من المعتاد أن ترى الجيوش في الجبهات وفي ساحات القتال، أو على الحدود لضبط الأمن من أجل الأمان.. لكن أن ترى كتيبة في مدرسة ابتدائي تدير طابور الصباح وتجبر الطلاب على غناء “تسلم الأيادي”، فهذا لا يحدث إلا في الانقلابات!
أن ترى مدرعات تملأ الميادين، ودبابات تمنع الناس من اقتحامها، وشركات حراسة على أبواب الجامعات فهذا لا يحدث إلا في الانقلابات!
أن ترى ضابطًا يحرس لجنة انتخابية ويقول للمراسل إنهم “احتلوا اللجان” لكن أحدًا لم يأت، فعليك أن تتساءل هل حقًا عن الحقيقة كثيرًا حينما ذكر كلمة “احتلال”؟؟
وهل أخطأ الضابط الذي أوقف طابور المدرسة واختطف الميكروفون ليلقي كلمة عسكرية حماسية ليتحدث فيها عن “الشرعية المسلحة”؟؟
***
عدنا إذن للمربع الأول والسؤال الأوّلي: ثورة دي ولا انقلاب؟؟ وهو السؤال الذي نجح أنصار الشرعية في طرحه بإلحاح طيلة عامين ونيف، دون أن ينجروا سياسيًا لمعارك ثانوية أو وهمية أو أن يتم احتواؤهم سياسيًا داخل المشروع الانقلابي، ودون أن يتزعزع موقفهم الراسخ في رفض القتل والانقلاب، بينما تغيرت مواقف كثيرة وجرت في النهر مياه أكثر.
حالة الثبات التي عليها أنصار الشرعية ورافضي الانقلاب ليست حالة سلبية أبدًا، ونجاحهم في تفعيل المقاطعة وانتصارهم في معركة “اللجان الخاوية” هو عمل إيجابي للغاية؛ لأن عدوهم ببساطة فشل فشلًا ذريعًا في تحقيق أهدافه السياسية والاقتصادية والإعلامية.
الانقلاب في مصر تحول من خانة الإنكار والوعود، إلى خانة التبرير والسكوت! لم نعد نسمع كلمات على غرار “وبكره تشوفوا مصر”، كما لم يعد ممكنا إنكار الأزمات السياسية (مقاطعة الانتخابات) أو الاقتصادية (أزمة الدولار).
أصبح على النظام تبرير هذه الأزمات والبحث عن كبش فداء، غالبًا ما يكون من الإخوان، ومؤخرًا صار الكبش حتى من داخل النظام. (محافظ الإسكندرية ومحافظ البنك المركزي)
***
الحقائق التي يواجهها النظام الانقلابي في مصر الآن:
1- فشل اقتصادي: بانخفاض غير مسبوق في الاحتياطي الدولاري وتدهور قيمة الجنيه الذي تعدى الـ8 ونصف في السوق السوداء وتوقعات بالمزيد.. وهو فشل يهدد بوصول الدولار إلى 13-14 جنيهًا في غضون عام، في بلد يستورد كل شيء تقريبًا!
2- فشل سياسي: بعزوف الناس الواضح عن المشاركة في الانتخابات البرلمانية، وهي الانتخابات التي تمثل استفتاء على مدى رضا الناس عن أداء السيسي وعن مساره السيسي ممثلًا في خارطة الطريق، ومدى قناعتهم بالأحزاب المنضوية تحت راية الانقلاب وثقتهم في مرشحيها!
3- فشل إقليمي: بتعمق الخلافات بينه وبين حلفائه في الخليج لأسباب عديدة على رأسها سوريا.. والتي إن سقط بشار فيها بأي شكل سيؤدي إلى سقوط السيسي في مصر بأي شكل.
الإمارات رفعت الدعم عن البنزين عن المواطنين الإماراتيين منذ أغسطس الماضي، والكويت شهدت انخفاضًا في دخلها القومي إلى النصف، حسبما صرح أمير الكويت، والسعودية تتوقع عجزًا في موازنة العام القادم بقيمة 100 مليار دولار بسبب انخفاض سعر البترول! وصدق أو لا تصدق: صندوق النقد الدولي -وفق صحيفة “الإندبندنت” البريطانية- يتوقع “إفلاس” السعودية خلال خمس سنوات!! (أمال احنا حيحصلنا إيه؟؟ وآدي الرابط للمشككين)
http://goo.gl/gTZY5c
فهل يمكن أن يستمر دعم هذه الدول للسيسي، خاصة بعد تأرجح موقفه الإقليمي، وتعارضه مع الموقف السعودي وخاصة في الملف السوري؟؟ وإلى أي مدى يستطيع السيسي أن يصمد بلا مساعدات؟؟ (الإذاعة الألمانية قالت إن الاقتصاد المصري وصل لحافة الهاوية: https://goo.gl/19cF1D)
***
يمكن للسيسي أن يستمر والحال هكذا بعض الوقت، لكني أؤكد أن ذلك لا يمكن أن يطول؛ ليس لأن السيسي انقلابي فعبدالناصر المنقلب وخلفاؤه ظلوا 60 عامًا، لكن لأن انقلاب السيسي يختلف كثيرًا عن انقلاب عبدالناصر..
عبدالناصر ورث دولة غنية كان الجنيه فيها أقوى من الذهب، وكان محتكرًا للإعلام بشكل صنع الإجماع المطلوب في النظم الشمولية والذي تحدث عنه تشومسكي في كتاب السيطرة على الإعلام..
بينما السيسي ورث بقايا دولة متهالكة أنهكها حكم العسكر الممتد، وصار يواجه كسرًا في احتكار النظام للمعلومة، فصار عليه وعلى نظامه أن يبرر انخفاض واردات القناة، وأسباب عزوف الناخبين، وهذه نقطة مفصلية في الصراع مع الانقلاب!
لا يمكن للسيسي أن يقوم بانقلاب وينتظر أن تستقر الأمور وكأن شيئًا لم يكن! السيسي مستمر بقوة الأشياء وليس بحقيقة الأشياء ولا بطبيعتها.. وهذه القوة ناجحة في وقف طوفان الغضب والاستمرار في حكم الناس قهرًا، لكنها فاشلة في تقديم أي شيء لهؤلاء المحكومين سياسيًا أو اقتصاديًا..
***
لا خيار أمام أحد فيما يخص هذا الأمر؛ إما أن تكون مع الشرعية المسلحة التي تحدث عنها الضابط السابق، وتريد للعساكر أن يحتلوا اللجان، أو أن تكون مع الشرعية المنتخبة التي ترى كل ما يجري انقلابًا يجب أن يكسر أولًا لإعادة الأمور إلى نصابها!
أما الذين يتحدثون الآن بميوعة وخباثة عن أنهم يرفضون السيسي ويرفضون مرسي؛ فلقد شاركوا أولًا في الانقلاب ويريدون أن يشاركوا الآن في مرحلة ما بعد الانقلاب بعدما شعروا أن الريح تغيرت وأن حصان السيسي لم يعد رابحًا! على من يريد أن يقفز من سفينة الانقلاب أن يتبرأ أولًا وعلنًا من “الشرعية المسلحة”، ويعترف صراحة بالشرعية الوحيدة التي عرفتها هذه البلاد!
البعض يرى هذا ضربًا من الخيال، ولا يرى -رغم عظم الكوارث- الأزمات السياسية والاقتصادية التي يشهدها الانقلاب!! وهذا طبيعي ومتوقع من هؤلاء، فكما قال جورج أورويل: كلما زاد ابتعاد الناس عن الحقيقة ازداد رفضهم لها!!