بقلم.. يوسف العمايرة
ساعات قليلة تفصل المواطن التركي عن صندوق الاقتراع للإدلاء بصوته في انتخابات برلمانية تكاد تكون الأهم في تاريخ تركيا الحديث، نظرا للظروف الراهنة التي تعصف بمنطقتنا، وتحيط بتركيا من كل جانب، حتى جعلتها وكأنها على صفيح يغلي، بحزام ملتهب يحيط جهاتها الأربع.
ليس تدخلا في الشؤون، فأنا لا أمثل جهة سيادية أو سياسية، لكنني كما كثيرين من أبناء شعبي الفلسطيني، ينظرون لتركيا الحديثة امتدادا طبيعيا وتاريخيا للإرث العثماني الذي كانت فلسطين والقدس مسرحا لفعله الحضاري في مختلف الميادين، ولا زالت شواهده قائمة حتى اليوم.
أخبرنا الأجداد والجدّات وقد عمرت ذكرياتهم مواقف نخوة باشوات وضباط وجنود السلطان العثماني.. أن الباب العالي كان مفتوحا على مصراعيه في وجه أهل فلسطين وكل رعايا دولة الخلافة العثمانية، وما كان ليوصد وفيه الخليفة العادل، يسوس الأمة بقيم عقيدتها ومنهاج ربها، فكان الإنصاف وإحقاق الحق.
أيها الأتراك..
قيل لنا.. أن إطلالة الخليفة العادل -الذي هو ابنكم- من على شرفة بابه العالي، كان يسمع صداها في أرجاء ما وراء البحار، حتى كانت المؤامرة، بفعل فاعل ماكر، أعداء من الخارج وأبناء عاقين من الداخل، ليبدأ الضعف والشلل ينال مؤسسات الحاضنة العثمانية، حتى أفلت شمسها، فاندثر معها حلم الأمة بالوحدة، وليتم تقسيم تركة “الرجل المريض” وتوريثه لشذاذ الآفاق.. ومع مغادرة أخر جندي عثماني أرضنا، أخذ الضعف ينخر أجسادنا، ولا زلنا نجتر الهزائم والمذلّة حتى يومنا هذا.
قيل لنا.. أحاديث وحكايا عن جنود “العثماني”، كيف كانوا يحرسون ويقومون ويبيتون ليالي وأياما في أكنافنا وبين أزقة حوارينا، وكيف تناولوا الخبز الفلسطيني الشهير مدثرا بزيت الزيتون وسمن البلاد وعسلها.
قيل لنا.. بأن الجندي العثماني -الذي هو ابنكم- كان فارسا يمتطي صهوة جواده لأداء مهامه، حتى إذا انجلت تلك المهام، عاد بفرسه ليعين أباءنا وأجدادنا في حراثة أرضنا وزراعتها، فكان نعم المحارب، ونعم الفارس، ونعم المزارع، ونعم الإنسان، ذائدا عن حمى الوطن وبيضة الأمة.
قيل لنا.. بأن “فرسانكم” كانوا في أوقات السلم يتسابقون في البحث عن العوائل اليتيمة والثكلى، فيتفانون في خدمتها، ترسيخا لمبادئ الوحدة والتآلف بين أبناء الأمة.
قيل لنا.. بأن -ابنكم- السلطان دفع “حفنات” الذهب مقابل طرقات المعاول وهي تضرب صخور الجبال وأوديتها، لتمهد لسكة حديد الحجاز وغيرها، تشجيعها منه على تواصل أبناء الأمة بين ولاياتها بأيسر ما أمكن.
قيل لنا.. بأن –أبنائكم- السلاطين، كانوا للقدس خير من ورث عن الفاتح الأول عمر بن الخطاب وخليفته المجدد لها عبد الملك بن مروان (رضي الله عنهما)، بل كانوا أبناء المدينة المقدسة أكثر من أي قائد أو زعيم، بما أحدثوا فيها من نهضة عمرانية وتجديد دائم. فمن النوافذ الـ(56) لقبة الصخرة المشرفة، كانت العيون ترمق بامتنان فعل السلطان سيلمان القانوني (رضي الله عنه) وهو يشيد ويبني ويحصِّن. سواء بسواء، كما كانت عقارب برج الساعة المحمودية من على باب الخليل تدق على نبض السلطان عبد الحميد الثاني منذ أنشأها عام 1907م حتى أزالها الاحتلال البريطاني البغيض.
سرد لنا التاريخ.. أن كل “العلمانيات” سعت وتسعى لتوسيع مناطق نفوذها وسيطرتها وهيمنتها، إلا العلمانية التركية، قلصت من الامتداد التاريخي والحضاري العثماني، لتختزله داخل حدود فرضها آخرون.
علمانيونا كما علمانييكم، استأثروا بمقدرات أمتنا وبالمخزونات الاستراتيجية لكياناتها القطرية منذ رحيل الاستعمار بشكله المباشر، وما فتئوا يصيغون الأنظمة السياسية ويفرضون الأوامر العسكرية وحالات الطوارئ وفق أجندة ومصالح لا علاقة لها بسبل التحضر والتنمية. غير أن الفرق بين علمانيينا وعلمانييكم، أن “جماعتنا” كانوا أشد فتكا وتسلطا على شعوبنا.. فيما “جماعتكم” انتهجوا سبلا في التسلط ومعاداة مبادئكم تحت وسم الديمقراطية. وعلى ما يبدو، فإن أن للأمر علاقة بحجم الأثمان المدفوعة لكل طرف من منظومات وقوى الهيمنة الخارجية.
أثبت لنا التاريخ.. أن لا فرق في المحصلة، على أوطان وقعت ضحية التيارات العلمانية، فالدولة التي تعدم رئيس حكومتها الرجل الستيني عدنان مندريس مع اثنين من وزرائه بمحاكمة صورية، لشبهة إحياءه الهوية التركية الإسلامية، وإعادة الأذان بالعربية، واستعادة الدور الطبيعي للمساجد وقد حولت لمخازن ومستودعات، وإعادة التقارب مع العرب على حساب العلاقة مع الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين، ثم محاربة الأسرة التركية في رداء حيائها، مضافا لذلك كل إفرازات حالة الطوارئ.. هي ذاتها بنت أفكار التيارات العلمانية العربية التي تقلدت زمام الحكم دهورا طويلة، فاستباحت البلاد والعباد، والنتيجة كما تشاهدون اليوم في دول الجوار!!.
أيها الأتراك.. لأنكم تتقدمون صوب مراكز الانتخاب لاختيار ممثليكم، فإننا نؤكد على ضرورة أن يكون اختياركم انتقاء، لثلة بين أظهركم أوصدت دونها أبواب الحياة العامة وأقصيت عن أمور الحكم والسياسة لأمد طويل، شهد ألوانا شتى من الفساد والاستئثار بالسلطة والمال العام وانتهاك الحرمات العامة والخاصة، حتى العقد والنصف الأخيرين، حين فرضت تلك الثلة نفسها على صانعي القرار، بحنكتها ونزاهتها وتأييدكم لبرامجها وخططها، فما خاب اختياركم.
إنه “العدالة والتنمية”، لا بشخوصه فقط، بل بحكمته في انتهاج سياسات مدنية لحل إشكالات البلاد وأزماتها، وإخراجها من دوامة العسكر وابتزازهم.
ألا تذكرون “حالة الطوارئ” وميليشيا “حرس القرية” التي كانت أداة الدولة العلمانية البوليسية في حسم أصوات المعارضين بالقتل والسحل، من الأقليات أو المدنيين على حد سواء، حتى وصول حزب العدالة والتنمية سدة الحكم أواخر العام 2002م، فكان أول قراراته، إزالة حالة الطوارئ من البلاد. بل لقد انتهج سياسة احتواء المعارضين بمزيد التنمية والإصلاحات والشراكة، وبدا ذلك أكثر وضوحا فيما يتعلق بمشكلة الأكراد، بإحداث تحولات جدية في التعامل معهم، تمثلت بثورة تنمية شملت مشاريع البنى التحتية والخدماتية، ومواجهة البطالة بتوفير فرص وافرة للعمالة من خلال المشاريع وجلب الاستثمارات، ليتم –وحسب مصادر تركية- صرف (260) مليار ليرة تركية على قطاع التنمية في المناطق الكردية خلال أقل من عقد ونصف، رغم استهداف تلك المشاريع من قبل حزب العمال الكردستاني، وحرق المعدات والآليات المستخدمة في تنفيذها، وخطف العاملين وابتزاز رجال الأعمال القائمين عليها.
نظرية “صفر مشاكل” التي انتهجها حزب العدالة والتنمية في سياسته الخارجية مع دول العالم ومنظماته، منحت الدولة التركية دورا استراتيجيا وحيويا، إقليميا ودوليا، وجعلت منها ثقلا هاما في معالجة ملفات المنطقة، الآخذة بالتفاقم.
حزب العدالة والتنمية، تسلم خزينة دولة علمانية مثقلة بالديون رغم ما في البلاد من ثروات وإمكانات، بالإضافة لنظام نخرت أركانه مظاهر الفساد والرشوة، ليباشر برسم ملامح مستقبل واعد، بإعادة هيبة الدولة اقتصاديا من خلال تسديد ما يربو عن عشرين مليار دولار ديونا لصندوق النقد الدولي خلال عشرة أعوام، كأنموذج لقوة اقتصادية ديناميكية نشطة ومتحركة، تحكمها قيم النزاهة وحفظ المال العام وتنمية مصادره.
لا زلتم تعايشون مظاهر ثروة اقتصادية متقدمة في البلاد، قادها حزب العدالة والتنمية، وشملت مجالات العلوم والبحوث والصناعة والزراعة والعمران والسياحة والبيئة، فضلا عن تخفيض نسب البطالة، لتتجاوز تركيا الكثير من دول العالم المتقدمة في مجالات التنمية والرفاه.
أيها الأتراك.. لا تحسمون بأصواتكم حاضر بلدكم فقط، بل مستقبل أمة يتجاوز حدود تركيا والمنطقة، خصوصا وأعين شرفاء الأرض تتوق لأنموذج حكم سماؤه “العدالة”، وأرضه “التنمية”، وما بينهما منظومة من القيم والأداء فاقت كل السياقات التي حكمت البلاد خلال المائة سنة الأخيرة وأبقتها في حالة تخلف رغم الحجم الهائل لثرواتها.
أما نحن في فلسطين، ومن على مسافة تتجاوز (1200كم) منكم، فإن لنا أمل كبير بحسن اختياركم لممثليكم، ونشهد لتركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية وقفات إنسانية وأخوية، خاصة فيما يتعلق بقضيتنا الفلسطينية العادلة، حين غيبتها النظم العلمانية التركية المتعاقبة واستبدلتها بجسور العلاقة مع الكيان الصهيوني المحتل.
فلا يغرنكم إذن، مفردات خطاب العلمانيين، وهم يزينون للعامة مستقبل احترفوا إعاقة نهضته وتقدمه طوال فترات حكمهم، وسرعان إذا ما بلغوا، استيقظت فيهم طباعهم الدفينة.
تقدموا نحو صناديق الاقتراع، وخذوا أصواتنا معكم، فبكم ومعكم نرجو لأمتنا مستقبل مكلل بالنصر والتمكين.