كيف يمكن لشخصٍ، مثل الأستاذ حافظ أبو سعدة، أن يطلب من الناس أن يصدّقوه، حين يعلن أن الانتخابات النيابية التي سقط فيها مشكوك في نزاهتها، أو باطلة، وهو نفسه الذي اصطحبوه لتفقد أحوال السجون والمساجين، فخرج يقول إن طعام السجون أشهى وألذ مما تقدمه كبريات المطاعم الشهيرة؟
كيف للرجل الذي عمل محامياً، يدافع عن سجل الحكومة المصرية الأسود، في ملف حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية، أن يتوقع أن يصدقه أحد، حين يشكو من أن الانتخابات التي أومأوا له بخوض معركتها، غير ديمقراطية، وغير محترمة؟
الرجل الذي قال عن وجبات التعذيب والانتهاك والسحل والتصفية والقتل البطيء، التي تنتجها مطابخ النظام، بداخليته وعسكره، يقدم دوراً لطيفاً على مسرح العبث السياسي الآن، بعد أن سقط سقوطاً ذريعاً، في سباق انتخابي مع زعيم الأغلبية في حزب حسني وجمال مبارك، في إحدى دوائر القاهرة.
ما قيل في دراما سقوط عمرو الشوبكي، أمام مذيع التسريبات، وسليل السيديهات، ينطبق حرفياً على حالة حافظ أبو سعدة، الذي قبل أن يبيع ضميره الحقوقي، في سوق نخاسة ما بعد الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013، وهبط من مكانه، ناشطاً ذائع الصيت في الدفاع عن حقوق الإنسان، إلى مستنقع الترويج والتسويق، لسلطة جديدة، هي، في ذاتها وتكوينها، بمثابة جريمة ضد الإنسانية.
في الجولة الأولى من مسخرة الانتخابات، فقد عمرو الشوبكي ظله السياسي، وجرّدوه من ثيابه الأكاديمية، وألقوا به في مستنقعٍ لتنهشه الضواري والكواسر، وقد سجلتُ، وقتها، أن وضعيته في الانتخابات لا تختلف عن وضعية أسامة الغزالي حرب، في قضية السب والقذف، مع مذيع المؤسسة الأمنية قبل نحو خمسة أشهر، حيث يخدع عمرو الشوبكي الجماهير، ويكذب على نفسه، حين يردّد أنه كان في “منافسة” انتخابية حقيقية مع بارونات الدولة العميقة والثورة المضادة، تماماً كما خدع الغزالي حرب نفسه، حين توهم أنه في “منازعة” قضائية محترمة مع أحد ضباع السلطة العسكرية.
ينطبق الوضع نفسه على حافظ أبو سعدة، فكلاهما كان يؤدي دوراً، لم يكن مسموحاً له رفضه، أو الانسحاب منه، أو الاعتذار عن عدم مواصلته، وإلا فهم جاهزون بمعدات الاغتيال المعنوي والتصفية الأدبية، يلوّحون بها، إن فكّر أحدهم في التمرد والخروج من اللعبة.. كلاهما مدرك أنه “يؤدي” شخصية “المضروب المهزوم” في فيلم ينتمي، كلياً، إلى سينما فتوات الحارة.
تعرف النخب التي ارتضت أن تُسْتٓخدٓم في مشروع الانقلاب عام 2013 أنها اختارت، بكامل وعيها، أن تبيع ثورتها، بقيمها وأخلاقياتها، لمجموعة من الأوغاد، وكانت تدرك، منذ البداية، أنها ترهن كراهيتها، أو تؤجرها، لمفتولي العضلات، انتقاماً من شركائهم في الثورة.. ويعلم الذين شاركوا في هذه الجريمة أن ميدان التحرير الذي باعته النخب الثورية إلى بلطجية الثورة المضادة كان يدار بمعرفة لواءات مخابرات دولة مبارك، من غرفة عمليات، في البناية التي كان فيها مكتب قناة “الجزيرة مباشر” في الميدان، بدءاً من دفع مستحقات “الهتيفة” وحتى التحكم في الصعود إلى المنصات، وإمساك الميكرفونات.
مرة أخرى، أعيد كلاما قلته بعد عام واحد فقط من الانقلاب: يمكن بكثير من التسامح تفهم أن قطاعاً هائلاً من المصريين تعرض لعملية خداع استراتيجي في 30 يونيو، فسقط في فخ ثورة مضادة دهست بسنابكها وأحذيتها الثقيلة ثورة 25 يناير 2011.
لكن، لا يمكن، على الإطلاق، ابتلاع أكذوبة أن الطبقة العليا من النخبة السياسية في مصر كانت ضحية للخداع نفسه، ذلك أن هذه الطبقة كانت واعية ومدركة تماما أنها حاشدة ومحتشدة ومحشودة لإسقاط ثورة يناير، وليس لإسقاط نظام حكم الدكتور محمد مرسي.
كل المقدمات كانت واضحة لا لبس فيها، ولا تشويش، كان الأبيض واضحاً والأسود أوضح، بحيث كان الذين زأروا كأسود جائعة، طلبا لرأس نظام الحكم المنتخب لأول مرة، راضين تماماً بدور الأرانب، وربما الفئران، في ماكينة انقلاب الثورة المضادة، طمعاً في قليل من العشب، أو اختباء من جنون الماكينة المنطلقة بأقصى عنفوانها.
لذلك، يبدو غريبا حقا، ومقززاً أن يسلك حافظ أبو سعدة، ومن لف لفه، وسقط سقوطه، وكأنهم فوجئوا بنتائج حزينة، لمقدمات كان واضحاً أنها كارثية.