أثار التدفق غير المسبوق للاجئين السوريين باتجاه أوروبا الكثير من المخاوف والمواقف، وأضفى على مسألة اللجوء أبعادا سياسية وأخلاقية بل ودينية أيضا تتصل بالفتاوى الفقهية من جهة وبمسألة الهوية المهددة من جهة أخرى، سواء أكانت هوية أوروبية أم إسلامية.
وقد قيل الكثير عن المواقف السياسية وأسباب الهجرة، على حين أن المواقف الدينية لم تلفت الانتباه، وهي تثير الكثير من الدلالات المهمة في هذا السياق، خصوصا أن فتاوى وأحكاما صدرت عن مختلف الأطراف: من هم في طرف النظام السوري ومن هم في طرف المعارضة ومِن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أيضا.
اتفقت عموم الفتاوى على إدانة هجرة السوريين إلى “دار الكفر” وتحريمها في الجُملة، فقد نشر موقع “نسيم الشام” المسؤول عن نشر تراث د. محمد سعيد البوطي نصا قديما له من كتابه “قضايا فقهية معاصرة” يرى فيه أن الإقامة الدائمة في دار الكفر والتجنس بجنسيتها محرم حرمة ذاتية (أي مطلقا)، كما خطب ابنه توفيق (يوم 21/8/2015) حول المعنى نفسه وقال: إن هذا التحريم موضع اتفاق.
وفي المقابل أصدر المجلس الإسلامي السوري بيانا، كما أصدرت هيئة الشام الإسلامية فتوى ضمن ما أسمتها “فتاوى الثورة السورية”، قررت فيها أن الأصل في السفر إلى البلاد غير الإسلامية المنع إلا من اضطُر، ويتأكد المنع في حال اللاجئين السوريين، بينما تحدث تنظيم داعش في مجلته “دابق” أن “ترك دار الإسلام إلى دار الكفر طوعا كبيرةٌ من الكبائر؛ لأنه طريقٌ يؤدي إلى الكفر”.
وترجع فاتحة الموضوع إلى فتوى أصدرها الداعيان راتب النابلسبي وأسامة الرفاعي نهاية العام 2014 حرّما فيها الإقامة في غير بلاد المسلمين، وأثارت ردودا كثيرة حتى كتب أحد أقرانهما (عبد الفتاح السيد) ردا مفصلا عليها.
يُحيل المشهد إلى دلالات متعددة:
أولاها- ذلك الاجتزاء والانفصال عن سياق الواقع ومعرفته، وهي شرط رئيسي في بناء الفتوى كما هو مقرر في الفقه، فمنذ 2011 وحتى 2013 استقبلت دول الاتحاد الأوروبي -بحسب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين- (50 ألف لاجئ)، مما يعني أن أوروبا لم تكن الوجهة الرئيسية للمهاجرين.
وبما أن هاجس المؤامرة هو المسيطر على المشهد فقد غاب التحليل المبني على المعلومات حتى بدا أن موجة الهجرة مفاجِئة ونتاج مؤامرة مدبرة راحت التعليقات والمواقف تذهب بها يمنة ويسرة، على حين أنها ترجع إلى عوامل ومعطيات من أهمها: تراجع فرص الحل في سوريا بعد إخفاق جنيف1 و2، وعبثية التحركات الدبلوماسية بين أميركا وروسيا والسعودية، وارتفاع مستوى العنف وامتداد القتال إلى معظم الأراضي السورية، والتضييق على اللاجئين في دول الجوار، وظروف اللجوء القاسية التي رصدها تقرير للمركز العربي (سبتمبر/أيلول 2015).
أمام هذه المعلومات تبدو فتوى “هيئة الشام” معزولة تماما، وتتحدث عن مخاطر السفر إلى بلاد الكفر، في حين تسكت تماما عن واجبات “دار الإسلام” التي أوصدت الأبواب في وجه السوريين وضيقت سبل عيش اللاجئين على أراضيها!
ويصل الاجتزاء إلى درجة انفصام أخلاقي فج حين يتحدث توفيق البوطي عن وجود “مؤامرة وسماسرة” في تركيا يريدون أن “يقذفوا بأبناء هذا الوطن في مهالك الموت ومهالك الضياع”، وهو يسمع ليل نهار من على سفح جبل قاسيون أصوات قذائف النظام السوري التي تهوي على “أبناء هذا البلد” فتُهلك الحرث والنسل.
الثانية- الاستثمار السياسي في أزمة اللاجئين وهو نتاج “التنافس على الدين والسياسة في سوريا” كما شرحته في مقال سابق، والذي قد يوقع في بعض التناقضات، فبيان المجلس الإسلامي السوري الذي يقدم نفسه على أنه “مرجعية شرعية” خلا من بيان الموقف الشرعي من الهجرة، مكتفيا بتقديم بيان وصف نفسه بأنه “بيان أعم وأشمل من فتاوى شرعية”، وهذا العموم والشمول أسفرا في المحصلة عن بيان سياسي بعيد عن “العلم الشرعي”.
فقد ركز بيان المجلس على سياق الهجرة وأنها نتيجة لجرائم النظام وشركائه، وممارسات الحكومات تجاه اللاجئين، وطالب الدول العربية والإسلامية بفتح أبوابها للسوريين، لكنه حين وصل إلى تحديد “الموقف الشرعي” (المفترض أنه وظيفته الأساسية) ترك الباب مواربا، مكتفيا بالتفريق بين أسباب ودوافع الهجرة بلغة إنشائية (ليسوا سواء، وشتان بين من ومن، وفرقٌ بين من ومن)، ليختم بكلام غامض “أن الكثيرين يتحملون المسؤولية الشرعية عن كل الكوارث التي تعرضوا لها أثناء رحيلهم”.
وجهُ التناقض أن رئيس المجلس الإسلامي الشيخ أسامة الرفاعي هو نفسه الذي سبق أن حرم الإقامة في بلاد الكفر، ولكن البيان كان حريصا على اتخاذ موقف سياسي وتعويم الموقف الشرعي (الفقهي) لأسباب تتعلق بعدم إثارة حفيظة الجمهور، كما أن من صاغه يأتي من خارج حقل الشريعة على الأغلب.
الثالثة- صدور مختلف الأطراف عن منطق واحد رغم اختلاف المواقف السياسية والتوجهات الدينية، فهي جميعا تستبطن صورة واحدة للغرب هي “دار الكفر” التي تُعد الهجرة إليها قذْفا في “مهالك الضياع” بتعبير البوطي الابن، أما البوطي الأب فرأى في نصه القديم أن الإقامة في الغرب تنطوي على محرمات فكرية اعتقادية ومحرمات سلوكية، والمُهاجر “يصل مع الاعتياد عليها والاستئناس النفسي بها إلى القناعة الفكرية والرضا العقلي عنها”.
على الطرف المقابل تحدثت هيئة الشام في فتواها عن “خطر الافتتان بالكفر أو الوقوع في محبة الكفار أو الرضا بدينهم أو منكراتهم أو موالاتهم بكثرة المباشرة والمخالطة”، وهو المعنى نفسه الذي تحدث عنه تنظيم داعش الذي يرى أن الهجرة “باب يتيح لأبنائنا وأحفادنا ترك الإسلام واعتناق المسيحية أو الإلحاد أو التحرر”، كما يعرضهم إلى “خطر الزنا والشذوذ والمخدرات والخمور”. أما بيان المجلس الإسلامي فاكتفى بإشارات مجملة إلى “الهوية” المهددة وصعوبة “العودة” و”مخاطر” اللجوء إلى تلك البلاد.
وهذا المنطق الواحد مخالف لمنطق الفقه الإسلامي الذي يزِن أحكامه بميزان المصالح والمفاسد، لا بناء على الظن والتخمين والتهويل، خصوصا مع تعاظم الوجود الإسلامي في الغرب خلال العقود الأخيرة. كما أن تلك المفاسد المظنونة لا تتقدم في الاعتبار الفقهي على مخاطر حفظ النفس على كمالها بما يشمل معاشها وكرامتها وحقوقها.
وللمفارقة فإن “الفساد الديني والانحلال الأخلاقي” الذي يتم الحديث عنه -وفق معاييرهم- قد يكون متوفرا في تركيا نفسها التي يقيم فيها بعض مُصْدِري تلك الفتاوى، والتي تشبه أوروبا من حيث النظام العلماني والمجتمع.
الرابعة- اضطراب الفقه المعاصر في ظل الدولة الحديثة، وقد تعددت مظاهره وكثرت، وقد رصدنا عددا منها في مقالات سابقة، فقبل عقود كان الخطاب العام أنه على المسلمين في دول الغرب العودة إلى دار الإسلام وتحريم الحصول على جنسية دولة غير مسلمة، ثم تم التكيف مع فكرة الجنسية الغربية (دون مناقشة مسألة الحصول على جنسية دار الإسلام!)، والآن يُعيدنا خطاب المشايخ السوريين إلى نقطة البداية، وكأن المهاجرين السوريين سيكونون أول المسلمين الواصلين إلى دار الكفر.
ومحل الاضطراب الإلحاحُ على ثنائية “دار الإسلام” و”دار الكفر” وكل المنظومة التي بُنيت عليها، وهي منظومة ما قبل الدولة الحديثة، والاحتجاجُ بها من داخل منطق الدولة ومن هيئات تتصارع على الدولة والسياسة!
لا يعي هؤلاء المُفتون أنهم يرتكبون تناقضات جمة حين يأخذون بنموذج الدولة الغربي ويتركون تطوراته واستحقاقاته (حقوق الإنسان ومنها حق التنقل واللجوء، والجنسية، والمواطنة..)، هذا النموذج الذي جعل من “دار الإسلام” مفهوما تاريخيا لا ينطبق على مفهوم الدولة اليوم، لأنه جزء من منظومة الهجرة والجهاد وباقي الأحكام الفقهية.
كما أن تلك الفتاوى تأتي و”دار الإسلام” موصدة أبوابها في وجه السوريين، ولو طبقت بعض المعايير الفقهية على تركيا نفسها فلعلها لا ينطبق عليها ذلك الوصف وهي التي تتبنى النظام العلماني.
الإشكال الحقيقي هو غياب خطاب إسلامي حول قضية اللجوء والهجرة بشكل عام، فليس ثمة تصورٌ مُنجز عن الحقوق والواجبات التي يقدمها التصور الإسلامي في هذا الخصوص في ظل الدولة الحديثة، بل في ظل تهاوي نموذج الدولة القومية كما نشهد في سوريا ولبنان واليمن وليبيا والعراق.
الخامسة- أن هذا النوع من الفتاوى يضع الدين في مصادمة الواقع القاهر، فخطاب التحريم يتجاهل معطيات الواقع ومنطِقه الحاكم، ويتقاعس عن مهمته الرئيسية وهي أن يرشد الناس كيف يعيشون بالدين في بلاد الهجرة، بدل أن يسد الباب ويستريح.
إن خطاب التحريم هذا -وقد كان مألوفا جدا في سوريا- جزء من بنية التفكير المشيخي السوري الذي يتشابه مع بنية النظام السياسي، كما يعكس خوفا وقلقا عاما من ذهاب الجمهور “المحكوم” بالنسبة للسلطة السياسية و”المُريد” -بالمعنى الصوفي- بالنسبة للسلطة الدينية التي تضررت في سياق السنوات الخمس، مع انفتاح السوريين على عوالم جديدة حافلة بالتغيرات وهم الذين عُرفوا بالمحافظة والانغلاق الاجتماعي.