تحدثت في مقالي السابق “تركيا وخرائط تقسيم المنطقة”، عن تركيا من زاوية “التأثير” من موقع الفاعل، واليوم أتحدث عنها من زاوية “التأثر” من موقع المفعول به، بمعنى هل هناك سيناريو لتقسيم تركيا؟ وما هي إرهاصاته وإشاراته وفرص تحققه في حال وجوده؟
قد يبدو العنوان صادمًا للكثيرين ومبالغًا به بالنسبة لهم، بيد أن طرح السؤال يبدو وجيهًا من الناحية النظرية في ظل حالة السيولة الشديدة والتطورات المتلاحقة المتسارعة في المنطقة وتعرض الكثير من بلدانها لسيناريوهات التقسيم، فلم تكن تركيا الاستثناء وهي الجارة لأهم دولتين فاشلتين (في المصطلح السياسي) في الإقليم، سوريا والعراق؟
بيد أننا سنتناول السؤال من زاوية عملية/واقعية بحتة، من زوايا ثلاث؛ أولاها متعلقة بارتدادات الأزمة السورية تحديدًا، والثانية تدور حول تنظيم الدولة “داعش”، بينما ترتبط الثالثة بالمشكلة الكردية، وهي الجزئية الأهم التي سيناقشها مقال اليوم.
لا بد أولًا من التذكير بحالة التصعيد العسكرية المستمرة بين حزب العمال الكردستاني والدولة التركية منذ العشرين من يوليو الماضي وحتى الآن، والتي تشتمل على فوارق جوهرية عن مثيلاتها السابقات في تسعينات القرن الماضي وحتى في ظل العدالة والتنمية عام 2012، وأهمها:
الأول، أنها أتت بعد إصلاحات ديمقراطية وقانونية متعلقة بالحقوق السياسية والثقافية للأكراد في تركيا، قامت بها حكومات العدالة والتنمية المتعاقبة على مدى سنوات، جنبًا إلى جنب مع المشاريع التنموية في مناطق الأغلبية الكردية جنوب شرق البلاد.
الثاني، أنها أتت بعد سنوات ثلاث من المفاوضات السياسية السرية بين الدولة وزعيم العمال الكردستاني المعتقل لديها عبدالله أوجلان، الذي أطلق دعوتين لحزبه لإلقاء السلاح بشكل نهائي عامي 2013 و2015، وهي عملية سياسية وصلت إلى مرحلة المفاوضات المباشرة والنهائية والتي أسميتها في مقال سابق “لحظة الحقيقة والأسئلة الصعبة” أي تلك المتعلقة بمصير أوجلان وباقي المسلحين الأكراد وإعادة تعريف المواطنة وإدماج المسلحين في المجتمع… إلخ.
الثالث، أنها نقلت الصراع من الجبال الحدودية والمناطق المحيطة بالمدن إلى داخل المناطق الآهلة بالسكان، على شكل حرب عصابات أو حرب شوارع بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، بما في ذلك من خنادق وسواتر ترابية وحظر تجول وضحايا تسقط يومياً من الطرفين (تحدث اردوغان قبل أيام عن قتل اكثر من 3000 مسلح كردي).
رابعًا، غياب الحديث عن وقف إطلاق النار والعودة السريعة للعملية السياسية من قبل الحكومة، وتركيزها على تثبيت الأمن والنظام أولًا، ولذلك أسبابه التي سأعود لها.
إذن، واختصارًا، أتت هذه الجولة من التصعيد في وقت كان الجميع ينظر لحزبي العدالة والتنمية والشعوب الديمقراطية على أنهما شريكا عملية سياسية سيتوجانها بعد الانتخابات البرلمانية بصياغة دستور جديد للبلاد يحل المشكلة الكردية من جذورها. بيد أن تطورات الأزمة السورية التي أدت إلى إرهاصات إنشاء كيان سياسي كردي في الشمال السوري قد عقدّت الحسابات الكردية- التركية وأدت إلى توازنات جديدة وقرارات مختلفة، انتهت إلى ما نراه اليوم من استمرار حالة حظر التجول في بعض الأحياء ذات الأغلبية الكردية جنوب شرقي البلاد على مدى شهور، وإن بشكل متقطع.
التصعيد العسكري ليس المؤشر الوحيد الخطير في هذا السياق، رغم أهميته ورغم إدراكنا أن القيادات العسكرية للعمال الكردستاني هي من تقرر للسياسيين – وخصوصاً حزب الشعوب الديمقراطي – خريطة التحرك وإطار المواقف. فمع كل هذا يبقى القرار السياسي، سيما الذي يحمل أبعادًا إستراتيجية، أثقل وزناً وأعمق أثراً في سياق التحليل.
في هذا الإطار، انتقلت الحركة السياسية الكردية (كما يحب حزب العمال الكردستاني، اليساري الماركسي، أن يسمي نفسه ومناصريه) خطوة جريئة للأمام، حين رفعت ملف “الإدارة الذاتية” من مشروع سياسي “تدعو” له وتريد “مناقشته” في إطار الدستور القادم للبلاد إيماناً بأن تقوية الإدارات المحلية سيفيد تركيا لحل المشكلة الكردية خاصة، إلى مستوى “الإعلان” عن الإدارة الذاتية بل الحكم الذاتي في مناطق الجنوب الشرقي ذات الأغلبية الكردية، وذلك في “مؤتمر المجتمع الديمقراطي” الذي عقد مؤخرًا، وتبنى حزب الشعوب الديمقراطي -كأحد المشاركين- البنود الأربعة عشر التي دعا إليها في بيانه الختامي.
ولئن كانت هذه الدعوة مخالفة للدستور التركي، الذي ينص على وحدة الأراضي التركية ووحدة “شكل الحكم” فيها، إلا أن المفارقة هي عدم اكتراث القيادات السياسية الكردية باحتمالات نزع الحصانة عنهم تمهيدًا للتحقيق معهم بتهمة انتهاك الدستور، وهو ما يعني تصعيدًا سياسيًا إلى جانب التصعيد العسكري له دلالاته الخطيرة إن استمر.
فقد أتت هذه الدعوة بعد مواقف متكررة من حزب الشعوب الديمقراطي أظهرته كمؤيد للعمليات “الإرهابية” التي يقوم بها المسلحون رغم إدانته اللفظية لها، وبعد زيارة رئيسه دميرطاش لروسيا -في ظل التوتر بين البلدين- ولوم أنقرة من هناك واعتبارها المسؤولة عن الأزمة مع موسكو، وهو ما دفع الكثير من السياسيين الأتراك -وفي مقدمتهم أردوغان- لاتهامه بالخيانة.
وعليه، فالسؤال المطروح الآن هو: بعد مراجعات أوجلان الفكرية التي أدت إلى تخليه عام 2005 عن أحلام الانفصال ودعوته إلى الحلول السياسية الديمقراطية (الكونفدرالية الديمقراطية والإدارة الذاتية الديمقراطية)، هل تغير القرار الإستراتيجي للحزب مجددًا نحو الانفصال؟!!
ليس من السهل بطبيعة الحال الجزم بهذا الأمر، بيد أن بعض المؤشرات ذات دلالة لا تخفى، ومنها:
أولًا، كون المشكلة الكردية إقليمية أكثر منها محلية، وهو ما استطاعت تركيا التغلب عليه سابقًا بشكل جزئي، حيث قدمت نموذجًا متقدمًا لحل داخلي دون تدخل دولي (ولذلك فهي تسميها عملية “الحل” أو “التسوية” وليس “السلام” مثلًا)، بينما عاد البعد الإقليمي الآن بعد مآلات المشهد السوري للطغيان على المحلي فيها، وهو ما يعقد الأمور أكثر فأكثر.
ثانيًا، حصول العمال الكردستاني على أسلحة شبه نوعية من روسيا تسربت إليه عبر الفصائل الكردية السورية، وفق تسريبات الإعلام التركي، وهو ما يفسر الحزم الشديد الذي تتمسك به الحكومة التركية.
ثالثًا، رغم تراجع الدعم الشعبي للكرستاني في موجة التصعيد الحالية، بعد سنوات الهدوء والتنمية والإنجازات الديمقراطية الجزئية، يبدو أن الأخير يراهن على استمرار التصعيد بما يزيد من عدد القتلى -الذين هم في النهاية من أبناء المناطق ذات الأغلبية الكردية- بما يرفع من مستوى الاحتقان ويصعّب من إمكانية العودة إلى النقطة صفر.
إذا ما صحت كل هذه الإشارات والدلائل واستمرت وتعمقت وترسخت، فسنكون أمام مشهد تصعيد لا نهاية له بين الطرفين بعدد ضحايا متزايد وجرح مستعص على المعالجة والشفاء، في ظل خطورة حظر العمل السياسي “الكردي” في البلاد بفعل تحديهم المعلن والمقصود (!) للدستور، وهو ما قد يعني عودة العمل إلى عتمات السرية وما وراء الكواليس. تطور كهذا معناه فشل عملية التسوية السياسية التي عول عليها العدالة والتنمية طويلًا لتكون مشروع تركيا الاستراتيجي الذي سيقضي على إمكانات التدخل الخارجي.
والتدخل الخارجي تحديدًا هو ما يمكن أن تعول عليه الحركة السياسية الكردية في حال قررت أن تغير مسيرتها وأهدافها بعيدة المدى، في ظل تدويل عدد من قضايا المنطقة، وفي مقدمتها السورية والعراقية واليمنية والليبية، وغيرها على ذات الطريق.
سيعتمد الأمر بداهة على القرار الغربي، الذي سينبني بدوره على ثلاثة عوامل محورية، وهي الموقف من تركيا، وما يمكن أن يقدمه أكرادها له كأوراق اعتماد قد تقترب أو تبتعد بمسافة ما عما قدمته الحركة السياسية (والعسكرية) الكردية في سوريا، وتمدد تنظيم الدولة المحتمل نحو الداخل التركي بعد التراجعات الأخيرة في كل من سوريا والعراق.
لا نقول بأن تدويل القضية الكردية في تركيا وشيك أو داهم، بل نقول إنه مرغوب من قبل الأكراد أنفسهم الذين سبق وطالبوا بالولايات المتحدة مراقبًا وحكمًا في العملية السياسية، ونقول إنه محتمل وممكن على المدى البعيد إذا ما توفرت له شروطه الموضوعية، والطريق معروفة ومجربة في عدد من الدول منها العراق والسودان: تأزم الملف داخليًا واستعصاؤه على الحل، فالتدخل السياسي الخارجي، فتحكيم و/أو رأي دولي، فاستفتاء شعبي، فحكم ذاتي قد يتطور إلى ما بعده.
وأعتقد أن هذا المسار واضح جداً في مخيلة صانع القرار التركي، وهذا ما يبرر حدة الموقف من التصعيد الحالي ومن حزب الشعوب الديمقراطي تحديداً، ويضع الإطار لمحاولات الحكومة الانفتاح على لاعبين جدد في الساحة التركية يمكنهم موازاة أو منافسة العمال الكردستاني والشعوب الديمقراطي على تمثيل الأكراد، ويفسر أيضاً الاستدارة التركية في السياسة الخارجية ومحاولة تدوير الزوايا لتقليل عدد الخصوم في الإقليم، تركيزاً على القضية الأهم والأخطر، وتخفيفاً من تدخلهم -السيئ- فيها.
تدرك تركيا أن التطورات الحالية والمستقبلية القريبة ستصوغ مستقبل القضية الكردية ومستقبلها هي ومستقبل المنطقة برمتها ربما، ولذلك تعتبر نفسها أمام امتحان مصيري تهون دونه كل الخسائر والتنازلات الأخرى التي تعتبرها هامشية، وتسعى بكل قوتها لئلا تـُستدرج إلى أول الطريق المتدرجة والمتدحرجة نحو التدويل.