يعتتقد البعض أني أرفض الاصطفاف كمبدأ وكقيمة يجتمع حولها الثوار.. بالطبع لا.. أنا أرفض الاصطفاف كهدف في حد ذاته يتم التغاضي من أجله عن خطايا وجراحات تسببت في بتر أعضاء من الجسم.. لا يمكن أن تضمد جراحًا دون أن تنظفها وتخيطها وتعتني بها.
إن تسطيح الأمور والقفز من فوق حواجز بغض النفوس لن يوصلنا إلى أي مكان.. عدم تفنيد المواقف والحوم حولها دون الولوج إليها هي أهم أسباب فشل ما يتمناه البعض من توافق.. المساواة بين الأخطاء والخطايا.. المساواة بين القاتل عن عمد والقاتل عن إهمال.. المساواة بين من أخطأ وهو في أعلى درجات نشوته ومن أخطأ ورجلاه تلتف على بعضها.. الرعب من إطلاق لفظ الخيانة على أي من عناصر المرحلة السابقة.. يجعلنا ندور في محيط الدائرة نفسه لا نستطيع الخروج ولا التوقف.
إنك إن أردت أن تجهز صفًا ليحارب في معركة.. تحتاج لرجال أصحاء أقوياء مجتمعين على هدف واحد.. يخلصون من أجله.. أما وقد انتفت صفة الإخلاص.. فلا عجب لو انقلب النصر هزيمة..
أحب أن أشير هنا أيضًا لملاحظة لفتتني.. من بدأ بالتعالي.. ومن كان يمد يده للتعاون حتى بعد الانقلاب مباشرة؟!
وسط رفض عارم من جموع مؤيدي الشرعية وفي أحلك اللحظات، كانت أيدي قياداتهم ممدودة راغبة في الاصطفاف.. ولكن على أرضية الحفاظ على الاستحقاقات الانتخابية الخمسة.. ثم تنازلوا إلى الحفاظ على شرعية مرسي كممثل وحيد لمكتسبات الثورة.. ثم تنازلوا في مقابل الحفاظ على مرسي كرمز وعندما يزول الانقلاب يمكن وقتها عمل استفتاء شعبي.. أو إيجاد حل بديل.. قوبل كل ذلك بكمية من الصلف والغرور والتكبر غير مسبوقة من التيار الليبرالي الذي لم يقدم تنازلًا واحدًا أو حتى رغبة في التفاهم.. والذي ما لبث أن أرغى وأزبد أن من يواجهون الانقلاب إنما يواجهونه للحفاظ فقط على كرسي السلطة وللحفاظ على مرسي الإخوان.. بل زادوا أنهم هم من تسببوا في ما حدث لقتلاهم.. وأن الإخوان هم سبب ما حل بالبلاد من خراب لذا لا يمكن أن يضعوا يدهم في أيديهم.. بل ذهبوا لأبعد من ذلك.. إذ أكدوا اتهام السلطة للإخوان بالإرهاب؛ حيث اعتبروه رد فعل طبيعيًا لما فعله النظام بهم.. وبذلك ساعدوا في نزع وصف السلمية عما يقوم به التيار المؤيد للشرعية في تظاهراته أو اعتصاماته.. وعليه لم يشعر مؤيدو الشرعية بأي لين من جانبهم.. بل شعروا أنهم إنما يصبون الزيت على النار.. وهنا أذكر موقفًا على سبيل المثال لا الحصر.. عندما قامت مجموعة من السيدات الليبراليات بعمل وقفة من أجل أبنائهن الذين قبض عليهم في مسيرة ضد قانون التظاهر.. وادعى وقتها تيارهم أنهم متعاطفون مع جميع المعتقلين.. صدقتهم بعض نساء الإخوان فذهبن ليقفن معهن ونلن هناك ما لا يحمد أبدًا.. وأخيرًا.. كان أداء هذا التيار في مواجهة الانقلاب متواضعًا بشكل مزرٍ أمام ما قاموا به ليواجهوا وبشكل أقل ما يقال عنه إنه غير شريف. نظام الحكم أيام مرسي.. هذا التيار قالها واضحة.. إما الرجوع لشعارات يناير وحدها وإما لا اصطفاف.. قالوا إنهم هم الثورة وهم فقط.. نفوا صفة الثورية عمن من هم خارج أفكارهم.. قالوا وما زالوا يقولون.. إذًا من بدأ بالإقصاء؟!
الغريب حقًا أن أجد الداعين إلى الاصطفاف يبالغون في وصف رد فعل مؤيدي الشرعية وهجومهم العنيف ضد الليبراليين ولا يوجهون لهم عشر هذا اللوم!!! بل إنهم كلما أظهروا تعاطفًا أو قالوا كلمة ربما حتى لا يقصدون بها الوضع الراهن في مصر.. يرقصون طربًا.. إن تنازل هؤلاء وتواضعوا وتكرموا وقالوا كلمة شبه صائبة!!! ومن ثم تظهر كلمة الاصطفاف من جديد.. وتكتب المقالات وتعد البرامج.. ثم لا يلبث أن يخبو كل ذلك من جديد!!
فلنتجاوز معًا كل النقاشات القديمة العقيمة.. سأقفز معكم قفزة في الخيال لنرسم معًا المستقبل.. دعوني أتساءل.. ماذا لو اصطففنا؟!
ألقينا جميعًا خلافاتنا جانبًا.. عدنا إلى ما ٢٥ يناير لمواجهة عدو مشترك كما فعلنا مع مبارك.. سنجتمع في ميدان.. ننبذ الشعارات والخلافات والأيديولوجيات.. فتكون ثورة بلا رأس.. تصورنا كاميرات العالم وتمتدح هذا الشعب الأبي الذي لا يرضى الهوان.. يبالغون فيقولون إن صحوتنا يجب أن تدرس في جامعات العالم.. يمنحون كل ثائر وثائرة جائزة نوبل… ثم ماذا؟!
من سيحكم؟! من سيمسك بزمام الأمور إلى أن ندري ماذا سنفعل؟! هل الدستور أولًا أم مجلس الشعب؟! هل الحكم للأغلبية ككل الديمقراطيات أم أنها تقوم على توافق غير متوافق؟! ماذا سنفعل بالاحزاب الصغيرة، أنؤجل بعض أهداف الثورة حتى تبلغ سن الرشد أم ننطلق قدمًا؟! هل نستطيع كثورة لا تمثل الشعب المصري كاملًا أن نجبر مؤسسات الدولة العتيقة على القصاص من نفسها؟! هل سنطهر المؤسسات بفعل ثوري شامل فنفصل من يحسبون على النظام القديم بفساده وعطنه فبذلك ننحي على الأقل نصف موظفي مصر؟!
ليس الاصطفاف بالصورة التي يتحدثون عنها اليوم إلا شعارًا فارغًا لا يختلف في نظري عن مدرب منتخب وطني خلاصة تدريبه للمنتخب.. أن شدوا حيلكوا يا رجالة!
حتى تكون ثورة.. حتى يكون هناك اصطفاف.. لا بد أن يكون هناك رأس.. لن نجتمع عليها أبدًا وفقًا لما أرى الآن.. لا بد وأن يضغط طرف على نفسه ليتقبلها.. إذا افترضنا ووافق الطرفين على هذا المبدأ، ما الآلية التي ستتبع للوفاق عليها؟! الانتخابات.. الاستفتاءات!!! إذًا كيف وصل مرسي لسدة الحكم؟!
وماذا لو أن هذا المنتخب فاز بنسبة 51% أيضًا؟! وماذا.. وماذا.. وماذا..
أرى أن هذا الرأس موجود وفق أزهى آلية انتخابية حدثت في مصر في تاريخها.. إذًا لماذا نبدأ من جديد؟! لماذا نريد أن نخترع العجلة؟! لماذا لا نبدأ من حيث انتهينا فنعدل عليه ونكمل ما بدأناه؟!
إن عناد طرف ولد عنادًا أكبر.. فلا تلوموا المجروح على آهاته.. اعملوا لينزل المتعجرف من عليائه.. قبل أن تضغطوا على جراح المطعون.
أتحدث هنا من وجهة نظر عامة مؤيدي للشرعية وليس من وجهة نظر جماعة الإخوان.. ولا من يتصدر المشهد من مؤيدي الشرعية.. فلا علم لي ماذا كنت لأفعل لو كنت مكانهم.. فما يلاقونه يبعث على الجنون لولا تثبيت الله لقلوبهم..
أعلم أن السياسة ليست أبيض وأسود كما أحب.. أعلم أنها تحتاج لما هو أسوأ من المرونة.. فعدو الأمس قد يصبح صديق اليوم.. أتحدث هنا لنثبت نحن.. لنفهم ما يجري.. لنبقي في ذاكرتنا حقيقة ما حدث لنعلمه لأبنائنا.. لنقول لا بقلوبنا وهو أضعف الإيمان.. لنقابل الله ونحن نفرق بشكل سليم بين درجات ألوان ما يحدث حولنا من فتن.