اتخذت الثورة المضادة ممثلة في عملية الكرامة العسكرية من الشرق الليبي المعروف تاريخيًا باسم “برقة” مسرحًا لعملياتها مستندة على طغيان النزعة الجهوية المتمردة على السلطة المركزية، وهو التمرد الذي مر بأطوار متعددة إلى أن استقر به الحال إلى التلويح بالانفصال والدعوة إلى التقسيم.
ولأن المنطقة الغربية من البلاد تحتضن أضخم قوة عسكرية مؤيدة لثورة فبراير فإنها قد استعصت على الثورة المضادة، رغم المحاولات المتكررة التي كان آخرها هزيمة لواءي القعقاع والصواعق المؤيدين لعملية الكرامة وطردهما خارج طرابلس.
سبب رئيسي آخر جعل القائمين على مشروع الثورة المضادة يبتدئون حملتهم من الشرق الليبي، وهو خلو المنطقة الشرقية من قوة عسكرية ضاربة مؤيدة للثورة كأختها في المنطقة الغربية.
نستثني من ذلك بعض ما تبقى من قوة للثوار في مدينة بنغازي تعرضت لعدة ضربات ممنهجة عرفت إحداها بحادثة الدرع التي قضى فيها أكثر من أربعين متظاهرًا خرجوا يهتفون ضد ما أسموها المليشيات المسلحة إثر تعبئة إعلامية انتهجتها بعض الفضائيات المحسوبة على الثورة المضادة، ولا تزال هذه القوة تحول دون استيلاء قوات عملية الكرامة على المدينة.
علاوة على ذلك فإن مدينتي بنغازي ودرنة الواقعتين في الشرق الليبي كانت تمارس على أراضيهما أحداث اغتيالات وعنف؛ مما جعل مناخ المنطقة الشرقية مهيأً لاستقبال الثورة المضادة واحتضانها وجعلت الرأي العام ينجر خلف الشعارات البراقة التي تتستر خلفها.
ورغم تغول الثورة المضادة في دول مجاورة اجتاحها الربيع العربي حتى أكملت مسيرتها في بعضها وكشرت عن أنيابها وغدت متأهبة للانقضاض في دول أخرى كانت انطلاقة الثورة المضادة في جزء من البلاد دون الجزء الأكبر الذي يضم العاصمة ومؤسسات الدولة إعلانًا للفشل الذريع الذي مني به القائمون على هذا المشروع.
وإن بدا لنا أن هذا المشروع قد حظي بدعم إقليمي ودولي حتى أيقنت عناصره المحلية أنه سيتوج بوصولهم إلى سدة الحكم، مثل أي مشروع انقلابي آخر، فإن الواقع الذي فرضته قوى الثورة في غرب البلاد جعل الغاية من هذا الدعم القيام بمهمة معينة يراد بها خلط الأوراق وإعادة تشكيل الخريطة السياسية للبلاد للوصول إلى صيغة للحكم يجري التحضير لها من خلال الحوار الأممي الذي ترعاه بعثة الأمم المتحدة في ليبيا.
انطلقت الثورة المضادة في شرق البلاد ضعيفة هشة، إلا أنها سرعان ما استوت على سوقها بعد أن انشقت المؤسسات الأمنية والعسكرية، وأعلنت في بيانات منفصلة دعمها لعملية الكرامة، في الحين الذي توفرت لها حاضنة اجتماعية وفرتها القبائل التي دفعت بفلذات أكبادها وقوداً للمعركة وعقدت ملتقيات أيدت فيها العملية وقائدها حفتر.
ومما زاد من صلابة عودها انتخابات مجلس النواب المنحل التي أفرزت نتائج متناغمة مع الثورة المضادة، فقد استقر البرلمان في مدينة طبرق الحدودية مع مصر مخالفًا الإعلان الدستوري الذي ينص على انعقاده في مدينة بنغازي متجاوزًا عرف الاستلام من المؤتمر الوطني العام، وأعطى الثقة لعبد الله الثني الذي شكل حكومته واتخذ من مدينة البيضاء مقرًا لها، وقصر الجسمان جهودهما في جلب الدعم الكامل للعملية والتمكين لقائدها الذي استحدث له منصب القائد العام للجيش الليبي.
ورغم أن البرلمان المنحل قد أضفى الشرعية على عملية الكرامة وأصبحت من الناحية الإدارية والقانونية تابعة له فإن الواقع يقول بأنه واقع تحت انقلاب عسكري؛ حيث يشتكي أعضاء من البرلمان من تهديدات تطالهم حين انتقادهم العملية أو شخص قائدها في الوقت الذي يمنع فيه رئيس الحكومة عبد الله الثني من السفر أكثر من مرة، ويختطف فيه وزراء من الحكومة المؤقتة واقتيدوا نحو مدينة المرج التي يتخذ منها قائد العملية حفتر مقرًّا لإدارة عملياته العسكرية.
مضى سكان المنطقة الشرقية في تأييد العملية التي تدعي محاربة الإرهاب ورأوا فيها حلاًّ للأزمة السياسية والأمنية التي تعيشها البلاد في الحين الذي صورت فيه الفضائيات الداعمة للثورة المضادة أن مهمتها ستنتهي في غضون أيام، لكن ما لم يدر في خلد الأكثرية أن الحرب ستطول وأنها منذ السنة ونصف السنة تراوح مكانها مخلفة الدمار والخراب الذي أتى على كامل أحياء بنغازي وتسبب في نزوح سكانها إلى المدن الليبية الأخرى.
ولأن بنغازي هي شريان حياة المنطقة الشرقية فقد تفاقمت الأزمات الإنسانية التي تسببت في شدة شتاء سنة الحرب الذي عد من أشد الشتاءات التي مرت على المنطقة، وتبعا لذلك خارت قوى الناس وفترت عزائمهم وانخفض التأييد الشعبي للعملية ورأوا في الحوار السياسي أملاً ومخرجًا فاستبدلت دعوات الحوار والصلح والتسامح بدعوات الحث على الحرب والقتال والتصفيق للعمليات العسكرية.
نتج عن كل ذلك بدء مرحلة الانقسام في معسكر الكرامة، حيث تفاقمت التصدعات والانشقاقات داخله، وأصبح انتقاد العملية وقائدها أمرا عاديا ولا سيما من قادة محاور القتال الذين استشعر بعضهم ببداية مرحلة الإبعاد والإقصاء وتصفية الحسابات التي تصحب حركات الانقلاب العسكري بعد استوائها، ففي الوقت الذي ألبست فيه جرائم العملية وفظائعها لبعض القادة كان البعض الآخر رهن الاحتجاز بعد أن استخدموا في مرحلة التحضير للعملية والقيام بأدوار مختلفة كان أبرزها بعض عمليات الاغتيال والتفجيرات.
ثمة عامل آخر كان سببا في حدوث الانشقاقات المتعاقبة يرجع إلى تركيبة معسكر الكرامة المتكونة غالبية قوته العسكرية من مجموعات جهوية تتخذ من الولاء للمنطقة الشرقية وجنوحها نحو الانفصال منطلقا، فقد استشعرت هذه المجموعات باستخدامها من قبل القائمين على مشروع الكرامة عندما كان يرفض قائدها حفتر الذي ترجع أصوله إلى المنطقة الغربية التلفظ بكلمة (برقة) التي تعتز بها هذه المجموعات وتحاول جاهدة أن تحيي هذا الاسم وتجعل منه انتماء.
ولأن العناصر العسكرية التي استخدمت في العملية ليست عناصر عسكرية منظمة كعناصر أي مؤسسة عسكرية، فهي متنوعة بين عسكريين سابقين متقاعدين أو عسكريين معطلين في زمن النظام السابق أو متطوعين من بعض القبائل والعشائر يحركهم دافع جهوي أو قبلي، فإنها سرعان ما تفككت بفعل هذه الانشقاقات وانقاد كل منها لقائده أو تبنى موقف قبيلته، فتكونت عناصر مختلفة الولاءات يتعذر علينا أن نضفي عليها صفة قوات الجيش الليبي.
تبعًا لذلك كله تهلهلت قوات الكرامة وسرعان ما بدأت تصفية الحسابات داخله بين ملاحقة لقادة منشقين من قبل قيادة العملية والمحسوبين عليه أو سحب بعض القادة المنشقين قوات تابعة لهم من محاور القتال؛ الأمر الذي أحرز تقدما لصالح مجلس شورى ثوار بنغازي في مختلف المحاور.
في خضم هذه الأحداث كانت المفاجأة قد أطلت من مدينة درنة المحاصرة من قوات عملية الكرامة التي أعلنت مرات عديدة أن عملية تحرير درنة على وشك البداية.
كانت المفاجأة في نشوب الحرب في المدينة بين مكون مجلس شورى ثوار درنة والمنتسبين لتنظيم الدولة الإسلامية المسيطرين على المدينة عندما قاموا باغتيال قياديين في المجلس، حيث تمكنت قوات مجلس شورى ثوار درنة من طرد تنظيم الدولة خارج المدينة ودحر الإرهاب منها، وبدأت مؤسسات الدولة في العودة إلى المدينة.
وقد تسبب ذلك في إحراج القوات التي تحاصر المدينة منذ سنة، فما عجزت عنه هذه القوات في سنة فعله أبناء المدينة وثوارها في بضعة أيام، وبدأ السكان يتوصلون إلى قناعة عجزوا عن تفسيرها فترة من الزمن تختصر في أهمية أن يحاول أي مشروع انقلابي تقليدي إبقاء شماعة يطيل بها أمد بقائه وشرعيته.
غير بعيد من درنة يبرز ثوار مدينة طبرق والبيضاء الذين آثروا عدم دخول المدينتين في حرب كما حدث في مدينة بنغازي، فقد أعلن ثوار طبرق منتسبو كتيبة عمر المختار المكلفة بتأمين الحدود مع مصر وإحدى كتائب الثوار إبان حرب التحرير النفير العام حينما رأوا أن البرلمان المنحل قد مكن لعناصر من النظام السابق وزاد من جرأتهم أن تظاهر بعضهم في ميدان المدينة مطالبين بعودة سيف الإسلام القذافي للحكم بينما طالب آخرون بمجلس عسكري يحكم البلاد.
دعاهم ذلك إلى طرد هذه المجموعات من مدينتهم معلنين الاستيلاء على الميدان، كما أعلن ثوار البيضاء منتسبو كتيبة علي حسن الجابر إحدى أهم كتائب الثوار أثناء الثورة بيانا تمسكوا فيه بمبادئ الثورة رافضين الحكم العسكري معلنين حربهم ضد الإرهاب والتطرف مهما اختلفت مرجعيته، والتحق ثوار المدينتين بثوار درنة للقضاء على آخر معاقل تنظيم الدولة الإسلامية في ضواحي مدينة درنة وحققوا بالتحامهم تقدما واضحا على تنظيم الدولة مما جعل قوات الكرامة تسعى إلى عرقلة المساعدات والذخائر المخصصة للثوار، وأثار ذلك تساؤلات لدى الرأي العام حول استفادة قوات الكرامة من بقاء تنظيم داعش.
أما في الجنوب الشرقي حيث تقع مدينة الكُفْرة التي تتعرض لهجوم مستمر من قبل قوة من حركة العدل والمساواة السودانية المتحالفة مع اللواء المتقاعد حفتر بهدف الاستيلاء على المدينة التي اتخذ سكانها من قبيلة “زوية” موقفا سلبيا من عملية الكرامة منذ انطلاقها، فقد استطاع ثوارها وأبناؤها دحر قوات العدل والمساواة أكثر من مرة.
كل هذه الأحداث التي مرت -على اختلافها- على أرض المنطقة الشرقية في السنة الماضية قد غيرت من الخريطة العسكرية للمنطقة وأنذرت بواقع جديد لها ليس فيه مكان لقوى الثورة المضادة التي بدأت في الانهيار معلنة عودة جديدة لقوى الثورة التي علمنا التاريخ أنها قد تمر بانتكاسة لكنها لا تلبث إلا أن تعود وتولد من جديد.
قبل سنة كانت انتكاسة الثورة في ليبيا وها هي ليبيا الآن أمام موجة ثورية ولدت من جديد يصحبها وعي جديد ستسقط دونه كل أقنعة الثورة المضادة.