عليها المعجم الغربي، وليست ثورة بالمعنى الذي طوره الغرب في تاريخه وأسسه على رؤاه، ونموذج التكامل غير العضوي أيضا هو الذي شهدته الحالة العراقية في مقاومة الإحتلال، ثم الموجات الأولى للثورة العربية، والحالة الجهادية التي تشكلت في سوريا وليبيا واليمن، بينما انحرفت عنه الثورة في مصر بشكل كبير، لأسباب تتعلق بطبيعة التنظيم الرئيسي الذي يخوض معركة الثورة).
- نموذج “التلاحم العضوي” والهرميات الكثيفة، بسبب تماسكها وصلابتها وافتقادها إلى المرونة والفضفاضية قادرة على الحركة في ظروف مثالية وهادئة ومُتوقّعة ، وفي اتجاه واحد وحسب.ـ دائماً إلى الأمام. ولكنه بسبب هذا نجدها غير قادرة على التوقف، وفي الوقت نفسه مهدَّدة بالتوقف الكامل والتفكك إن لم تتوافر لها الظروف المثالية، أي ظروف التحكم الكامل والتجانس الكامل والترشيد الكامل (ويناسب هذا النموذج في حالة الإخوان في حالة الإخوان إجمالا مهام مرحلة التكوين إلى حد ليس قليلا، وأجواء ما قبل الثورة).
- نموذج “التلاحم العضوي” يتسم بثنائية المركز القوي والأطراف الضعيفة، ولكن، إن أصاب المركز خلل، تبعثرت الأطراف تماماً وانتقل من الثنائية إلى السيولة الشاملة وتحوَّل الهرم المدبب إلى شيء مسطح مفكك لا مركز له ولا قـوام. أما في حـالة نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي، فإن المركز لا يكون بالضرورة أقوى من الأطراف، والقيادة لا تمسك كل الأمور بيدها ولا تسبق الجماهير وإنما تسير في وسطها جنباً إلى جنب، فإن حدث شيء للمركز فلن يؤثر كثيراً في الأطـراف إذ لا يخـتلف المركز عن الأطـراف كثيراً. والأطراف، شأنها شأن كل الأجزاء، لها شخصيتها المستقلة، أما وتيرة حركتها فينظمها المركز ولكنها مستقلة عنه.
- نقطة أخيرة، أن نموذج التلاحم العضوي والتنظيمات الهرمية لأسباب متعددة لا مجال لشرحها الآن يمكن اعتبارها متحيزة لبنية الحداثة الغربية في السيطرة والتأثير، وبشكل تلقائي فهي منتجة لكثير من أخلاق المنظومة الميكافيلية الحداثية داخل التنظيم. التربية الإسلامية تحد كثيرا من شيوع هذه الأخلاق إلا أن التنظيم تظل بنيته مفرزة بشكل تلقائي لهذه الظواهر (النفاق، نخب سيطرة وطرق غير مشروعة للتأثير، تركز القرار وأشكال مشوهة للشورى،…إلخ)
تحتاج الجماعة في تأسيسها الثالث لتبني نموذج “التكامل غير العضوي الفضفاض” في تنظيم طاقاتها وتفعيل طاقات الأمة في الثورة والجهاد، أن تتلبس الجماعة في تنظيمها وإدارتها روح ميادين الثورة، حيث المركز والقيادة موجودة، لكنها ليست أقوى من الأطراف.
أن تتحول قيادة الجماعة إلى قيادة عليا تكتفي بالتوجيه والإرشاد لأعضائها ولجمهور الأمة، وأن تنشئ وتفعل عشرات المنصات التنظيمية على قاعدة الفصل بينها ثم التكامل، ترشدها القيادة ولا تديرها. سيسمح ذلك باستيعاب طاقات هائلة من مخزون الطاقة الثورية العامة، في مسارات مختلفة لا يتضرر أحدها بتوقف الآخر، ولا يتحمل أحدها العبء الأمني للآخر، وتُوقع الخصم في أعلى مستويات التشتت وفقدان السيطرة، كما يناسب هذا النموذج العمل طويل المدى، فيمكنه التجدد من بعد انقطاع، والاستمرار رغم توقف بعض الأجزاء، وعدم حدوث الإرهاق لكامل الجسد في وقت واحد.
يتطلب هذا النموذج مراجعة قواعد العضوية في الجماعة، وطريقتها في الحساب الكمي لنموها وزيادتها العددية بالشكل الإحصائي التقليدي التي كانت تفعله في مرحلة سابقة، ستصبح العضوية مرتبطة بالفعل والمشاركة في المشروع العام للثورة، وسيصبح حساب تمدد الجماعة مرتبطا بالحساب النوعي لقدرتها وقدرة الأمة على التصعيد والمواجهة نوعيا وليس كميا فقط.
سيكون اهتمام الجماعة في مرحلة التنفيذ ليس بمراكمة الأعضاء وعمليات التكوين الداخلي فقط، بل ستهتم بقياس فاعلية أعضائها/وأعضاء مشروعها، وقيامهم بالواجب الكفائي للمهام الرئيسة للثورة، مهما تعددت التشكيلات والمبادرات والوحدات التنظيمية. في حالة الخلل في دور معين تتدخل القيادة بتكثيف الإرشاد العام باتجاه هذا الدور. الأدوار الخمسة الرئيسة لمعركة التنفيذ :
أولا: التفكير والتخطيط وإنتاج الرؤى والبدائل
ثانيا: الدعوة والتربية العامة والخاصة (تحتاج لمناهج وأشكال محاضن جديدة تتناسب مع متغيرات المرحلة، ومتغيرات وسائل التواصل، وأشكال العضوية الجديدة في مشروع الجماعة)
ثالثا: العمل السلمي الشعبي بكافة مساراته، العامة والفردية.
رابعا: الجهاد والمقاومة.
خامسا: العمل الإغاثي (بمفهومه التكافلي الواسع).
- يُلاحظ اختلاف هذا النموذج عن نموذج الفصل التنظيمي البسيط بين أنشطة الجماعة (السياسية والتربوية وغيرها)، بحيث تصبح لكل مهمة ودور مؤسسة منفصلة، بل نذهب أبعد من هذا أن يصبح لكل دور ومهمة عشرات الوحدات التنظيمية المنفصلة، والمبادرات الجماعية والفردية، تُرشد الجماعة أبناءها والمنتمين لرؤيتها الجديدة لإنشائها والعمل من خلالها.
- يُلاحظ أيضا اختلافه عن فكرة حل الجماعة وذوبانها في المجتمع، وهى فكرة لايمكن معها استمرار أى فاعلية ولاتأثير. وكل ماسبق طرحه يفترض استمرار الجماعة واسمُها وعلامتُها التاريخية التي صُنعت بالدماء والتضحيات، لكن في أطوار جديدة تتناسب مع مهام جديدة لمرحلة التنفيذ، كما أسماها الإمام المؤسس.
إذن هي رؤية جديدة للدور وللصراع، وفلسفة جديدة للتنظيم والتأثير ونمط العضوية، وخلاصته أن الجماعة تنتقل من مرحلة التكوين إلى مرحلة التنفيذ ومعها الأمة كلها في معركة “جهاد لا هوادة فيه”،حسب تعبير الإمام الشهيد.
وللحديث بقية إن شاء الله.