ماكينة الدولة المصرية دائما تصل بك إلى النتيجة ذاتها، مهما حاول المصلحون، ومهما اجتهد المقاومون.
كانت خطيئة أجيال ما قبل ثورة يناير أنهم ظنوا أن الدولة المصرية يمكن إصلاحها بقليل من التعديلات الشكلية أو الجوهرية في غرفة قيادة الدولة، ولكن الحقيقة التي ثبتت عبر عشرات السنين أن نظام الدولة المصرية لا يفرز إلا القذارة، وأنك كلما ارتقيت في السلم الوظيفي في الدولة المصرية ستجد مزيدا من القذارة، وكلما أوغلت في المؤسسات السيادية التي تتحكم في الدولة ستجد الأكثر قذارة، حتى تصل إلى قمة الدولة … وستجد فيها أقذر ما يمكن أن تتخيله، ستجد من القذارة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب قَذِرْ!
(السيستيم) الذي تعمل به الدولة المصرية لا يسمح إلا لأقذر الناس بالتدرج في الوظائف والمناصب العليا، وإذا لم تصدقني يكفيك أن تنظر إلى حال الدولة المصرية اليوم.
لقد أصبح كل شيء في مصر (في عهد المخلوع اللص مبارك) بالتعيين، ولا مجال لتعيين أي شخص في منصب كبير أو صغير إلا بعد أن توافق الأجهزة الأمنية عليه، ومجرد موافقة الأمن تعتبر (شهادة قذارة)، وإذا كانت الموافقة الأمنية في كثير من الأحايين أمرا روتينيا، إلا أن الواقع العملي جعل منها ورقة لمساومة مئات الآلاف من البسطاء، فتلعب معهم أجهزة الأمن القذرة لعبة القط والفأر … تعيينك مقابل تقارير تكتبها، وبهذا الشكل تم تجنيد مئات الآلاف من “الغلابة” في كل مكان تتخيله.
كيف يمكن لدولة بهذا الشكل أن تتقدم؟
كيف يمكن لرجل محترم أن يرتقي في السلم الوظيفي لدولة عمادها المخبرون؟
السيد المستشار عدلي منصور (على سبيل المثال لا الحصر) جلس على كرسي رئيس الجمهورية بالصدفة، فأدى كل ما طلبه منه العسكر برضى تام، وهم لم يبذلوا جهدا يذكر في تولية عدلي منصور هذا، وكانوا متأكدين أنه سيؤدي المطلوب، وإذا جاء غيره سيؤدي المطلوب أيضا، لأن موقعه في الدولة لا يمكن أن يصل إليه إلا شخص “يؤدي المطلوب”!
لقد تنازل هذا العدلي منصور عن مساحة من مصر هي أكبر من مساحة سيناء، وفيها آبار غاز بإمكانها إنقاذ البلاد من هذا الوضع الاقتصادي المتردي، وقد وقع هذه الأوراق بمنتهى البساطة، ودون أن يطرف له جفن، أو تهتز له يد.
أصبحت آبار الغاز المصرية في المياه المصرية في البحر المتوسط ملكا لإسرائيل واليونان وقبرص، وسوف تستوردها الدولة المصرية مرة أخرى بأغلى الأسعار من هذه الدول … إنها خيانة مجسمة … نظام يدفع الجزية لإسرائيل لكي يستمر في الحكم، بل إن ما يحدث الآن أسوأ من الجزية ألف مرة، لأنه أمر مهين مهين!
وقام هذا الرجل أيضا بالتوقيع على سائر القوانين التي أرسلها له المجلس العسكري دون تردد، ولم يفكر كيف يمكن لرئيس المحكمة الدستورية أن يوقع على قوانين لا تمت لأي دستور بأي صلة.
هذا الشخص نموذج لما يمكن أن تصل له دولة الاستبداد العسكرية، إنها تضع الـ”سيستيم” الذي يوصل أمثال هؤلاء (فقط) إلى المناصب العليا، وبعدها يصبح كل شيء هينا، وتصبح جميع القرارات سهلة، وتصبح سائر الخيانات عملا عاديا كقهوة الصباح.
لقد أظهرت أحداث ثورة يناير أن الدولة المصرية ليست أكثر من “ماكينة خيانة”!
اليوم … على رأس الدولة شخص تافه، أقل وصف يمكن أن يوصف به هو الخيانة، في عهده وبيده الآثمة وقعت مصر على صك يحرمها من ماء النيل، ويمنح (عمليا) سائر دول المنبع حقوقا لم تكن تحلم بها، وهو بتوقيعه ذاك لم يستفد إلا أن ظهر بمظهر رئيس الدولة الشرعي الذي يوقع، ويمنح، ويقرر … ولم يعبأ هو ومن حوله بالتأثير القاتل لتلك الوثائق التي وقعوها.
من أسوأ ما يمكن أن يعتمد عليه البعض أن ينتظروا التغيير من داخل مؤسسات الدولة، والحقيقة أن السوس قد نخر في قلب عظام سائر المؤسسات، وخصوصا تلك المؤسسة التي ينتظر البعض منها التغيير!
التغيير من داخل الدولة لن يكون في صالح الحرية والديمقراطية، ولن يكون في صالح بسطاء المصريين الذين يمثلون الغالبية الكاسحة من المصريين، بل سيكون في صالح المستبدين، وفي صالح أعداء هذا الوطن.
من المؤسف أن يتحدث الناس عما في أيدي الآخرين، بينما يتناسون ما في أيديهم، فيتحدثون عن سيوف لا يملكونها، بل هي سيوف أعدائهم المسلطة على رقابهم، ويتناسون في خضم هذا الحديث أن سيوفهم في أغمادها، وأنهم يستطيعون بقليل من الجهد أن يسلوها، وأن يشحذوها، وأن يعطوها فرسانا لا يخافون الوغى.
الأمة المصرية أمام اختبار كبير، فبناء سد النهضة سيتبعه بناء عشرات السدود، وإذا مرَّ هذا السد فلن يوقف ما بعده أي شيء، ولو توقف هذا السد فلن يبدأ من بعده أي مشروع آخر.
إن جريمة حرمان المصريين من مياه النيل تقع بالأساس على الرئيس المخلوع مبارك، فهو من قطع علاقاتنا بدول إفريقيا، ودول منابع النيل بشكل ممنهج، ويتحمل السيد عمرو موسى وزرا كبيرا في هذا الأمر، فهو عرّاب قطع العلاقات مع إفريقيا منذ محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا عام 1995، وبرغم ذلك، فإن مبارك لم يوقع ورقة واحدة تغير من الأوضاع الثابتة لنهر النيل منذ عشرات السنين.
ولكن يمر الزمان … ويأتينا هذا الرئيس السيكوباتي التافه، ليوقع ورقة هي الخيانة بعينها!
لا حل لإنقاذ مصر إلا بتغيير النظام، تغيير “السيستيم” الذي لا يخرج منه إلا مجموعة من القاذورات!
إن دعوات الاصطفاف الثوري اليوم هي الخلاص الحقيقي لمصر من كل هذه المشاكل، ولا بد أن يلتف المصريون حولها، وبأقصى سرعة، لكي نحاول تدارك ما فعله هؤلاء المجرمون، قبل أن نجد أنفسنا نموت عطشا وجوعا، بعد أن تركنا هؤلاء الخونة وذهبوا ليعيشوا منعمين في قصورهم التي تجري من تحتها الأنهار في أغنى بلاد الدنيا.
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين …