(1)
برشلونة
بالكاد أغمضت عيني بعد منتصف الليل في ذلك الفندق الضيق في برشلونة. صمم الفندق بالكاد ليطبق على رأس المرء في أحلامه. مجهد، غارق في سبات عميق، تقطعه مكالمة هاتفية من مصر في الرابعة فجر ذلك اليوم. لا أحتاج لأن أخمن فحوى المكالمة، لقد تم اعتقال عزيز آخر.
في آخر مرة تلقيت مثل الخبر ذاته عن العزيز نفسه، انتفض جسدي كله، وأصيب الجهاز العصبي بمرض عضوي.. حسنًا، هذه المرة أنا أقوى، أستطيع تحمل الخبر، مرة أخرى. في خلال أقل من 3 ساعات، أحتاج أن أكون حاضرًا بتركيز في أول أيام رمضان، في مسابقة شبكة المحررين الدوليين لهذا العام؛ حيث ألتقي سارة للمرة الأولى.
(2)
إسطنبول
فزنا للتو بهاكاثون منتدى الشرق 2015. الهاكاثون هو مسابقة لعدد من الأيام في الصحافة، تتنافس فيها فرق صحفية. كل فريق مكون من صحفي ومصمم ومطور. الصحفي يعطي الرؤية والمعلومات لحل مشكلة ما، المصمم يقوم بعمل الألوان والأشكال المناسبة للمستخدمين، والمطور يتحمل عبء تنفيذ كل ذلك معهما.
تجاوز الفريق الذي تم تشكيله للتو خمس منصات صحفية عربية، ليتقرر أنه سيشترك في نهائيات برشلونة 2015.
كانت فكرة الفوز بسيطة ولكنها مؤثرة. كل الحلول الحالية لحل مشكلة تسجيل وتدوين ومتابعة حالات المعتقلين تعسفيًّا، غير فعالة، وربما يستمر أمر التسجيل وحده لمئات الأعوام .. دون نتيجة. والمعتقلون أكثر من 40 ألفًا في مصر، وأكثر من 20 ألفًا في السعودية والعراق، وأكثر من 6 آلاف في فلسطين، وأكثر من 3 آلاف في لبنان، و5 آلاف في الأردن والإمارات .. حسنًا، لقد كانت لدينا فكرة كيف يمكن حل ذلك؟ بدلًا من مئات الأعوام، في عشرات الأيام، لا أكثر. وفزنا، وتأهل الفريق للنهائيات العالمية.
وقابلت هارون…. على الباب.
(3)
هارون
ماذا لو كان من الممكن اختلاق زيارات وهمية لموقع وول-ستريت جورنال؟ ربما تتأثر مساحة “الأكثر قراءة” التي تتغير ديناميكيًّا على الصفحة الرئيسية مثلا؟ قطعًا ستتأثر. هل يمكن كذلك اختلاق تعليقات، بحيث تتأثر المساحة “الأكثر تعليقًا”؟ هل يمكن مثلا، أن يحظى تعليق بعينه على عدد من الإعجاب “اللايك” أكثر من غيره بحيث يظهر أولًا؟ أو بعدد من عدم الإعجاب بحيث يختفي من على مقال ما بعينه؟ نعم، وهذا بالضبط عمل هارون الأساسي.
هارون يعمل في شركة تتخصص في حماية المؤسسات الصحفية من تلك الأعمال. ذلك يعني أيضًا أن هارون بإمكانه دائمًا العبث في الصفحة الرئيسية لأشهر المنصات الصحفية. بإمكان هارون كتابة “سكريبت” برنامج كمبيوتر صغير، يتسبب في صعود مقال ما لقائمة الأكثر قراءة، أو “الصاعد” Trending ويصبح فجأة في مواجهة عشرات الملايين من القراء بغير وعي منهم، بذلك يصبح هارون هو الناشر باختياره أهم ما يقدمه موقع ما، لا نيو-يورك تايمز، أو فاينانشال تايمز.. خطير عمل هارون، صح؟!
(4)
سارة
“افتح هاتفك، أرني ما لديك”، هكذا طلبت سارة مني، مباشرة.
حسنًا، لا أملك الكثير على هاتفي، فقط حساب RSS لمتابعة كل ما ينشر على ساسة-بوست طوال الوقت، وحساب برنامج إدارة الأعمال والإدارة لمتابعة نشاط أعضاء المجتمع، وبعض تطبيقات التواصل المعتادة، وتصفحت الكل مع سارة، وشاركتها كيف يمكن أن تتم متابعة مئات الأشخاص وأعمالهم طوال الوقت. أنا مهندس في النهاية، ودوري لم يكن أبدًا “تحريريًّا” وإنما “إداريًّا”.
سارة صحفية، أربعينية، أم لطفلين، ربما ثلاثة. وهي المسؤولة عن الصفحة الرئيسية لبي بي سي. لم أكن أعرف وقتها. مالت ناحيتي، فتحت هاتفها، وقالت: “كل ما أحتاج فعله هو أن أضغط على هذا الزر، ليتم نشر إشعار Push Notification لأكثر من 50 مليون شخص، الآن .. تحب أن تشاهد؟!”
حسنًا، حان وقت أن أفاجئ سارة: أخبرتها أنني توليت مسؤولية ساسة منذ بضعة أشهر، وأننا قاربنا على ما هو أكثر من 20 مليون مشاهدة، بعد أن كان كل ما وصلنا إليه في العام الماضي بالكاد 3 ملايين مشاهدة، يكفي أننا هنا الآن نتنافس معك، ونخسر سويًّا يا سارة!
علمت من سارة، أن تطبيقًا بسيطًا لصحافة البيانات وحده على البي بي سي، تسبب في فيض من الزوار أكبر من 25 مليون زائر في خلال أسبوع، أيام الألعاب الأوليمبية في لندن. وأن واشنطن بوست وحدها تملك 50 فريقًا، يتضمن كل فريق مصممًا ومطورًا وصحفيًّا، وكأنها تقول: أنت هنا وحدك.
أنا؟
كنت أقول شيئًا آخر: أنا على الطريق.
(5)
الأثر
هارون: لماذا تترك الهندسة لذلك العمل؟ صحيح حصلت على الدكتوراه؟
أنا: نعم حصلت عليها، ومتفوق في عملي، وعملت مصممًا للأجهزة، ويبدو أن كل سيارة في الشارع كانت لتحمل معالجًا من تصميمي، إن لم يكن ستة!
هارون: ولكن “أثرك” في الهندسة ربما أكبر من الصحافة؟ لم يكن سليمًا أن تترك الهندسة أبدًا.
أخبرت هارون أني أحب أن أرى أثرًا أكبر. صحيح لي براءة اختراع أفخر بها، ولكن كم شخصًا قرأها بخلاف الخمسة عشر فريقًا في العالم الذين يجيدون ما أعرفه؟ وفي النهاية، لم تكن بذلك التأثير حين تم الانقلاب في مصر، يبدو أن الأمر يحتاج ما هو أكثر من الهندسة، لتغيير بلادنا، لا أقصد الصحافة وحدها طبعًا!
أرى فيما يفعله هارون وسارة، أثرًا أوسع على عقول هؤلاء الملايين من البشر، أرى قيمة وأثرًا أعلى. أرى “معامل تأثير” Impact Factor أكبر أحيانًا من الأوراق البحثية التي كنت أكتبها. ربما أنا مخطئ. الكل مهم، ولكن أعرف من هم أكفأ مني في عملي الأساسي، ولكن في الوقت الذي فيه 50 فريقًا في واشنطن بوست كما سأعرف لاحقًا لصحافة البيانات، لا يوجد فريق واحد في أي مؤسسة صحفية عربية تقريبًا!
(6)
الميل الأول
في ساسة بوست، زعمنا أنه يمكن أن تتواجد منصة تسمح للجميع على اختلاف آرائهم بنشر ما يودون، بلا أي تدخل أو تعديل منا. وبذلك أصبحت ساسة الملجأ الأساسي لمقالات الأقليات الدينية والفكرية التي تمارَس الرقابة عليها. وأصبحت ميدانًا يتنافس فيه أب وابنه أيديولوجيًّا، ورجل وحبيبته السابقة، والأصدقاء .. وحتى المؤسسون، وتتناطح فيه الأفكار بحريّة. لقد حققنا المعادلة التي طالما قيل أنها مستحيلة في عامين.
تحملنا عبء الدفاع عن أفكار آخرين لا نؤمن بها، لأنه حقهم. وتحملنا عبء اختيار نوع بعينه من التقارير دون غيره، وإن آثر القراء أنواعًا أكثر لطفًا على العقول.
توليت مسؤولية الإدارة التنفيذية في ساسة بوست منذ عام. حملت الأمانة وقد كان زوار ساسة بحسب أليكسا حوالي ربع مليون شخص، يشاهدون 700 ألف صفحة بشكل شهري، وترتيب ساسة بوست على مؤشر أليكسا 24 ألفًا تقريبًا.
اليوم، وبعد عام آثرت فيه أن يبذل أغلب جهدي في ساسة، وبفضل جهد متواصل واعتناء المؤسسين والعاملين والمتطوعين، أصبح عدد الزوار يقارب المليون، وعدد المشاهدات ما بين 3 إلى 4 ملايين. وترتيب ساسة على مؤشر أليكسا 10 آلاف تقريبًا.
في العام السابق، لم ينشر لي أي مقال تقريبًا، كنت أرى أن الأثر الناتج من ساسة أكبر من أي شيء آخر. وأني سأنظر في نهاية العام وأنا أسعد أن ما يتم تحقيقه في شهر واحد في ذلك العام، أكثر مما كنا نحققه في عام كامل قبلها. وأن كل عامل يكاد يكون أثره في الناس يوازي عدد ما يتابعني وحدي ككاتب، ولو لم يعرفه الناس. وأني ربما أضحّي بالقرب من 90 ألف متابع على فيس بوك، وبالكتابة نفسها، لأثر أكبر من ذلك بكثير.
لقد أصبحت ساسة على مدار تلك المدة، بحسب المتطلع، ملجئًا لنخب الشباب لاستقراء الوضع القائم أو للأخبار بتقارير موضوعية موثقة بمصادر، أو منصة حرة للجميع لتبادل الأفكار .. بعيدًا عن النخب. الشباب يصنع نخبته.
لقد نما أثر ساسة في ذلك العام أكثر من 6 أضعاف، وتضاعف ما ينتج في ساسة 8 أضعاف، ولم تتغير الموارد الضعيفة أساسًا تقريبًا. وأصبحت أحد الكبار الأساسيين على شاشات مئات الآلاف من الزوار شهريًّا. لا يوجد خط مستقيم للنمو أو النجاح، ولكن كيف تم ذلك؟
(7)
هندسة
النجار بإمكانه صناعة قطعة أثاث واحدة جميلة، وكذا الفنان يستطيع أن يرسم لوحة واحدة عظيمة، ولكن يحتاج الأمر لمهندس لعمل مصنع كامل، أو حتى سلسلة مصانع. لذلك يختلف أمر إدارة العمليات، لعدد أقل من 15 شخصًا، عن إدارة مجتمع به أكثر من مائتي متطوع، وعشرات الأشخاص، وأكثر من 800 كاتب. ترى كمهندس، أميل لاستخدام الأرقام.
أرى أن بعضًا من تلك التجربة يستحق المشاركة، وأختار من ذلك أمورًا أظن أنها ربما تفيد المنصات الأخرى. وأظن أنها إسهام يلزم ملاحظته منفصلًا. ربما تود تجاوز ذلك الجزء تمامًا إن لم تكن مهتمًّا بتلك الأمور الإدارية، لأنه ممل ولو كان مهمًّا!
أولًا: النزاع كجزء أساسي للتطوير التلقائي
“تجارة الأيديولوجيا” كما أحب أن أسمي الصحافة، لا يمكن الاتفاق فيها بأي حال على جودة منتج بعينه كما في الهندسة. في الهندسة التقييم غالبًا تحكمه معايير وكراسة شروط وأرقام، بإمكانها تقييم أي عمل بدقة. في الأيديولوجيا، لا يوجد شيء يمكنه تقييم “وجهة النظر” كمّيًّا أصلا. وبذلك يصبح أي صاحب قرار متأثرًا بالأيديولوجيا التي يدافع عنها، أو حتى بعلاقاته الشخصية.
مثلا، الملحد سيجد نفسه دائمًا بشكل تلقائي مؤيدًا لآراء الملحدين مثله، وبشكل تلقائي ضد الدينيين. واليميني المحافظ، دائمًا مناهض لأفكار التحرر … وهكذا. وكذلك الصناعة كلها تخضع للعلاقات الشخصية، أكثر من القرارات الموضوعية. والحل، أن يتم قبول النزاع نفسه كجزء من عملية التجويد. أن يخلق ما يسمى بالـ Double check System بحيث يظل النزاع قائمًا بين طرفي أيديولوجيا لهما “الحكم الإداري”، ويخلق النزاع بطبيعة الحال “تيارًا أساسيًّا” تقدميًّا. ذلك في الأمور الإدارية الداخلية.
أما مع الأعضاء الخارجيين، أو الكتّاب، فخلق حالة من حالات التنافس المستمر تدفع الجميع للتجويد المستمر، ولبذل مجهود أكبر، بدون أي جهد إداري مطلقًا.
مثال ذلك، قمنا بعمل ترتيب تلقائي للكتّاب استنادًا لتفاعل الجمهور مع مقالات كل كاتب، سمي باسم “ساسة رانك”، مع الوقت، أصبح عدد كبير من الكتّاب مهتمًّا بترتيبه، وبأهمية أن ينشر، ويعيد نشر، ويكتب أكثر. وبذلك تم دعم “المجتمع” نفسه بشكل غير مباشر، وبدون أي مجهود إداري.
ثانيًا: وسائل الإدارة والمتابعة
بالإمكان متابعة عمل ربما 20 شخصًا بشكل دوري بسيط دون الحاجة لأي “عمليات قياسية” Standard Process ولا حتى متابعة كمية لأثر كل عامل. ولكن الانتقال من نقطة فيها 20 عاملًا إلى 2000 أو حتى 20 ألف عامل لنفس الفكرة، وفي ذات المجتمع، يلزم قطعًا سبلًا مختلفة في تداول الأفكار، وتنقيحها، وتوزيع المسؤوليات.
لا يمكن بحال الاعتماد على “الإيميل” كوسيلة لاختيار مثلا 50 فكرة يوميًّا، ولا يمكن لأي مسؤول أن يقيّم عمل بضع مئات من الأشخاص بالنظر إلى عمل شخص تلو الآخر فيهم. ثمة آليات وطرق متبعة، غالبًا ما تكون مجهدة على أعضاء المجتمع العامل في بداية عملهم، ولكن لا يرى أثرها إلا بعد ثلاثة أشهر مثلًا.
مثال ذلك، الموظف المسؤول عن التعامل مع عدد 10 من الملفات في مؤسسة ما، بإمكانه التعامل مع 1000 بشرط أن يصبح هناك آلية ثابتة، وشكل ثابت، وطريق إداري معروف وسهل لتداول الـ 1000 ملف أو فكرة. يصعب إقناعه ابتداءً بعمل ذلك عند العمل بـ 10 ملفات، ولكن حينما يزداد الجهد لـ 100 يبدأ في تفهم الرؤية الإدارية التي لم يدركها في حينها.
لو توافر “مكان واحد” Dashboard كما تُسمى للمسؤول، أو صفحة واحدة بحيث يمكنه النظر فيها، ويعرف تلقائيًّا حجم تأثير الفِرق المختلفة، حجم تأثير كل فرد عامل ولو كانوا أكثر من 1000، حجم الأثر الناتج من زيادة أعضاء أحد الفِرق أو من توجيه المحتوى نفسه لموضوع بعينه، لو توافرت مثل تلك الصورة “الكلية” يمكن فقط حينها النمو بشكل مناسب، وتصبح أيضًا قرارات الإداري متمتعة برؤية واضحة أكبر للمستقبل في كل خطوة وفي كل قرار.
ساسة مؤسسة صغيرة في النهاية، ولكن ثمة مبادئ نمو ثابتة علميًّا في “حكم الشركات” Corporate Governance وكل تلك النظريات، أهلكها العلم بحثًا، وثمة عدد طيب من الأدوات التي تسهل عملية المتابعة والتقييم تلك. وحتى لتلك المؤسسات التي لا تملك ذلك بإمكانها أن تبنيها بالمتوافر من أدوات مجانية مختلفة، كذلك فعلت.
الخلاصة هنا، يلزم استخدام “أدوات” إدارية إما مصممة خصيصًا للمنصة لمتابعة أعضائها وأعمالهم بشكل دوري، وفي صفحة واحدة لكل مسؤول. وبدون ذلك لا يمكن تقرير أي خطوة في اتجاه أي نمو. ويصبح الأمر كما هو الحاصل في منصات كثيرة: عملية حرق أموال، لأن القائم على العمل أساسًا لا يملك أي آلية لتقييم الأعمال، ولا لاختيار الأصوب للحصول على أعلى أثر بأقل تكلفة.
والأكثر أهمية، أن بعض المجهود القليل يمكن استيعابه، بطرق وأدوات إدارية بسيطة. وعلى خلاف ذلك فإن من لا يجيد تلك الأدوات سيفضّل مثلًا تعيين موظف كامل (ويتحمل مالًا إضافيًّا)، بدلًا من عشرين متطوعٍ، لأنه يفشل في إدارتهم، ولو كان ناتج عملهم واحدًا “كمًّا”، فإن “الإبداع” من عمل 20 شخص قطعًا أعلى وأكبر أثرًا من عمل شخص واحد. القدرة على استيعاب الطاقات في حد ذاته مهارة إدارية تحتاج لتخطيط. وشحن تلك الهمم المتطوعة لإنارة العقول مهمة في ذاتها.
ثالثًا: توظيف التكنولوجيا
في 2015 من موقع ساسة، تم إدراج عدد طيب من الخصائص التكنولوجية التي لم تكن متوفرة في أي موقع عربي آخر. منها مثلًا، خاصية إدراج المصادر بشكل واضح في نهاية المقال بعدة طرق. أو خاصية الـ Push Notifications للزوار على متصفحهم، أو خاصية ترتيب المقالات والكتّاب بشكل ديناميكي استنادًا لتفاعل الجمهور مع مقالاتهم، أو خاصية تحديد المقالات الصاعدة Trending في كل قسم على الصفحة الرئيسية.
مثلا، ترتيب الكتّاب ومقالاتهم بشكل ديناميكي، أعطى الفرصة لكتّاب مغمورين بالظهور على الصفحة الرئيسية بترتيب أعلى من غيرهم. المعتاد في المواقع اختيار كتّاب بعينهم لاعتلاء قائمة كتّاب الرأي، ولكن لخلق “مجتمع” يلزم أن يكون الاختيار في يد الناس، لا في يد القائمين على المنصة. وهكذا، لا يرى الزائر مثل تلك الأشياء، وقد لا يلاحظها أساسًا .. ولكن في النهاية تؤثر في قناعاته بغير وعي منه.
أعطِ مغفلًا كل أدوات التكنولوجيا، يظل في النهاية مغفلًا. لا تغير تلك الأدوات شيئًا منه. لا يمكن استغلال كل تلك الأشياء بدون من يملك رؤية جزئية واضحة في عمله، مع الالتزام، والمتابعة الكلية لمسؤوله المباشر. الترس الأساسي في كل تلك الماكينة يظل هو ابتداءً عضو المجتمع والتزامه، حتى مع وجود كل تلك الأدوات التي قد تعطي ميزة نسبية لمنصة على أخرى.
والشاهد أن ماكينة حرق الأموال في منصات صحفية معروفة، قد لا تؤتي ثمارها أساسًا. المال نفسه هو “أداة” إن لم يتم استثماره بالشكل الأمثل برؤية كلية وجزئية مُثلى، أهدر جميع المال بعائد أقل من الممكن فعلًا.
رابعًا: المشاركة الدولية
في العام الأخير، شاركت ساسة في هاكاثون منتدى الشرق وفازت به، ولم أوفق في حصد جائزة أخرى في برشلونة. ولكن في برشلونة رُفع شعار ساسة بجانب أفضل 16 ناشرًا من دول مختلفة كهولندا والأرجنتين وإنجلترا، وإن لم تقم ساسة بعد بأي عمل من صحافة البيانات له أثر بعيد كما أتمنى، ولكن تسبب ذلك الأثر في أن ترفع إحدى الشركات الأجنبية شعار ساسة بفخر على لافتة في بلدية أنتورب. بعض الأفكار تأتي بطبيعة الحال من التداخل مع أولئك الذين يملكون خبرة وباعًا ضخمًا في تلك الصناعة، أو التكنولوجيا.
في معرض شبكة الصحفيين العالميين ببرشلونة، بدا وكأن صناعة تكنولوجيا الصحافة يسيطر عليها عدد كبير من الشركات “الإسرائيلية” الناشئة. ابتداءً من شركات خلق وتحرير المحتوى، لممثلي وكالات الأنباء (مصدر أي خبر)، لشركات تكنولوجيا عرض المحتوى الرقمي. ويبدو أن كل تلك الصناعات منقرضة أساسًا في عالمنا العربي.
وبينما هي “صناعات” تدر مالًا على أصحاب تلك الأفكار والشركات بخلاف الأثر السياسي والفكري، فإن الصحافة لدينا، لا تتجاوز “تجارة الأيديولوجيا” لأهداف سياسية فقط، ربما يتعين على الشباب الإبداع في إنشاء شركات عربية كتلك.
(8)
ملكية النجاح
أمضينا كمؤسسين أكثر من ثلاثة أعوام، نفكر في إنشاء ساسة، ونحاول فقط إجابة السؤال: ما الثغرة التي يمكن أن تقف عليها ساسة في الفضاء الإلكتروني العربي؟
في قصة كتلك، عملت فيها مديرًا تنفيذيًّا لا كاتبًا، لابد أن ينسب الفضل لأهله، لمن كتبوا وأثروا الفضاء العربي بحروفهم. لا يجب أن ينسب فضل كذلك “للسلطان عبد الحميد” الذي أمر الجنود في بداية عملهم باتباع آليات ووسائل قياسية في التواصل وفي أنماط تسليم العمل قبل أي تحرك، وفي آليات قياس الأعمال قبل إقرار أي تقدم. الأدوات لا تعمل وحدها.
وإنما ينسب الفضل للجنود المخلصين الذين تحملوا عناء المعركة، ولكل ترس في تلك الماكينة التي كانت تدور بحماس وباستمرار من الجميع: ابتداءً من المتطوع الذي تفضل بوقته وبإبداعه واختص ذلك المكان دون غيره، إلى مدير التحرير الذي لا يتدخل أحد في رأيه التحريري، ولا يتدخل هو في مساحة الحرية غير المحدودة لكل المجتمع، إلى نائبه، وإلى الإداريين ورؤساء الفرق الذين لا تدور تلك الماكينة كلها بدون رؤيتهم، وإلى أولئك من المراجعة للنشر للتحليل وإدارة الجودة والترجمة والسوشيال ميديا والتصميم.
الأمر كله ملك أولئك الذين يهتمون بشكل يومي بالفصلة وبالنقطة وبالهمزة التي تنشر، بمن ينتقون أفضل الألوان لتناسب كل مقال، بكل تلك التفاصيل الصغيرة التي تحفظ تماسك النجاح الحالي. ثم الفضل لرؤية أولئك المؤسسين الأوائل الذين لولا يقينهم ورؤيتهم لإمكانية ذلك كله وإصرارهم على إتمامه مهما كانت العقبات، لما كان من الأساس.
(9)
خاتمة
هل أحسنت الاختيار باستثمار ذلك العام من عمري في ساسة؟
أخبرتك، لقد نما أثر ساسة بوست في ذلك العام أكثر من 6 أضعاف، وتضاعف ما ينتج في ساسة 8 أضعاف، ولم تتغير الموارد أساسًا تقريبًا. ولكن لا أعرف صدقًا إجابة واضحة. حين أنظر إلى نقطة البداية، والنقطة الحالية، أعرف أني تعلمت الكثير. ربما كان بالإمكان تحصيل بضع عشرات من آلاف الدولارات في عملي الأصلي، ولكن بوعي تام اخترت ما اخترت. وحاليا أسعد كثيرًا بالنتيجة التي وصلت إليها في عام واحد. وأقيس النجاح غالبًا بمقدار الأثر والتعلم، وأظن أنني تعلمت كثيرًا .. جدًّا، وأظن أنني تركت أثرًا لا ينقطع، وأن ذلك الأثر المحدود لي وحدي امتد من بين أصابعي لآخرين، عشرات آخرين. ولن ينقطع أثرهم وسيصبح أكبر حتى مما كنت أتمناه لنفسي منفردًا .. العائد على الاستثمار لا يمكن قياسه دائمًا بالمال، وحده. صح؟
حاليًا، أتطلع لتعلم كيفية التخطيط والإدارة لأكثر من ألف شخص من الصفر. وأعرف أن في السطور أعلاه، ما يجب أن يتم تدارسه في المنصات الأخرى، وأن قصصًا أخرى ملهمة، كلقاء سارة وهارون، يلزم أن تكتب ولو اختصارًا. وأن عددًا غير محدود من الشخصيات الجميلة التي أغفلت هذه السطور أسماءهم، لا يمكن أن توفيهم حقهم أي كلمات، وأنهم يبدعون بشكل مستمر في صمت. لذا أعرف قيمة المنشور الآن، وأن مقالًا كهذا الذي أنهيته أنت، لا يكتب إلا مرة واحدة في العام .. لذا كان يجب أن يكتب.