أيام قليلة فصلت بين فورة الاستنفار والتعبئة الأمنية في مصر، تحسباً لتظاهرات ومسيرات إحياء ذكرى ثورة 25 يناير، والطمأنينة المفاجئة التي سادت الأوساط الأمنية والرسمية المصرية، مع مرور الذكرى الخامسة لثورة يناير بسلام.
ظهرت إشارات تلك الطمأنينة مبكراً جداً، إلى حد غيّر مشهد ميدان التحرير من ثكنةٍ عسكريةٍ مغلقة بالدبابات والحشود الأمنية إلى ساحةٍ مفتوحةٍ أمام السيارات والمارّة وبضع عشرات من المواطنين “الشرفاء”.
وكأن تطمينات ما أو معلومات وصلت إلى السلطات بأن لا مسيرات ولا تظاهرات متوقعة في الميدان. تلك الأريحية والطمأنينة المبالغ فيها بدت مناقضةً لحالة الهلع والقلق المبالغ، فيه أيضاً، قبل ذكرى الخامس والعشرين من يناير.
صحيح أن الحسابات الموضوعية وكل المؤشرات كانت تستبعد نزول المصريين إلى الشوارع، أو حدوث أي تحرك ثوري حقيقي على الأرض، غير أن الأمر كان سيبدو منطقياً ومفهوماً، لو أن الدولة المصرية استندت إلى تلك الحسابات من البداية، أو إذا استمرّت على حذرها، وحافظت على حالة التعبئة والاستنفار، ولو أياماً قليلة بعد يوم 25.
لكن كليهما لم يحدث، فبعد القلق والترقب و”الطبطبة” على ثورة 25 يناير حتى صبيحة ذلك اليوم، سارعت أجهزة الدولة ومؤسساتها في مصر إلى دفن الذكرى، ولملمة صفحاتها سريعاً، وتحول خطابها الرسمي إلى الدور “الوطني” للشرطة، وجهودها “المخلصة” لحماية أمن الوطن والمواطن. بينما تبارت الفضائيات في تمجيد القتلى من ضباط الشرطة واستضافة عائلاتهم.
حتى الإعلانات الخاصة بمستشفى الأطفال الشهير (57357) ظلت أياماً متتالية تعرض زيارات وفود شرطية.
ليعود التركيز، للمرة الأولى منذ خمس سنوات، على “25 يناير” عيداً للشرطة، وليس ذكرى لثورةٍ قامت أساساً بسبب ممارسات الشرطة.
يبدو أن الصمت العام الذي أحاط بذكرى الثورة وعزوف مناصري يناير عن النزول إلى الشارع، صوّر لأعدائها أن الأمر انتهى، وأن الفرصة أصبحت مهيأة لاسترداد الذكرى، ورد الاعتبار للشرطة إعلامياً ومجتمعياً، وليس فقط رسمياً.
هل ظن أعداء يناير أن صمت أصحابها كان تنازلاً عنها وتسليماً بوفاتها؟ أم أن الهدف هو التشويش على ذكرى الثورة في أذهان المصريين، والتمهيد لاقتلاعها لاحقاً، والاقتصار، ربما في العام المقبل، على الاحتفال بعيد الشرطة؟
في الحالين، محدودية التظاهرات والتحركات في ذكرى ثورة يناير، لا تعني تراجع مساحتها في العقل الجمعي، أو تنكراً من أصحابها لها. وإنما تحوّل نحو مزيد من الذكاء في إدارة الصراع، وتجنباً لمواجهةٍ خاسرةٍ مع طرفٍ أقوى، يملك أدوات القوة ويجيد لغة العنف. فلا يعني سكوت أهل يناير اختفاءهم، أو تغير مواقفهم، كما أن ضجيج عملاء السلطة وحوارييها لا يعني صدقاً منهم أو تصديقاً من الشعب لهم.
اعتبار يناير شهر الشرطة وليس الثورة، تسطيح للموقف. كأن مطالب المصريين في 2011، والغضبة تجاه ممارسات الشرطة والتغول الأمني، مرتبطة حصرياً بشهر يناير وتحديداً يوم 25، فإنْ مرّ اليوم انتهت المشكلة! كما لو كانت الذكرى هي التي تحيي روح الغضب والاعتراض، وليس تعميق الفقر وتقنين القهر والنكوص عن الوعود الحنونة والشعارات الرنانة.
الإحجام عن نزول الشوارع في 25 يناير كان سلوكاً حصيفاً، ترتكب السلطة خطأ فادحاً، إذا فسّرته كُفراً بالثورة أو تخلياً عن مطالبها.
أولاً، لأنها ببساطة مطالب شعبية جامعة، لم يختلف عليها أحد. وثانياً، لأن الثوار والمناضلين لا يسكتون هزيمةً أو انكساراً، وإنما إدراكاً لمقتضيات المرحلة، وتمييزاً للفارق بين التثور والتهور. تماماً كما كان خواء لجان الاقتراع في انتخابات البرلمان، وقبلها الرئاسة، دليل غضب وتجاهل. في لغة الشعوب، الصمت ليس علامة رضا، بل إشارة خطر لا يفهمها إلا ذو عقل وبصيرة.