لم تكن قضية محمد القيق، الصحفي الفلسطيني المضرب عن الطعام، في أساسها قضية شخصية لفرد يرفض الاعتقال الإداري الواقع على شخصه، ولكنها ومنذ لحظة اعتقاله، قضية نضالية عامة، تؤسس لذاتها على الظرف الذي اعتقل فيه، وعلى الدور الذي ارتضاه لنفسه في سياق هذا الظرف، وبالتالي فموقع محمد كمضرب عن الطعام الآن استمرار لدوره خارج السجن، وإن بأدوات جديدة، وبالرغم من اعتبار آلاف المناضلين في تاريخ الكفاح الفلسطيني السجن موقعا جديدا لاستمرار الدور النضالي، فإن حالة محمد تتميز بسمات فريدة تجعل من عامل الاستمرارية أكثر وضوحا واتصالا.
لم تكن علاقة محمد القيق مع الظرف الفلسطيني الراهن، والذي يمكن وسمه بالحالة الكفاحية الجارية منذ الأول من تشرين أول/ أكتوبر من العام الماضي، مجرد علاقة ميكانيكية يقتضيها عمله الصحفي والإعلامي، ولكنه كان معنيا بالحدث كفلسطيني، قبل أن يعنى به كصحفي، وجاء عمله الصحفي تابعا لصفته الفلسطينية، كما جاء استمرارا لتجربة محمد النضالية والنقابية أثناء دراسته الجامعية، ومن هذه الناحية لم يكن معقبا على الحدث، أو صاحب رأي فيه، أو ناقلا للصورة، فحسب، ولكنه كان جزءا من الحدث، وفاعلا فيه، وإن بأدواته الإعلامية والصحفية، والتي قوامها الكلمة الحرة والمسؤولة والشجاعة، وكان جزءا منه كفلسطيني صاحب موقف ومبادرة.
اعتقل محمد إذن على خلفية علاقته هذه بالحدث، وبدا أن العدو منزعج من هذه العلاقة لطبيعتها المسؤولة والمنتمية، ولذلك، ولحدة اتجاهها ووضوح لغتها وانتمائها الصريح لكفاح الشعب الفلسطيني الجاري.
صنف العدو محمدا كمحرض مؤثر، أو منظر مؤثر، وعلى هذا الأساس قام باعتقاله، وعلى هذا الأساس أيضا بنى محمد استمرارية دوره النضالي، فإذا كان وجوده خارج السجن مزعجا للعدو إلى هذا الحد، فإن وجوده داخل السجن سيكون أكثر إزعاجا، وإذا كانت مساهمته خارج السجن فاعلة في دفع الحدث إلى الأمام إلى درجة أدركها العدو وأحس بها، فإن مساهمته من داخل السجن، بأمعائه الخاوية، وجسده المنهك، ومتاخمته حدود الشهادة مختارا راضيا، ستتحول إلى واحدة من أهم معالم الحالة الكفاحية الجارية، ومدها بعوامل التعبئة الوطنية، والتفعيل الجماهيري، والتصعيد الثوري.
فإضراب محمد القيق جزء من أحداث وفعاليات “انتفاضة القدس”، وإذا كان من حق أي أسير فلسطيني أن يتخذ قراره الخاص في كيفية مواجهة اعتقاله وتحمل تبعات هذا القرار، فإن إضراب محمد القيق أبعد وأكبر وأوسع من كونه مجرد خيار شخصي، حتى وإن كان شخصيا من جهة اتخاذ القرار وصدوره عن إرادة ذاتية تامة الحرية، ولكن سياقه، ووضوح عنصر استمرارية الدور النضالي فيه، ثم ما أفضى إليه من نتائج، يجعله بهذا القدر من الأهمية بما يتجاوز البعد الشخصي الذي فيه، وبما يعظم من واجب التفاعل مع إضراب محمد ونصرته، فهو واجب تمليه الاعتبارات الإنسانية، والاعتبارات الوطنية الأساسية، وتمليه أيضا الاعتبارات الوطنية الخاصة الناجمة عن الطبيعة الخاصة لهذا الإضراب.
ثمة مساهمة نضالية أخرى، تكشف عنها آلية محمد التفاوضية مع العدو السجان، والتي تقوم على إستراتيجية الصمود حتى لو كلفته الشهادة، وعلى طلب واحد محدد وهو الحرية الفورية والتامة، وفي هذه المعركة القاسية فإن الطرف الذي قدم التنازل الأول هو العدو وإن كان تنازلا شكليا يعلق قرار الاعتقال الإداري ولا يلغيه ويبقي محمدا داخل مستشفى العفولة ويمنعه من العلاج داخل الضفة الغربية، بينما محمد، والذي دعا لعدم الانخداع بقرار العدو الشكلي، لم يقدم، حتى اللحظة، أي تنازل وظل متمسكا بإستراتيجيته المؤسسة على الوعي بطبيعة العدو.
إن الدرس العظيم المستفاد من هذا المسلك النضالي، لا يتوقف على المقارنة بين كل من آلية محمد التفاوضية وآلية منظمة التحرير المستمرة منذ أكثر من عشرين عاما، ولكنه مفيد أيضا في الهداية إلى إستراتيجية نضالية عامة تقوم على الصمود لا على المبادرات أو المقاربات السياسية، وإذا كانت المقاربات السياسية قد أفضت إلى كل هذه الخسائر الفادحة، وكان محمد بإستراتيجيته بين خيارين إما الشهادة أو الحرية، فإننا لن نخسر شيئا بإستراتيجية الصمود، ولكننا بالتأكيد سنكون كما ينبغي أن نكون كشعب في مواجهة الاحتلال على طريق الحرية.