قرار إخلاء سبيل المصوّرة الصحافية، الصغيرة، إسراء الطويل، من محبسها الاحتياطي، بعد مائتي يوم ويوم، من الاعتقال، شكّل دوامات من الفرح العام بهذا “الانتصار الصغير”، وسط محيط من الهزائم الإنسانية والخسائر الأخلاقية.
استند قرار المحكمة إلى ظروف صحية بالغة السوء، تعاني منها إسراء منذ القبض عليها، ولم يحرّك عكازها مشاعر السادة القضاة والسادة الضباط، في جهاز الشرطة وجهاز الإعلام، على السواء، وأمعنوا في التوحّش والاستئساد ضدها، على نحو بدا معه وكأن الدولة “الكبيرة” قد انتهت من كل معاركها في الخارج والداخل، فحشدت كل قواها وأسلحتها، المجرّمة دولياً، لمحاربة إسراء الطويل.
حتى وهي تتخذ قرار إخلاء السبيل، حرصت الدولة على عدم إعادة الحرية كاملة لإسراء، فجاء القرار مشروطاً بأن تلزم بيتها، لا تغادره إلا لتلقي العلاج، تحت الحراسة المشددة، ووضعها تحت المراقبة الدائمة، لمنعها من السفر والتحرك، إنْ فكّرت في ذلك.
غير أن هذه الغطرسة الرسمية، لم تَحُلْ دون وقت مستقطع من الفرح بقرار الإفراج عن واحدةٍ من بين أكثر من أربعين ألف معتقل وسجين ومختفٍ قسرياً، حسب تقديرات معلنة، مع الوضع في الاعتبار أن تقديرات أخرى ترتفع بالعدد إلى ما هو أكثر من ستين ألفاً بكثير.
ويجدر بالجميع، هنا، وهم يحتفلون بمنح إسراء كسرة من خبز الحرية، أن يتذكّروا عشرات الآلاف الآخرين، ممّن تنغلق أبواب السجون والمعتقلات على عظامهم، وينخر البرد والتعذيب والانتهاك في إنسانيتهم، فجميل أن نفرح ببعض الحرية المستحقة لإسراء، والأجمل ألا ننسى زميليها بالقضية نفسها، صهيب وعمر، وغيرهما من الآلاف المؤلفة من المظلومين المجهولين.
نغني لاستعادة إسراء، المشروطة، وخروجها من الزنزانة الضيقة إلى زنزانة أوسع، ونحن نعيد قراءة تقرير “العفو الدولية” عن مازن، طفل الرابعة عشرة، الذي عذّبوه، وانتهكوا آدميته في زنازين عبد الفتاح السيسي، والذي يروي طرفاً من الأهوال بقوله إنه “تم نقله بعد القبض عليه إلى مركز شرطة ثاني مدينة نصر يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وتم تكثيف التعذيب، وأن شرجه أصيب نتيجة الاغتصاب المتكرر بعصا خشبية، بعد أن رفض الاعتراف بعضويته في جماعة الإخوان المسلمين، ومشاركته في الاحتجاجات وأسماء المتظاهرين الآخرين، حيث أخبروه بأنه سيتم نقله إلى الأمن الوطني، وحذّروه من أنه سيتعرّض لتعذيب أشد، ويتم القبض على والديه، إذا كان تراجع عن “اعترافه”.
ما بين عكاز إسراء الطويل، الخشبي، وعصا اغتصاب مازن، الخشبية، تنحشر مصر السيسية، إذ تمضي عمليات تجريفها إنسانياً، وحرقها أخلاقياً، بحيث لا يبقى فيها إلا ناعقون وناعقات من عيّنة مظهر شاهين، الشيخ المعتزل، وعزمي مجاهد، اللاعب المعتزل، وكلاهما احترف الإعلام المكارثي، وداليا زيادة، الحقوقية التي اعتزلت الإنسانية، واحترفت الفاشية.
مظهر شاهين الذي سخر من عكاز إسراء الطويل، واعتبره “سيناريو خايب وبايخ وممل للاستعطاف”، ماذا يقول الآن عن قرار محكمة الجنايات بالإفراج عنها لظروف صحية، وتبرئة عكازها من التمثيل والادعاء؟
وماذا يقول عزمي مجاهد، بعد أن توعّد إسراء على الهواء مباشرة “هنحاسبك، ونخليكي تعيّطي دم كمان، مش دموع بس، لحد ما تتعلّمي يعني إيه وطن”.
وما رأي داليا زيادة، مدير المركز المصري للدراسات الديمقراطية، وهي التي قالت “مش كل حد يعوج رجله أو يمسك عصاية أو يعيط يبقى بريء، وافتكروا فيلم محمد سلطان، وانتم بتتفرجوا على فيلم إسراء الطويل”.
سيخلّد التاريخ عكاز إسراء الطويل، وسيضمه إلى متحف الإنسانية، بمفهومها النقي النظيف، وسيضع خشبة انتهاك الطفل مازن في عيون الأوغاد السفاحين، حين تغتسل مصر يوماً، عمّا قريب، من كل هذا القبح، وتتطهّر من كل هذا العار الحضاري.