ثلاثة أشياء، يفصل الواحد عن الآخر منها آلاف الأميال، وتعكسها مناسباتٌ مختلفة، كل الاختلاف، غير أنها تصنع مع بعضها لحظةً درامية خطيرة، على مسرح السياسة العربية.
للوهلة الأولى، قد لا يبدو أن ثمة رابطًا بين قفزة تواضروس الثاني، بابا الكنيسة المصرية، في مستنقع التطبيع الديني، وظهور باسم يوسف، المذيع الساخر، في حلته الشرق أوسطية النموذجية، في حفل جوائز “إيمي الأميركية”، وأخيرا الإعلان عن قرب افتتاح ممثلية للعدو الصهيوني في أبو ظبي.
غير أنك لو أجريت عملية تركيب للمشاهد الثلاثة، ودققت فيها جيدًا، ستكتشف أنك بصدد لحظة شرق أوسطية، نموذجية، وفقا لأحدث نسخة من كتاب الشرق الأوسط الجديد.
يمكنك أن تستعين، لفهم الصورة أكثر، بأن تضيف للعناصر السابقة خبرًا، نشر يوم زيارة تواضروس لإسرائيل، يقول إن هيئة كبار العلماء التابعة للأزهر قرّرت في اجتماعها، برئاسة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، عقد مؤتمر عالمي عن القدس الشريف، في فبراير المقبل، من أسبابه “مناقشة ما يثار حول زيارة المسجد الأقصى، ومدى تأثيرها وانعكاساتها علي القضية الفلسطينية، ومصلحة الشعب الفلسطيني الشقيق”، من خلال ما وصفه الخبر اجتهادًا جماعيًا.
غني عن البيان، هنا، إن قضية التطبيع الديني قتلت بحثًا، واجتماعات وتوصيات، منذ “كامب ديفيد” و”أوسلو”، وهناك قرارات معلنة وموثقة، ترفض زيارة القدس الشريف، تحت الاحتلال الصهيوني، باتفاق المؤسستين الدينيتين الأكبر، في مصر، الأزهر والكنيسة، فما الذي استجدّ لإطلاق نفير الهرولة نحو العدو مرة أخرى؟
بالعودة إلى حفلة “إيمي”، بطولة باسم يوسف، لا ينكر ، إلا حاقد وموتور، أنه شاب موهوب، يمتلك حضورًا وقدرات كوميدية جبارة، غير أن السؤال هنا: هل العالم يحتفي بالموهبة وحدها، في كل ما يصدر عن المنطقة العربية؟
في كلمته، بالانجليزية الفصيحة، بدا باسم يوسف، شكلًا ومضمونًا ومنطوقًا، ابنًا وفيًا للقيم والمعايير الدولية الجديدة، الخاصة بتصور العالم العربي، والشرق الأوسط الجديد، تلك القيم التي تتأسس على إسقاط القضية الفلسطينية، وحذف موضوع الاحتلال الإسرائيلي، من الذاكرة والوجدان، لتصعد مكانها “قضية داعش” همًّا وحيدًا، ومشتركًا لجميع سكان الشرق الأوسط، بما يعني دمج الكيان الصهيوني والدول العربية في تحالف دولي واسع، وواحد، للحرب على الإرهاب.
على مستوى الشكل والطلة، بدا باسم يوسف متفوقًا على كبار نجوم السينما والميديا الأميركتيين. وفي المضمون، لم تسعفه ذاكرته، أو ضميره الإنساني، وهو يستعرض عذاباتِ العالم ومعاناته مع الإرهاب، من باريس حتى سيناء، مرورًا بمالي وكينيا ونيجيريا، أن يتذكّر إرهابًا أشد قبحًا وإجرامًا، مثل ذلك الإرهاب الصهيوني، الذي يمارسه المستعمر الإسرائيلي، باسم الرب أيضًا، ضد الشعب العربي الفلسطيني، صاحب الأرض والحق.
كنا نتمنى أن يستثمر النجم الهوليوودي الشرق أوسطي هذه المناسبة، ليطرق أبواب الضمير العالمي، بشأن الإرهاب الفاشي، الهولوكوست بكل معنى الكلمة، الذي تمارسه السلطة في مصر وسورية على شعوبٍ كل جريمتها أنها حلمت، ولا تزال، بجرعةٍ ديمقراطيةٍ وحرية، تروي ظمأها لحياة إنسانية، مثل التي ينبهر بها المذيع الموهوب، الذي غنى يومًا، بعد مذبحتين هما الأبشع في تاريخ المنطقة “السيسي لعبها صح”.
كلنا، مثل باسم يوسف، نلعن داعش وأباه، لكن الاستقامة الإنسانية، والموضوعية، تستلزم ألا تكون محاربًا ضد “داعش” ومتواطئا، أو ساكتا، عن “دواعش أخرى”، وبشكل خاص دواعش دير ياسين واللد وبحر البقر وصبرا وشاتيلا وقانا وغزة والغوطة ورابعة العدوية، والحبل على الجرار.
باسم مثل محترفي العبور إلى الضفة الأخرى، على قوارب غرائبية المجتمع العربي وظلاميته، كما كان يفعل الذين يعرفون من أين تؤكل كتف مترجم الأدب العربي، قدّم لهم ما يحبون معرفته عن مجتمعاتٍ، يُراد لها أن تبقى أسيرة تلك الصورة النمطية عن الشرق العربي، الذي يغوص في أوحال التخلف.
كان المفكر الإيراني الراحل، علي شريعتي، المنبوذ من غلاة الشيعة، لدفاعه عن عمر بن الخطاب، يقول في كتابه “العودة إلى الذات” “إن المثقف الذى يتجرّد من مجتمعه هو الخطر الأكبر عليه، حتي إنْ صعد على عرش المفكرين بالعالم، ليبقى مجتمعه على الإنحطاط نفسه، كما حدث في القرنين الخامس والسادس الإسلاميين اللذيْن ضما ابن سينا والرازى والغزالي، وكانت مجتمعاتنا تعيش انحطاط العصر السلجوقي والمغوليه والغزنوية، ولو جاء أبو ذر الغفارى بدلًا من آلاف من أمثال الغزالي والرازى وابن سينا، لتخلصت مجتمعاتنا من التخلف وأنظمتها الدكتاتورىة الحاكمة”.