الجميع يتحدثون عن الاصطفاف، حتى صار مبتذلًا، وأقرب إلى الإسفاف. عبدالفتاح السيسي، مجددًا، يدعو للاصطفاف، من أجل شرم الشيخ، وخيول عبدالفتاح السيسي، الهرمة، المريضة، قبل يومين دعت إلى الاصطفاف، من أجل منع سقوط جنرال الدم والفشل، والفاشي الليبرالي، ذو اللحية، جورج إسحاق، سبقهما في الدعوة إلى اصطفاف وطني، من أجل استمرار حالة معاداة الإخوان المسلمين وإقصائهم.
ثلاثي الانقلاب العجوز، عبدالجليل مصطفى ومحمد أبو الغار وعمرو موسى، قادوا بيانًا خماسيًا، بعد انكشاف عورة النظام في موضوع الطائرة الروسية، يتضمن كلامًا كثيرًا، بلا مضمون، إلا محاولة إلقاء طوق نجاة للزعيم الغارق في ارتباكه وفشله، وكأن ثلاثتهم يرددون نصوصًا من كتاب “أناشيد فايزة أبو النجا” عن المؤامرة على مصر، والتي تستدعي إطلاق نفير الزحف السياحي المقدس، من المصريين والعرب، إلى شرم الشيخ.
محترفو اصطفاف وموزعو هتافات وطنية يملأون الساحة. لا وجود هنا لشيء اسمه الدبلوماسية المصرية، بل لا وجود لدولة أو نظام سياسي أصلًا. فقط هناك عواجيز سياسة، وراقصات ملاهي ليلية، ورجال الدين، يقدمون استعراضات وطنية ركيكة ومبتذلة، فترقص صافينار في شرم الشيخ، في حب الوطنية المصرية، بعد أسابيع فقط من محاكمتها بتهمة إهانة الوطنية، لأنها تمايلت ملفوفة بالعلم المصري، ثم يأتي كاهن كنيسة ماريوحنا في أسيوط طارحا مبادرة تدشين نصب تذكاري لضحايا الطائرة الروسية، وإقامة قداس يتصدره بطريرك الكنيسة، والانقلاب، الأنبا تواضروس.. فيرد وزير الأوقاف، بعد أن أحكم وضع عمامته الأزهرية، بمبادرة “الحج السياحي إلى شرم الشيخ”، معلنًا عن مائة رحلة للدعاة والأئمة إلى شواطئها الفيروزية، لتعميق الانتماء الوطني.
هذه الإنسانية الفياضة من كاهن الكنيسة، والوطنية الكاسحة من وزير الأوقاف، لم يسمع عنهما أحد حين سقط شهداء بالعشرات في سيول الاسكندرية، وتهدمت قرى وتشرد آلاف في محافظات أخرى، ولم يكلف أحد نفسه بالبكاء على مساكين يدفعون الرشى، كي يستطيعوا دفن ذويهم.
نسانيتهم لا تتجلى إلا حين يكون صنمهم الفاشي المقدس في خطر. يستوي ذلك الكاهن والشيخ والسياسي والمطرب والراقصة، فمن يصدق أن محمد منير الذي كان يشدو صارخًا في مصر “اتكلمي” عن الذين باعوها ورخصوها وأهانوها، ويغني للإنسان “لا يهمني اسمك ولا لونك” تحول إلى المطرب المعتمد للدولة الفاشية والعنصرية؟
يحدثونك برقاعة عن الاصطفاف، وهم الذين أسسوا حكمهم على العنصرية والمكارثية وتخزين كل محصول الكراهية وإطلاقه على فصيل واحد بعينه. وفي الناحية الأخرى، ابتذال آخر لا يقل عبثية، يحول مشروع الاصطفاف إلى مشروع للإسفاف، يتسول الاعتراف من مجموعات عملت، واستُعمِلت، في معسكرات الفاشية السيسية، ولا يمانع في الإعلان صراحة عن القبول بتجاوز لحظة “25 يناير” وإسباغ القداسة على لحظة”30 يونيه”، ويعتبر الأخيرة هي “الثورة” التي انقلب عليها العسكر في الثالث من يوليو 2013، إلى آخر هذه النصوص البائسة من الخطاب التجاري، المتوشح بالسياسة، ولا يعرف صاحبه أدنى إحساس بالخجل، وهو يدّعي أنه كان يعلم، بفطنته وحنكته وحكمته، أن انقلابًا على الرئيس محمد مرسي في الطريق. ومع ذلك، لا يمانع في مفاوضته على منحه الموقع الوزاري الأكبر، ثم لا يجد تناقضًا بين ذلك كله وموافقته ومباركته ما جرى في “30 يونيو”، والتي لم تكن في أكثر القراءات تجردًا سوى مقدمة الانقلاب، فيما كان “الثالث من يوليو” مؤخرته.
لا يستطيع الباحثون عن دور “الوكيل الحصري للاصطفاف” أن يدركوا أن تملق ثورة مضادة، والتعامل معها بكل هذه “الدونية” لا يصلح لإقامة معادلة ثورية جديدة ونظيفة، وربما كانوا يدركون ذلك، غير أنهم ليسوا مستعدين للتخلي عن وظيفة “مورد القيادات الثورية الجديدة ومتعهد تصليح وإعادة تأهيل القيادات القديمة”.
ما يصلح لإدارة “بوتيك” لا يصلح لصناعة وعي ثوري محترم.