من أي طينةٍ خلق الله السفير محمد رفاعة الطهطاوي، حتى يكون الرجل شامخاً وصامداً وواثقاً بهذا الشكل الذي ظهر عليه في سرادق عزاء والدته؟
هو التنويري الحق، في زمن المستنيرين المزيفين، هو الأحق بالانتساب إلى رائد التنوير، رفاعة الطهطاوي، ليس بالنسب والدم فقط، وإنما بالفكر والروح والقيم الإنسانية الرفيعة.
خرج محمد رفاعة من محبسه، ليأخذ العزاء في والدته، رحمها الله، بعد أن سمحت له السلطات بالذهاب إلى مقر العزاء، مقيداً بالأغلال، وتحت الحراسة المشددة، وسط جيشٍ عرمرم من الضباط والجنود، ليتحول السرادق إلى مناسبة ثوريةٍ بامتياز.. أمسك رئيس ديوان الرئيس الأسير محمد مرسي بالميكروفون، وألقى خطبةً، في وداع والدته، كانت مناسبة ليحيي صمود الثوار في الميادين، وصلابة النبلاء في الزنازين، ويفاخر بأن سارقي الأوطان والثورات سجنوه بتهمة ملفقة: التخابر مع المقاومة الفلسطينية (حماس).
قال رفاعة: الحمد لله أني متهم بالتخابر مع من يقاومون العدو .. شرف لأي مصري أن تكون هذه تهمته على يد نظامٍ يمارس الحكم جلوساً في حجر العدو الصهيوني.
مشكلة السفير محمد رفاعة، أو جريمته، أنه الأكثر إلماما بتفاصيل المؤامرة على الثورة المصرية، والأكثر إمساكاً بخيوط الجريمة التي نفذها الجنرالات في حق مصر. لذا، كان لابد من إسكاته، بوضعه في السجن، بلا تهمة أو جريمة، حتى ألفوا له قضية من لا شيء، وضموه إلى نكتة “التخابر مع حماس”.
كان السفير رفاعة أول المنضمين إلى صفوف الثورة، ملتحقاً بالثوار في ميدان التحرير، ملقياً باستقالته مستشاراً لشيخ الأزهر في وجه صاحب العمامة، القادم من أمانة سياسات حسني مبارك وولده.
في سرادق العزاء، بهت الحضور حين اهتزت جدران بكلمات “الأسير رفاعة” عن الثورة، وعن شرف الحبس في السجن، في زمنٍ لا يتمتع فيه بالحرية إلا المصفقون لسافكي الدماء، المبررون للبطش والقمع، متحدثاً عن إنسانية الرئيس المحبوس ووطنيته وبسالته، فتلمع الدموع في عيون المعزين، ويرتبك الضباط والجنود الذين جاءوا به مقيداً بالكلابشات، ويوجه رسالته للناس: باقون على عهدنا مع الثورة، متمسكون بوطنٍ عزيز، يعرف أصدقاءه من أعدائه.
صمت شيخ الأزهر، كما صمت، وهو يشاهد فصول التنكيل الوقح بنائبه، الشيخ الجليل والعلامة الثائر، الدكتور حسن الشافعي، الذي مارس معه رئيس جامعة القاهرة، جابر نصار، كل أساليب التدني في الفعل والقول.
لم، ولن يعزيه، بهاء طاهر الذي وضع كتابا عن “أبناء رفاعة” فهو مشغول، مثل جيش من المثقفين، بتمجيد الجنرال، القائد الضرورة، الذي مشى بمدرعاته فوق كل قيم الاستنارة والتحضر، ودهس آلاف الجثث في الطريق إلى الحكم.
في يونيو الماضي، أزعجت ابتسامة السفير رفاعة سلطة العسكر، وهم ينطقون بالحكم ضده في قضية التخابر مع حماس، فلم يتحمل مراسل التلفزيون المصري المشهد، فراح يهذي بأن ضحكة المحبوسين في قفص المحكمة غير حقيقية، ويخاطب المشاهدين أن لا يصدّقوا ابتسامة النبلاء سخرية من عبث السلطة بالقضاء وبالتاريخ.
وفي هذا الأسبوع، تحولت دموع رفاعة على والدته الراحلة إلى فيضان من الصمود والشجاعة والإصرار على التمسك بالحق والتشبث بالقضية، لا شك أنه أصاب سجانيه بالذعر.
سلام عليك، يا حفيد الاستنارة الحقة، وخالص العزاء لك ولمحبيك.