خمس سنوات بعد رياح الانتفاضات السلمية العربية.. ورغم حصارها والتصدي لها داخليا وخارجيا، إلا أنها صامدة ومستمرة. إنها وبحق صحوة الكرامة ونسمة الحياة التي تحولت لعاصفة حقيقية.
(الثورة المصرية – ثورة الغضب) هي ثورة شعبية بدأت في يناير2011.. ثورة ملهمة خرجت من رحم الشارع، ولم تنتج من انقلاب كما جاء في ثورة 23 يوليو 1952، ومستمرة ما بين أمواج المد والجزر ما بين ثورة وانقلاب. وتستمر موجات الحراك والمقاومة في الشارع والشعار (متعبناش).. تستمر وتقاوم الفساد والاستبداد وحكم الفرد لتبني (دولة) دولة المواطنة بدلا من أنظمة حكم الفرد.
الثورة باقية ومستمرة، ببساطة لاستمرار أسبابها، بل زيادة حدة هذه الأسباب واستخدام الانتهاكات الجسيمة للحقوق والحريات الأساسية كافة، من حرية التظاهر لحرية الرأي والتعبير، وعدد قياسي من السجناء يقدر بـ50 ألف سجين، وخاصة السياسيين، ونسبة غالبة فيهم من التيارات الإسلامية وسجناء الرأي والصحفيين.
وفي تقديري، عوامل الثورة موجودة ومتجذرة في غضب مكتوم (البطالة – زيادة معدلات الفقر -تأميم الحريات العامة -تأميم العمل السياسي). تحرك الناس في يناير 2011 بعد عقود من الزمن تآكلت فيها الحقوق الأساسية للمواطنين، وتم تجريف الحياة السياسية وضرب الفساد بقوة مؤسسات الدولة، ونخر كالسرطان في مفاصلها فخلق حالة من الإحباط والحرمان وتزايد الإحساس بالظلم، وانتفاء مقومات العدالة كافة وأجهزة إنفاذها في عهد مبارك (مريض العناية الحرجة.. جسد ما بين الحياة والموت)، خاصة مع تداعيات اتفاقية كامب ديفيد وانفصال مصر عن محيطها العربي، وغياب دورها المحورى والإقليمي من القضايا القومية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية وتداعيات التطبيع.
وحقيقة، وبعد انقلاب 3 يوليو 2013، تم استبدال الأحكام العرفية بشرعنة الأحكام الاستثنائية. ففي عامين تم إصدار ما يقارب 250 قانونا أقل ما يقال عنها إنها في معظمها شرعت بغرض تأميم حياة المصريين وشرعنة الفساد، وخاصة القوانين التي تختص بتعاقدات الأجهزة والدولة وغلق باب الطعن لغير أطراف التعاقد للصالح العام، ومنع المجتمع من مراقبة مثل تلك العقود التي غالبا ما يشوبها فساد وتسليط سيف الأحكام العرفيه لتدخل مصر المرحلة السريرية.
– والمدهش في ثورات الربيع العربي استجابة الشعوب العربية بشكل تلقائي لشرارة الثورة، لتمتد من بعد تونس للقاهرة وغيرها من العواصم العربية، ليتضح هنا أن الشعوب تجاوزت في قوميتها واتحادها كل التقسيمات والخلافات والحدود.
– اتهمت الشعوب العربية طوال عقود بالسلبية، وأنها مستأنسة وترضى بالحكم الشمولي وحكم الفرد إلى ما لا نهاية!!! ولكن جاء الربيع العربي ليغير هذه الصورة الذهنية والنمطية في الداخل والخارج، وليرسل رسالة واضحة أنها شعوب قادرة على التغيير السلمي المتحضر، وأنها صبورة ولكنها ليست مطية.. شابة ولم تشخ، يحمل شبابها القيم والمعاني الطوباوبية التي كانت بمنزلة الإعلان عن عودة الحياة والدماء لشريان الجسد العربي العليل والمسن.
رأيي أن أهم إشكالية يجب أن تطرح للنقاش، هي إشكالية تحوّل الحراك السلمي إلى مسلح، وخاصة سوريا، وإطلاق ألسنة الحرب في سوريا لتكون هي الكارثة (النموذج) أو البعبع كما يقولون!!! ويجب هنا بحث إشكالية تحول الحراك السلمي إقليميا، وهل هو نتاج (آليات داخلية) أم لوجود عوامل خارجية؟ هذا السؤال مهم لفهم مآل الربيع العربي.
يجب أن نعترف أن تشابك العامل الخارجي مع العامل الداخلي ساهم في إجهاض الحراك السلمي. سيقال حينها إن هذا حراك داخلي محض، ولا يوجد عامل خارجي، أي لا توجد مؤامرة، بينما ساهم الضغط الخارجي في تصعيد الشعور الجمعي بأن هناك مؤامرة.
لو بقي الحراك داخليا ونأت (الدول الإقليمية جميعا) بنفسها، لسقطت كل الحجج التي تعرقل الإصلاح. وهنا يجب تقييم الدعم الخارجي للأنظمة ودعمها بالسلاح الذي يستخدم لقتل المدنيين وقمع المعارضين في الشوارع، دون أن يقف المجتمع الدولي موقف مبادئ من كل تلك الجرائم. وكما يقول البعض: السلام ليس تجارة مربحة، بينما الحرب هي تجارة مربحة بامتياز.
وفي الحالة المصرية.. أولا: هل مفهوم الثورة السلمية أو السلمية المطلقة كان هو الخيار الأمثل؟ وهل كان لا بد أن يتمسك الثوار بالميدان ولا يسلمون الدفه لأي من مؤسسات الدولة؛ لأنها ببساطة ستكون منحازة للثورة المضادة؟!! وماذا عن خيارات القوة وتوازنات القوة في حدود المقاومة والحق الشرعي في الدفاع عن النفس، أمام بطش الأجهزة واستخدام النظام لما يعرف بالبطش والقوة الشرعية للدولة، التي تقايض بها الدولة عادة المواطن في مقابل قيامها بحمايته وصون حقوقه الأساسية، وأولها حقه الأساسي في الحياة، وتلك الحقوق ينظمها الدستور والقانون في ظل واقع مأساوي، يُنتهك فيه القانون يوميا من مشرعيه؟!
ثانيا: هل كانت قيادات الربيع العربي قيادات (تاريخية) كما في كل ثورات التاريخ، أم هي جماعات ناشطة شبابية لا تملك خبرات سياسية ناضجه في إدارة الصراع؟
– ولأنها ثورة شبابية بامتياز، أفرزت هذه الثورة آليات ضغط شعبي، ووظفت آليات الاتصال الحديثة ومواقع التواصل الإجتماعي، التي شكلت الآليات المنفذة والفعالة والأكثر تفاعلية لإحداث الضغط والتحريك الشعبي، وإيصال صوت من ليس لهم صوت، وهم القطاعات المهمشة التي تمثل الأغلبية في المجتمع. ولذلك كان قرار النظام في يوم 28 يناير وقف شبكة الاتصال، في محاولة من نظام مبارك لتدارك الثغرة.
– وفي تقديري، هذه الأدوات ستظل في المراحل الانتقالية هي الأدوات الممكنة والأكثر تأثيرا في تحريك الرأي العام وصناعة الضغط الشعبي المؤثر والفاعل، والمساحة البرلمانية الممكنة والأكثر ديمقراطية وتأثيرا في إطار إدارة تعقيدات المرحلة. وقد تساعد في تشكيل الكيانات الفاعلة فيما بعد، أو ترسخ عمل الكيانات الموجودة فعلا، وتعمل على تطوير وانتشار تأثيرها.
رأينا من تجارب حركات التحرر الوطني أنها صعدت بفضل (تبلور) قيادات تاريخية: من لوممبا في إفريقيا، إلى قيادات الثورة الجزائرية، مرورا بتجارب أمريكا اللاتينية، أي إن هذه الحركة خلقت (رموزا محبوبة) كاريزمية، بينما لم يخلق الربيع العربي أي شخصية شعبية أو كاريزمية أو محبوبة (معشوقة من الجماهير)!
وهل يمكن تبرئة قيادات الربيع العربي والأنظمة الحاكمة من تهمة السقوط في المستنقع الطائفي؟
كانت الخلافات السياسية وأحيانا الإيديولوجية بين المعارضة والقوى المدنية الفاعلة، وضعفها، والانتهازية السياسية والسذاجة السياسية، وقلة الخبرة لبعض الفصائل الشبابيه، أسبابا رئيسية في تمكن الثورة المضادة، والخطاب الطائفي أحيانا، وتضخيمه إعلاميا عبر إعلام الكراهية والتحريض، إلى جانب استخدام الإعلام الحكومي والخاص، المحسوب على الثورة أو الموالي، في خلق حالة استقطاب سياسي واجتماعي، لم نشهد لها مثيلا. وحالة الاستقطاب هذه مستمرة حتى الآن.
– لكن لا بد من تسجيل نقطة إيجابية شهدتها ثورة يناير، وهي تجاوز المجتمع لكل الانقسامات، وعودة العلاقات الطيبة بين المسيحيين والمسلمين، وإيجابية الشباب المسيحي في المشاركة في حراك ثورة يناير بعد أحداث كنيسة القديسيين، وتحول إعلاميي مبارك إلى أبواق لثورة يناير في مرحلة قوة التحرير الأولى.
– أدركت الثورة المضادة أن عوامل نجاحها في ضرب هذه الوحدة، وعملت منذ اللحظة الأولى على تفتيت الوحدة الوطنية وتقسيم الكيانات الفاعلة كلها، سواء سياسية أو مدنية. وتم استخدام كل الوسائل وخاصة إعلام الكراهية والتحريض، حتى يصير انتهاك وقتل الآخر حقا ومقبولا من قطاعات من المجتمع.
– غرقت الثورة أحيانا في الشعارات دون نسق سياسي دقيق يحتوي ويترجم تلك الشعارات الطوباوية في مطالب دقيقه. بينما الثورة المضادة تمكنت بتخطيط ومطالب دقيقة ومصالح تجمع الأطراف المتضررة؛ أن تستعيد صفوفها، بمساعدة أجهزة الدولة العميقة والإعلام الموالي، وقبله الحكومي – كما أشرنا – وتتم حسابات العملية السياسية الآن من داخل غرف عمليات الأجهزة – كما جاء في شهادة سياسي مصري من المشاركين في 30 حزيران/ يونيو وانقلاب 3 تموز/ يوليو – بعد إقرار الخطوة الشكلية الأخيرة بتشكيل برلمان موال مستأنس لتمرير كل ما تم تشريعه من قوانين معيبة وكأن ثورة لم تقم!!!!
ومن الوطنية هنا تقييم الخسائر وثمن الانقلاب على المسار الديمقراطي
في شهر ديسمبر 2010، كان احتياطي النقد الأجنبي في مصر يتجاوز 36 مليار دولار، أما اليوم فيصارع البنك المركزي المصري من أجل الحفاظ على مستويات الـ16 مليار دولار فقط. ويبدو واضحا أن الرقم سيهبط سريعا خلال الشهور القليلة المقبلة.. أما الكارثة فتظهر لنا بكل وضوح عندما نعلم بأن إجمالي الديون الخارجية لمصر بلغ 46.1 مليار دولار، كما هو في ديسمبر 2015، أي إن إجمالي الديون الخارجية تزيد بنحو ثلاثة أضعاف عن السيولة النقدية المتوفرة لدى الحكومة في مصر.
وحصلت مصر على ثلاثة قروض مختلفة، تمثل هذه القروض الثلاثة مؤشرا آخر على حجم وعمق وخطورة الأزمة الاقتصادية التي تعيشها مصر. أما القرض الأول فقيمته ثلاثة مليارات دولار ومصدره البنك الدولي، والقرض الثاني قيمته مليار ونصف ومصدره بنك التنمية الإفريقي، فيما يتمثل القرض الثالث في أذون خزانة بقيمة سبعة مليارات جنيه أصدرتها وزارة المالية المصرية وبفائدة 12.5%.
ويرى المحللون الاقتصاديون أن القروض المتراكمة على الحكومة، مع تهاوي حجم الاحتياطي من النقدالأجنبي، ومع تراجع حاد في إيرادات قناة السويس، إضافة إلى تدهور آخر في القطاع السياحي الذي تشكل إيراداته أكثر من 13% من تدفقات النقد الأجنبي على مصر، كل هذا يدفع إلى الاعتقاد بأن الاقتصاد في مصر يسير في طريق مجهول، وأن سعر صرف الجنيه المصري الذي هبط بأكثر من 15% منذ منتصف يوليو 2013 حتى الآن؛ سوف يواصل الهبوط خلال الفترة المقبلة، ليصل الدولار الأمريكي الواحد إلى عشرة جنيهات، وهو ما سيؤدي بالضرورة إلى ارتفاعات حادة في أسعار السلع والمواد الأساسية، وبالتالي يتسبب بمزيد من التدهور.
هذا من الناحية الاقتصادية، وتداعيات الممارسات المتخبطة للنظام، واستمرار التعامل بمنطق الحلول الأمنيه، والاستعانة بأهل الثقة، ومعاداة كل رأي مخالف، وإعمال سياسات الإقصاء والتهميش بل وشيطنة الآخر خروجا حتى على خارطة 30 يونيو التي تم إعلانها حينها، وكان يدعي أطرافها القيام بمصالحة وطنية شاملة وإجراءات عدالة انتقالية، تلك التي تم استبدالها بإجراءات انتقامية وثأرية…. كل هذه الأجواء خلفت غضبا مكتوما وتفككا حتى في جبهة 30 يونيو، التي نسمع ونرى الآن شهادات ممن شاركوا فيها..
ورد فعل الشارع اتضح مؤخرا جليا في العزوف الشعبي عن انتخابات 2015، وهي صورة لموقف شعبي ورسالة تترجم واقع الأمر، وسيكون لها تداعيات اجتماعية أكبر من تداعيات تشكيل برلمان 2010.
تم تقدير عدد السجناء السياسيين في عهد طوارئ مبارك بـ 30 ألف سجين، تم اعتقالهم طوال الثلاثين عاما، وطبقا لمنظمات حقوقية في عام 2010، تم رصد ما بين خمسة آلاف و10 آلاف حالة لسجناء ومعتقلين لمدد طويلة دون محاكمة.
أما في عهد انقلاب يوليو، وفي ظل نظام السيسي، وصلت الأعداد وطبقا لأقل تقديرات في العامين الآخيرين لما يقارب 50 ألف سجين ومعتقل، تكتظ بهم الزنازين والسجون وأماكن الاحتجاز، فضلا عن حالات الاختفاء القسري التي صرحت الداخلية مؤخرا أنها تتجاوز المئة حالة لأناس تم القبض عليهم واحتجازهم دون توجيه تهم، ودون معرفة ذويهم أماكن احتجازهم، لكن راحت الداخلية تنكر حيازتها لهم في البداية وطوال شهور، لتعود وتذكر أنها تحقق معهم، بما يخالف القانون والدستور، ولتصبح الآن مشاهد الانتهاكات الجسيمة شبه يومية، وكذلك القتل بالإهمال الطبي وأحيانا التعذيب في أماكن الاحتجاز كأقسام الشرطة والسجون. وشباط/ فبراير الأسود عام 2015 شهد في أسبوع واحد مقتل 3 أشخاص تعذيبا في أماكن الاحتجاز.
وتم استبدال قانون الطوارئ بحزمة من القوانين المقيدة، ومنها قانون الإرهاب الذي يصادر الحق في حرية الرأي والتعبير، والحق الأساسىي في الوصول للمعلومة وتلقي الأخبار وتداولها ونشرها، كتعريف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته 19.
مصر اليوم لن ترضى إلا بالريادة والدور المحوري والإقليمي الذي يتطلع له أبناؤها المحبون ممن دفعوا كل غال وثمين لتتحرر مصر، وتعود من جديد تملك حقها الأساسي في تقرير المصير. ولن يتنازل أبناء الوطن الشرفاء عن عودة المسار الديمقراطي.
وهنا يجب أن يتحد كل الفرقاء من أبناء الوطن المخلصين لثورة 25 يناير، وليكن وضع ميثاق شرف للثورة المصرية يجمع عليه الفرقاء من مختلف التيارات السياسية والمدنية، للتمسك بمدنية الدولة وحق الشعب بأن يحكم نفسه بنفسه من خلال ممارسات ديمقراطيه، وفتح باب الحوار السياسي الجاد.
ويبقى الأمل في بلورة وعي الشارع. فبرغم التنكيل الشديد وكل تلك الانتهاكات الجسيمة، لا زال أحرار الوطن يسطرون بشجاعة من خلف الزنازين وفي شوارع مصر؛ ملحمة للتحرر والكرامة وحب الحياة.
وللشعب المصري العظيم إرادة الحياة ستنتصر على القتل وعلى الظلم
رحم الله شهداء ثورة يناير، والحرية لكل المعتقلين والمناضلين.
ولكل المهجرين: احزموا الأمتعه.. غدا تعود كل الطيور المهاجرة منتصرة مع مطلع الشمس… وشمس الحرية لن تغيب عنك يا هبة النيل.