يحرص عبدالفتاح السيسي، طوال الوقت، على استخدام عبارة “أنا بتكلم جد، أنا لا أبيع لكم الوهم”، حتى صارت واحدة من “الكليشيهات” الشهيرة التي تخفي وراءها جبلًا من الأكاذيب والأوهام.
تحتوي سلة أوهام السيسي، حتى الآن، على شبكة طرق جديدة، وعلاج جديد للإيدز، وعاصمة جديدة، وقناة سويس جديدة، ومصر قد الدنيا جديدة، وأخيرًا محطة نووية جديدة.
عامان ونصف العام من بيع الوهم للمصريين وللعالم، تتساقط فيهما الوعود وتنفضح الأكاذيب الخاصة بالرخاء الاقتصادي، والاستقرار السياسي، والهدوء الأمني، فمن غرق الإسكندرية، مرتين في أسبوع، إلى فضيحة تفجير الطائرة الروسية، مرورًا بإخفاء عشرات المليارات من دولارات أرز الخليج، يتضح تمامًا أن الجنرال لا يجيد تجارة، إلا تجارة الوهم، ولا يحسن صناعة، إلا صناعة الكذب.
من هذه الزاوية فقط، يحسن النظر إلى الوهم النووي الجديد الذي احتفل السيسي، وآلته الإعلامية به، باعتباره نصرًا مؤزرًا، ومعجزة تقود مصر إلى امتلاك الطاقة النووية، لأول مرة في تاريخها، ليكون السيسي، كالعادة، نبي النهضة ومفتتح الرخاء.
لا يختلف السيسي، هنا، كثيرًا عن ذلك المواطن المضحك في مدينة بورسعيد الذي علق لافتة أمام متجره تقول “عندنا قنال جديد وطائرات رافال وإف سكستين وأيام قطر وتركيا معانا طين”. وهم القوة هو ما يعشش في دماغ التاجر والجنرال، هما وجهان لتلك العملة الواحدة، المسكوكة من هلوسة التظاهر بامتلاك منتهى القدرة، لإخفاء الإحساس الدفين بمنتهى العجز وقلة الحيلة.
يضيفان الآن إلى قائمة “القنال الجديد والرافال والإف سكستين” محطة الضبعة النووية، في محاولة يائسة لاستمرار السيطرة على الوعي المحبوس في علب الأوهام والوعود البرّاقة، من خلال جهاز إعلام يحتقر المواطن المصري، إلى الحد الذي يجعله يبيعه الوهم الواحد مرتين وثلاثًا.
نعم، بيع الوهم النووي للمصريين مرتين، الأولى في العام 1961، فترة حكم الرئيس جمال عبدالناصر، حين صدرت أهرام هيكل، وعلى صفحتها الأولى تلك العناوين التي تدغدغ أحلام المواطن الغلبان:
“المفاعل الذري العربي بدأ في العمل”. ثم عنوان شارح كبير يقول “نجحت تجربة المفاعل الذري العربي في أنشاص وأثبت كفاءته. المفاعل بدأ في إنتاج النظائر المشعة بصفة مستمرة ودون توقف”.
كان الروس حاضرين في المرة الأولى مع عبدالناصر، كما هم حاضرون، هذه المرة، مع السيسي، مع الوضع في الاعتبار الفروق الشخصية بين زعيم وقائد دولة حقيقي، اسمه جمال عبدالناصر، وعبوة صغيرة، مقلدة ورديئة الصنع منه. وهذا هو الفرق نفسه بين “الاتحاد السوفييتي” الذي كان وروسيا الاتحادية، الحالية. وأظن أنه يمكن اعتماد الفروق نفسها بين مفاعل “أنشاص” ومحطة “الضبعة”، فالأول كان جدًا في فترة خصبة، حبلى بالأحلام والطموحات والتحديات والمعارك الحقيقية مع الأعداء، والثانية هزل وتمثيل ركيك في فترة ملبدة بغيوم الأوهام والشعوذة والانسحاق التام أمام إرادة الأعداء، والطاعة العمياء لهم.
ثم كان أن بيع الوهم نفسه، وفي المكان نفسه، الضبعة، غرب مصر، في زمن حسني مبارك، حين صدرت الأهرام، نفسها، وإنْ بلا هيكل، لتقول الآتي في يونيو 2009 “توقيع عقد إنشاء أول محطة نووية في مصر”، وتشرح على لسان رئيس الحكومة “نظيف: المحطة تتويج لرؤية مبارك دخول مصر عصر التكنولوجيا النووية”.
وها هي ست سنوات كاملة مرت على بيع حلم/ وهم مبارك النووي، من دون أن يلمس له أحد أثرًا في السوق، أو يرى له بناءً يرتفع، حتى جاء عبدالفتاح السيسي، لكي يبيع المباع، ويستثمر في الوهم الذي قتله سابقوه لعباً ولهواً بعقول الناس وأحلامهم، غير أن البجاحة تبلغ منتهاها، حين يحاولون ادعاء أن مصر لم تعرف حروف الأبجدية النووية، إلا في زمن عبدالفتاح السيسي.
ومن عجبٍ أن النظام الذي يهذي بالنووي، ويزعم أن الله بعثه لكي ينشر العلم في ربوع البلاد، ويستخدمه من أجل نهضتها، هو نفسه النظام الذي اختطف وسجن وأهان أستاذاً للفيزياء النووية، بدرجة رئيس جمهورية منتخب لأول مرة في تاريخ المصريين، وسجنه وعذبه وحكم عليه بالإعدام، لكي يجلس مكانه شخص دموي قاتل، لا يستطيع تكوين جملة سليمة واحدة، يكره العلم ويحتقر العلماء، ويحكم بالدجل والخرافة، ويجمع حوله فيالق من المشعوذين والمخرفين.
بقي أن تعرف أن الوهم النووي الذي يبيعه السيسي لك الآن يبلغ ثمنه خمسة مليارات دولارات، ستذهب للروس، في مقابل السكوت على فضيحة الطائرة، وستكون أنت دافعها من مالك ومال أولادك، وعلى حساب مستقبلهم، وستصحو يوماً على “الأهرام”، بعد عقد، تنشر في صفحتها الأولى “الرئيس فلان يدخل بمصر العصر النووي”.
كل وهم وأنتم طيبون.