لو رجع الفلسطينيون بعجلة التاريخ إلى الوراء عشر سنوات على الأقل، لوجدوا قاموسهم المعرفي خالٍ تمامًا من ذكر اسم تركيا، في وقت تنكر لهم حكام العرب لا يختلف الأمر بالنسبة للأتراك أيضًا، فقد كانت وجهتهم غير فلسطين والشرق الأوسط، لكن الصورة التي ظهر فيها رئيس الوزراء التركي السابق “رجب طيب أردوغان” في مؤتمر دافوس الاقتصادي بعد أيام من العدوان الإسرائيلي على غزة 2008-2009، وهو يرد على مجرم الحرب الإسرائيلي “شيمون بيريز”، عقب دفاعه عن مجازر جيشه في غزة، ثم انسحابه من المؤتمر الدولي الذي ينظم كل عام في موقف غير مألوف شهده العالم عياناً وحفظته ذاكرة التاريخ، هذا الموقف أعاد الرجل بقوة إلى الواجهة العربية والفلسطينية خاصة، وأدخله سريعًا في قلوب ملايين الأحرار عربًا وعجمًا، دون أن يعرفوا عنه إلا اسمه فقط، من هذه اللحظة بدأت حكاية عشق لا ينتهي بين بطل تركيا أردوغان وغزة المحاصرة منذ ذلك الزمان حتى يومنا هذا ، تعرضت خلال هذه الفترة لثلاثة حروب عدوانية إسرائيلية دموية مدمرة.
لم يتوقف الدعم والتضامن التركي عند شخص أردوغان، بل اتسعت دائرته لتشمل الشعب التركي بكل أطيافه، فكانت سفينة مرمرة التركية ضمن أسطول الحرية الذي أبحر صوب غزة لفك حصارها مايو 2010، لكن الاحتلال بحماقته المعهودة، ارتكب مجزرة بحق مرمرة سالت فيها دماء تركية اختلطت مع الدماء الفلسطينية في بحرهم، فتوثقت عرى الايمان والتضامن بين الشعبين، وأصبح كل منهما حاضراً بقوة عند الآخر، كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.
لهذا لم تنم غزة ليلة فرز صناديق الانتخابات البرلمانية التركية المبكرة، وهي ترقب وتتابع وتتنظر اعلان فوز الرجل الذي انتصر لها وذكرها في كل محفل، مدافعًا عن قضاياها ومنددًا بحصارها وقتلها، فيما العالم يغط في نوم عميق، لا يستفيق إلا عندما يلحق الأذى بـ”إسرائيل”، فاز حزب أردوغان وكبَّرت غزة وحمدت الله كثيرًا، وهي تخوض انتفاضة التحرر مع أخواتها من المدن الفلسطينية في الضفة والقدس.
هناك من ينكر على الفلسطيني في غزة خاصة، ابتهاجه بفوز حزب أردوغان، بزعم أن الرجل لم يقدم لنا إلا كثير كلام، هذا في الوقت الذي يطبلون فيه لقائد الانقلاب في مصر عبد الفتاح السيسي الذي يحاصر غزة ويغرق حدودها بمياه البحر، لا أفهم حقيقة كيف يريدون من الفلسطينيين أن يغضوا الطرف عن انتخابات، لم تزعج نتائجها إلا إسرائيل والمتكالبين على ربيع فلسطين والشعوب الحرة، فيما يقبلون على أنفسهم التطبيل لرجل قالوا عنه إنه “الدكر المخلص” ولم يخرج له أحد في انتخاباته الأخيرة؟!.
غزة لم تفرح لأردوغان وحده، بل تنفرج أساريرها لمن يذكرها بخير مهما كان جنسه ولونه، غزة تهلل لكل كلمة بحقها ترد على أي لسان حر، أعربي كان أو أعجمي، كانت أول من سُرّت لثورات الربيع العربي التي رفعت علم فلسطين وهتفت لها، وتنفست الصعداء لسقوط أنظمة ديكتاتورية باعت فلسطين، وصمتت صمت القبور على ذبحها بل تواطأت على ذلك، غزة بحكم لعنة الجغرافيا جاورتها مصر التي سامتها سوء العذاب إلى أن جاءت ثورة 25 يناير وإسقاط حسني مبارك كنز إسرائيل الاستراتيجي، استبشرت خيرا بنجاح ثورة الشباب ومجيء الرئيس محمد مرسي الذي كان أول رئيس عربي ينتصر لها، فتح معبر رفح المنفس الوحيد إلى الخارج، وقف بقوة ضد العدوان الإسرائيلي عام 2012، بل لأول مرة يرسل وزراء خارجية العرب إلى ميدان غزة، لم تدم تلك الفرحة كثيرًا، انقلب قائد الجيش عبدالفتاح السيسي على الرئيس المنتخب الذي أراد لشعبه أن يصنع سلاحه ودواءه وغذائه بيده، وأعاد الأوضاع مع غزة إلى نقطة الصفر، حصار وإغلاق بل وتحريض إعلامي على قصفها وتدميرها، لهذا تفرح غزة لفوز مرسي وأمثاله وتعبس في وجه السيسي وأحلافه.
لم ولن تفقد غزة الأمل رغم الجراح ونزف الدماء، فهي تحب الحياة ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا، تعلق نفسها بكل بارقة أمل تأخذ بيدها يومًا إلى بر الأمان، كالغريق في بحر متلاطم الأمواج يتعلق بقشة لينجو بحياته، فلا تستكثروا عليها الفرح!