في مثل هذه الأزمان من نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كان المفكرون في العالمين العربي والإسلامي قد أوصلوا النقاش حول مستقبل «الأمة» وحاضرها وماضيها إلى ذروة ما كان قد اصطلح على تسميته في ذلك الحين بـ«عصر النهضة»، وهو العصر الذي تؤرَّخ بدايته، إما بوصول حملة نابوليون إلى مصر -مع ما حمله في ركاب حملته العسكرية من علم وفنون واختراعات حديثة لطالما حدثنا عنها الجبرتي بإعجاب واستبشار-، وإما بظهور رفاعة رافع الطهطاوي، وكتابته عن رحلته الباريسية، وفق وجهة النظر التي ينظر المرء من خلالها. والحال أن مفكري النهضة اعتنقوا في ذلك الحين جملة من الأفكار التحديثية -غير المتخلّية عن الأصالة بالطبع- التي، يمكننا اليوم أن نقول، لو أنها اتبعت من جانب الفكر الاستقلالي اللاحق، لكان العالم العربي -والإسلامي أيضًا- على غير ما هو عليه الآن. وكان فحوى ذلك كله السؤال عن سبب تخلّف المسلمين. وكان الطرابلسي الأصل محمد رشيد رضا، واحدًا من كبار نهضويي تلك المرحلة وطارحي أسئلتها، من خلال مؤلفاته، وكذلك من خلال مجلته الفكرية «المنار» التي ظلّت تصدر طوال ثلث قرن وأكثر.
ومن المؤكد، أن دراسة فكر محمد رشيد رضا من خلال «المنار»، ستكشف لنا، في المقام الأول، وضمن خطه الإصلاحي التنويري الدائم والمتكامل، نزعته التجريبية التي كانت تتبدل تكتيكاتها بمقتضى الظروف. وبهذا المعنى يمكن القول إن خطاب مجموعة «المنار» قد عكس، دائمًا، انخراط هذا المفكر في الأحداث السياسية والمجالات الفكرية، وتبدل توجهاته بتبدل انعكاس تلك الأحداث عليه. صحيح أن هذا يجب ألا يقودنا إلى اعتبار فكر محمد رشيد رضا فكرًا انتقائيًا، لكنه كذلك لا يجب أن يقودنا إلى النظر إليه بوصفه كلًا أيديولوجيًا معطى سلفًا. وفي جميع الأحوال، يبقى أن الأهم في فكر رضا، ليس مواقفه السياسية ذات التقلبات الواضحة، وإنما مواقفه الاجتماعية الإصلاحية، التي كانت على الدوام أكثر ثبوتًا ورسوخًا في انطلاقها من السؤال الأساس الذي نراه يهيمن على فكر «المنار» في صورة عامة وهو: لماذا البلدان الإسلامية باتت متخلّفة في كل ناحية من نواحي التمدن؟
والحال أن استعراضًا مفصلًا لما تأتي به «المنار» كنوع من الرد المنطقي على مثل هذا السؤال المفصلي، يضعنا أمام محمد رشيد رضا وهو يقول إن «تعاليم الإسلام وقواعده الخلقية كان من شأنها، إذا ما فهمت على حقيقتها وطبّقت بكاملها، أن تؤدي إلى الفلاح، لا في الآخرة وحسب، بل في هذه الحياة الدنيا أيضًا. الفلاح في جميع أشكاله المعروفة: القوة والهيبة والتمدن والسعادة. أما غذا لم تفهم على حقيقتها أو لم تطبق، فإنها تفضي إلى الضعف والفساد والبربرية. وهذا ينطبق ليس على الأفراد وحسب، وإنما على الجماعات أيضًا. فالأمة الإسلامية كانت قلب العالم المتمدن حيث كانت حقًا إسلامية، أما الآن فالمسلمون متخلفون في مضمار العلم والتمدن أكثر من غير المسلمين». فما الحل؟
الحل طبعًا -يقول محمد رشيد رضا على صفحات «المنار»- في الإصلاح الديني الذي لا بد له أن يتلازم مع الإصلاح المدني. والإصلاح الديني، كما يفيدنا رضا، لا يحصل «بعمارة المساجد والكتّاب، ولا بالإنعام على بعض الشيوخ أو غيرهم بالرتب والرواتب والأوسمة، بل لا بد في ذلك من أعمال تناط بالحكام، وأعمال تطلب من العلماء وأصحاب الوظائف الدينية». ولهذا الإصلاح كما يراه رضا شروط أساسية لا بد منها. فما هي هذه الشروط؟ إنها عديدة وأولها «جعل الحكومة شورى تقيم العدل والمساواة بين الرعية وتختار لإدارة شؤون هذه الرعية، موظفين أكفاء مخلصين». وهذا الشرط يقودنا، في رأي رضا الذي لا شك في أن معظم النهضويين والإصلاحيين كانوا يوافقونه عليه، إلى وضع يجعل الحكام أجراء لدى الأمة، لا سادة لها مستبدّين عليها. والشرط الثاني وهو مرتبط بالأول، يقوم في «تغيير أفكار الأمة وأخلاقها بنشر العلوم والآداب الاجتماعية والأخلاقية»، ما يمكننا اليوم ترجمته بنشر الوعي والدخول إلى حقائق العصر والتمسك بإنجازاته. ويستطرد رضا هنا؛ إذ يخوض في الشرط الثالث، أن «هذا كله لا يتم إلا بفضل المصلحين. حيث إن الباحثين في العمران والمشتغلين في شؤون علم الاجتماع، يرون أن كل إصلاح وجد في العالم، إنما كان بواسطة رجال فاقوا شعوبهم في بعد النظر، وصحة الفكر، وعلو الهمة وقوة العزيمة والإرادة، فتقدّموهم وارتقوا بهم إلى المكانة العالية والمنزلة السامية». وهنا، ولكي لا يفهم من كلامه أن مهمة الإصلاح منوطة فقط بالحكام من دون غيرهم، يقول رضا مستدركًا: «إن الحاكم مسؤول والشعب مسؤول، فإذا قصّر الأول فلا ينبغي أن يقصّر الثاني». والشعب لكي يعمل ويكون فاعلًا، لا بد له من جمعيات سياسية، دينية وخيرية وعلمية، لأن مثل هذه الجمعيات (الأحزاب بمعنى أكثر عصرية للكلمة) هي «السبب الأول والعلة الأولى لكل ارتقاء، بها صلحت العقائد والأخلاق في أوروبا، وبها صلحت الحكومات وبها ارتقت علومها وفنونها».
والحال أن محمد رشيد رضا، الذي اعتبر نفسه دائمًا رجل عمل بقدر ما هو رجل تنظير، حاول أن يطبق نظريته هذه غير مرة، عبر تأسيس الجمعيات «التي تنطق باسم الشعب وتضم القادرين من أبنائه»، وفشل في ذلك. غير أن خطابه يبقى أساسيًا في هذا المجال، لأنه -في حقيقته – كان يحوي أول دعوة تنويرية حقيقية إلى ما يمكن أن نطلق عليه اليوم اسم «التعددية الحزبية». فإذا أضفنا إلى هذا، أيضًا دعوته إلى نوع من «السلفية» يعيد إلى الإسلام رونقه الحضري والأخلاقي، ندرك كم أن هذا المفكر كان يعتبر «الجمود والتقليد شرّين في حد ذاتهما». وكم أن فكره الإصلاحي كان، في جانب أساسي منه على أية حال، وربما هو جانبه المبكر، في عصر «المنار» على الأقل، كان متقدمًا وتنويريًا، إذ إنه كان يرى أن خطر الجمود والتقليد، أشد هولًا في وقت تجابه «الأمة الإسلامية وبلدانها، مدنية جديدة تجعل حاجتها إلى قوانين جديدة أشد». حيث أن صاحب «المنار» كان يرى بعد كل شيء أن «على الإسلام أن يتحدى العالم الجديد، وأن يقبل بالمدنية الجديدة بالمقدار الكافي لاستعادة قوته». و «الجهاد» في رأي رضا (الذي هو أوّلًا وأخيرًا مجاهدة النفس لإصلاحها والعلو بالهمم، لا إنفاق الجهد والوقت على منازلة الآخرين واقتلاعهم وقتلهم) لزام على المسلمين، لكنهم لا يمكن أن يؤدوه ما لم يصبحوا أقوياء. وهم في هذا العالم الحديث لا يمكنهم أن يصبحوا أقوياء ما لم يقتبسوا علوم الغرب وفنونه وتقنياته. «ولما كان الشرط اللازم للقيام بواجب، هو نفسه واجب، ترتبت على المسلمين دراسة علوم العالم الحديث وأساليبه».
ومحمد رشيد رضا وُلد العام 1865 في قرية بالقرب من مدينة طرابلس في شمال لبنان. ولما كان ابنًا لعائلة ذات تقاليد علمية راسخة، انصرف إلى الدراسة منذ طفولته، واستفاد لاحقًا من التربية الحديثة وتعلّم التركية والفرنسية، ثم بدأ شغفه بالقراءة والعلم متأثرًا بكتابات الصحافيين والمفكرين «الشوام» الذين كانوا نزحوا إلى القاهرة. ثم كان لاكتشافه أفكار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، أثر كبير في حياته وانعطافته الفكرية، وقرأ أعداد «العروة الوثقى». أما الأمر الحاسم فكان التقاءه بمحمد عبده حين زار هذا الأخير طرابلس. فصار واحدًا من تلاميذه وبدأت حياته الفكرية الحقيقية التي ستتواصل حتى رحيله في العام 1935. وهو غادر سورية إلى القاهرة في العام 1897، حيث استقر هناك ليصدر في العام التالي العدد الأول من مجلة «المنار»، التي سرعان ما أصبحت – وفق ألبرت حوراني – «منبرًا للدعوة إلى الإصلاح وفقًا لمبادئ محمد عبده. وظل رضا يصدر «المنار» حتى وفاته. وهو إلى «المنار»، أصدر الكثير من الكتب، مثل «الوحي المحمدي» و «محاورات المصلح والمقلد» و «الخلافة»، كما شارك في معظم المؤتمرات الإسلامية والعربية وكتب في أدب الرحلات. وخاض مساجلات صاخبة مع معظم مفكري جيله.