يعلم القاصي والداني أن كلية دار العلوم (الأم)، التي هي في القاهرة، تعتبر حصنًا منيعًا لفنون العربية وآدابها، وعلوم الشريعة وفروعها، وقلعة من قلاع الدفاع عن الإسلام وحمل همومه، ولا تزال هذه الكلية العريقة تمد الأمة بمفكرين وأدباء وفقهاء ومصلحين يحملون هموم الأمة، ويعالجون قضاياها، ويقفون في وجه الظلم، ويقولون للظالم في وجهه (يا ظالم)، و(يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ) (الأحزاب: 39). ولا أخص بالذكر أحدًا من أعلامها حتى لا أنسى أحدًا، ولكن حسبنا أنه إذا ذكرت دار العلوم في مقام فإن العقل يستدعي العلم والفكر والإبداع والمنهج، ويستحضر الاجتهاد والإصلاح والوعي والتجديد..
لكننا فجعنا بما حدث فيها قبل أسابيع لعلَمين من أعلامها وأستاذين كبيرين من أساتذتها، وهو فصلهما من الجامعة نهائيًّا!! بحجج داحضة، لا أساس لها من عقل أو عرف أو قانون أو حتى خلق .. ذانكم هما العلامة الدكتور حسن الشافعي، والعلامة الدكتور محمد حماسة عبداللطيف، الأول أستاذ علم الكلام بقسم الفلسفة بالكلية، ورئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وصاحب المواقف المعروفة من السلطة القائمة، والثاني أستاذ النحو والصرف والعروض بالكلية، ونائب رئيس المجمع نفسه، وهما ممن درَّساني بهذه الكلية المباركة.
ثم ها أنا ذا أعلم أن أحد أساتذة قسم الشريعة بها يجبر أحد طلاب الدراسات العليا في رسالته المقدمة للمناقشة أن يحذف اسم الشيخ يوسف القرضاوي من الرسالة كلها!! وأن يستبعد أية نصوص منقولة عنه، ولا يشير إليه أي إشارة، لا في متن الرسالة ولا هامشها، ولما سئل عن ذلك قال: (لأن القرضاوي إرهابي)!!
أما ثالثة الأثافي -كما تقول العرب- فهو قرار منع النقاب في جامعة القاهرة كلها، لعضوات هيئة التدريس والهيئة المعاونة، وعددهن فوق الثلاثين، وهو القرار رقم (1448) لسنة 2015، والصادر عن مكتب رئيس الجامعة بتاريخ 29 سبتمبر 2015، والذي كان نصه مادته الأولى: (لا يجوز لعضوات هيئة التدريس والهيئة المعاونة بجميع كليات الجامعة ومعاهدها إلقاء المحاضرات والدروس النظرية والعملية أو حضور المعامل أو التدريب العملي وهن منتقبات؛ وذلك حرصًا على التواصل مع الطلاب وحسن أداء العملية التعليمية وللمصلحة العامة).
وكان من المنتظر أن تقف دار العلوم -وبها أكثر من عشر منتقبات- ضد هذا القرار، وبخاصة قسم الشريعة بها؛ لأن اللائي يرتدين النقاب منهن تأخذ -في الغالب- بالرأي القائل بالوجوب، وهو رأي موجود في الفقه الإسلامي ولا يستطيع أحد له صلة بالفقه إنكاره، وإن رجح عدم الوجوب فسيظل في النهاية موجودًا.. لكننا فوجئنا بأن عميد الكلية الحالي يمنع المنتقبات من التدريس ودخول قاعات الدرس، وقد يتعرضن في المستقبل للفصل من العمل، وقسم الشريعة يتفرج، ويقف بلا موقف، بل ربما حض المنتقبات على خلع النقاب..
فقلت في نفسي: (رحم الله العميد الأسبق والفقيه الأصولي الشجاع أستاذنا الدكتور محمد بلتاجي حسن، الذي لم يكن ليسمح بتمرير مثل هذه القرارت، وكان موضعها عنده سلة المهملات، كما فعل مع قرارات أخرى لمفيد شهاب وغيره أيام كنا طلابًا، ورحم الله الفقيه الجليل أستاذنا الدكتور إسماعيل سالم عبدالعال، الذي وقف حائط صد في قضية نصر حامد أبو زيد، وكان نورًا وهاجًا يشع في قسم الشريعة بالكلية، وفك الله أسر الفقيه الأسد المجاهد أستاذنا الدكتور صلاح الدين سلطان، الذي كان سيقف موقفًا إيجابيًا ضد هذا القرار).
وإذا كان من حق المسؤول شرعًا أن يقيد المختلف فيه لمصلحة راجحة، فما هي المصلحة التي جدَّت بعد عشرات السنين من لبس النقاب حتى تظهر اليوم؟ ما زالت المنتقبات يُدرِّسنْ ويشرحن بمهارة واقتدار، ولم يتبين أو يثبت أن النقاب كان حائلًا دون أداء أو إتقان أي عمل تؤديه الأخريات.
إن دار العلوم -الحبيبة إلى قلوب كل من تخرجوا فيها- يجب أن تبقى عزيزة شامخة، ويجب على أهل الشرع فيها ألا يسكتوا عن شيء قد يحمل مخالفة شرعية أو يخالف تاريخ الكلية العريق في حمل رسالة العربية والإسلام، وألا يجبروا أستاذة أو عضوة في هيئة معاونة على خلع نقابها، بل يرفعوا أكفهم عن المنتقبات، ويراجعوا رئيس الجامعة في إلغاء قراره هذا أو وقف العمل به..
ألا تؤمنون بالحرية يا أساتذة الشريعة وأنها من أجلِّ مقاصدها كما علمتمونا؟ هل يجرؤ رئيس الجامعة، أو عميد دار العلوم، أو أي واحد من أساتذة الكلية أن يأمر أي فتاة أو أستاذة متبرجة بارتداء الخمار، أو ينهاها عن لبس الضيق والمجسم ويحضها على ستر العورات؟ وإذا كان كشف العوارت منهيًّا عنه ومع هذا لا نتعرض له بشكل شخصي لمن يفعله، فكيف نقف موقفا غير مناسب حيال أمر فيه نصوص شرعية وفيه آراء فقهية معتبرة.. إنني أنتظر موقفًا مشرفًا من كلية دار العلوم جامعة القاهرة، خاصة قسم الشريعة بها، لإلغاء هذا القرار أو وقف العمل به، وبهذا يكون التعليم، وبذاك تقام القدوات.. حفظ الله دار العلوم حصنًا منيعًا للعروبة والإسلام!.